الرجل الذي تحول لعصفور : قصة خالد السيد علي
الرجل الذي تحول لعصفور
خالد السيد علي
________________
إلى أعلى قمة.. إلى ما بعد حدود البصر والعقلانية.. إلى خيال واسع لا قيود عليه.. شرد بكل حواسه وهو واقف في الشرفة حتى الفجر وهو مازال شارداً..
استرخت كل أوصاله.. جلس يبحث عن الذات الغائبة والحياة التائهة .. ماذا فعل في حياته.. ماذا اخذ منها وماذا أعطاها.. هل حقق كل أحلامه أم انطوت في متاهات الحياة، وانهالت علامات الاستفهام حول سنوات عمره حتى تبعثرت وكأنه يخرج بجسده كإسقاط نجمي..
تحلق في عنان السماء.. تأمل النجوم المرصعة.. تذكر أمنيته التي كانت تراوده وهو طفل.. لم يكن حلماً بقدر ما هي أمنية طفل صغير.. لماذا لم يصبح عصفوراً.. للحظات قليلة.. يعش الخلاء.. يعش الصفاء.. يستنشق الهواء دون شوائب دنيوية.. يكون له الحق في بناء العش في أي مكان.. يبحث عن رزق اليوم لا يحمل همًا للغد..
وكانت هذه الليلة..
كأنه بجناحين ومنقار.. تحلق وتجوس في كل مكان للبحث عن الذات، وانطلقت السعادة من أسفل قمة في قلبه إلى أعلى قمة وهو يزقزق ويرفرف بين الطبيعة الخلابة والأزهار المتناثرة لم يفكر في أي شيء إلا أن يظل عصفور إلى أن تنتهي أحلامه..
عاش مع العصافير والطيور الأخرى وكأنه فعلاً من جنسهم.. سمع وأصغى لروايات شتى لم يسمعها من قبل في عالم الإنس.. ملكته الغبطة بشدة، والحب تسرب إلى كل أساريره.. وبات واضحاً أنه في عنفوان الفرحة..
يالها من دقائق ذات ألق منذ انصرام الليل وشقشقة الشمس التي أعلنت على الخلائق موعد يوم قشيب..
هاج ورفــرف وصار يغني بأصوات متباينة تعنى الحبور الشديـد.. كانت فرحته تفوق الخيال بحركاته المتوازية مع الطيور في عنان السماء.. وفوق الغصون.. وبين الزهور.
وما أجمل النسمات وهم يشكلون ويعرضون استعراضاتهم المتناسقة.. المتوازية .. كأنهم في احتفالية أو مهرجاناً لرقصات ولكن في الفضاء.. سالت دون توقف عبرات الضحك.. كلما صعد هذا العصفور مع رفاقه إلى دنيا السماء، وهبط إلى دنيا الأرض..
لم تمر لحظات وقد اقترب الأناس من بدء أشغالهم.. همت الطيور إلى النيل مرة أخرى ثم إلى حيث المطلق وعدم القيود.. علت الصوصوة ..غردوا..
ولكن فجأة صرخة الفرحة والبهجة الهائجة.. هاهو الفزع القريب.. والوجل المريب.. انطوت صفحات البسمة الغامرة.. تحجرت العيون..
وانهارت القلوب البيضاء في البكاء عندما سمع الجميع صوت طلقات الرصاص من كل الزوايا وكأن هناك حرباً قد اشتعلت تواً.
بوابل من الرصاص قفزت للعنان.. تناثرت الطيور.. افترقوا.. البعض اختفى بين الأشجار.. والبعض رحل بعيداً عن الأبصار .. والآخرون تحلقوا في العنان تائهين إلا تلك الرجل العصفور الذي أصابته طلقة غاشمة من غريم الحرية.. غريم الطبيعة.. أهل الشر.. سقط بعدها أرضاً على ضفة النيل ..
وسقطت تواً عبرات الحزن العميق، وراح ينزف، وينزف بلا انقطاع.. وهاهم الرفاق الهاربين من بوابل الرصاص قد التفوا حوله يقولون له تباعًا:
– لا تحزن فحريتنا لها ثمن.. طلقة الغريم في أي لحظة.. طالما اخترت أن تكون حراً.. فلا بد أن تواجه عدوك.. فهناك عدو للحرية يتربص بك؛ فهو ليس قوياً بل جباناً يخشى عصبتنا ولكن الفزع فرقنا.
وكانت الشرفة..
عاد الرجل إلي جنسه البشري.. شارداً.. متأملاً الأحداث..
تمنى أن يكون عصفوراً.. تمنى أن يحطم سور الخوف ويثور على حياته وينطلق.. تمنى أن ينال شرف فتح أبواب الحرية لنفسه ولو مرة واحدة في عمره، ولكن هيهات نزف حتى فارق الحياة.!