محمد عطية يكتب مختارات من سميح القاسم لجابر بسيوني
“بكفاحي
بدمائي النازفات
من جراحي
سوف أستل صباحي
من نيوب الظلمات
همتي الساحة والصدر سلاحي”
بهذه السطور من قصيدة “عناد” المعبرة ـ كنموذج ـ عن العزم والثبات، وشموخ الجرح الأبي، وعدالة القضية، يتوغل الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل “سميح القاسم” مع كلماته المعبرة، والمختزلة للشخصية المجاهدة في هذه الكلمات القليلة الموجزة، فمن زخات أمطار القصيدة، ينبع الفيضان الكاسح الذي يضطرم به الصدر والقلب، معبرا عن مدى المعاناة المختلطة بالقهر وصور الدم والقتل المستباح، وهتك العرض على مستوياته المتعددة.. وتتجلى الصورة الشعرية في قمة نضوجها واختزالها في معنى الهمة كساحة فسيحة لاستعادة الكرامة والعرض، والصدر الثائر كسلاح باق، حتى وإن غادرته كل الأسلحة المادية.
وبين هذه المعاني المجتمعة للثورة، والغضب، والحماسة، تتلاقى هذه المختارات التي انتقاها الشاعر المصري جابر بسيوني، وقدم لها بدراسته التحليلية ـ كمدخل ـ في طبعة سلسلة آفاق عربية، التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر، بقوله: “وقد لجأ الشاعر إلى التعبير عن قضيته في قوة وشموخ من خلال أنساق لغوية تعددت فيها التراكيب والمفردات المكتنزة الموحية ذات الدلالات المؤثرة، كما في قوله: كان في القدس صغار ينشدون/ راجعون.. راجعون.. راجعون”، بحيث تمثل القضية الفلسطينية له ـ كأحد كبار المجددين في حركة الشعر العربي ـ حجر الزاوية في إبداعه، والذي يعايش القضية بروح المقاتل، ولكن بقلمه وقلبه ووعيه، ووطنيته؛ فنرى ـ بدايةً ـ في هذه القصيدة البليغة المكثفة بعنوان “إصرار” هذا المعنى المتكامل للثورة والغضب المتمرد على وجه الحقيقة المر الصعب، والمقاومة الشرسة بتهيئة الساحة للمزيد من الجهاد والنضال، وتعميق روح الانتصار لحق الوطن، الذي يشغل مناط حلم كل مثقف ثائر، مخلص لقضية وطنه..
يا جبال الثلج التي حطمـــتها … في ضلوعي عواصف الأقدار
لا أبالي مهما تكدس ثلــــج … فضلوعي مقــدودة من نار
وفؤادي لا يســـتكين لرزء … فهو نار عنيــــدة الأنوار
أنا أمشي إلى أعالي المعـالي … وأنيــر الدروب للأحــرار !
تبحر قصائد سميح القاسم مع تضاريس الوطن، وتتخذ منها منطلقا للشدو بأشجانه وأتراحه، وتمثل الأرض ومترادفاتها المكانية عاملا أساسيا في إبداعه المرتبط بها، والملتحم بقضاياها، فتبرز قصائد تحمل اسم المكان كمحرك دلالي، وكمحرك نحو طرق باب القصيد، كـ “سيرين” القرية الفلسطينية الصغيرة التي بيعت بثمن بخس، فيقول منددا بمن باع الوطن متمثلا في هذا الجزء منه، فالجزء من الأرض ـ هنا ـ يطل لكي يتسع مدى معناه إلى معنى الوطن، فكأن ما يحدث بالجزء قد صار مقياسا ودربا لما يحدث بالوطن/ الأرض:
يقال كانت قرية صغيرة صغيرة
على الحدود بين باب الشمس والمعمورة
يقال بيعت مرتين،
مرة برطل زيت
ومرة بقبلة عبر الزجاج
وأزقة فلسطين التي يعيث فيها الحطام، تحمل تاريخ الاعتداء والاغتصاب، مع ذكريات أطفال عام النكبة، لكن القلب دوما يعيش المقاومة، والعزف على أوتار العزيمة، ودق طبول الجهاد دون الانفصال عن التاريخ والهوية التي يبحث عنها كل مجاهد لالتصاقه الشديد بمعنى الوطن ماديا ومعنويا، يُسقط معه دلالة التاريخ الزاخر، والشاهد على مراحل الكفاح والنضال الذي لا تني تنتهي فصوله، حتى تبدأ فصول جديدة أشد وطأة تحمل إرث الألم والكفاح؛ فيقول أيضا في قصيدة مكثفة بعنوان “مازال”
دم أسلافي لم يزل يقطر مني
وصهيل الخيل ما زال، وتهليل السيوف
وأنا أحمل شمسا في يميني وأطوف
في مغاليق الدجى.. جرحا يغني !!
لكنه لا ينفصل أيضا عن حاضر أليم يؤرخ له بحياة المستضعفين من أم ثكلى، وأبناء مشردين، ودموع وقنابل وحطام، فيقتفي آثار اللعنة التي أصابت الوطن وأبناءه المفجوعين فيه، ويؤرخ.. يتذكر، جاعلا الدم والموت ومعاول الشر والعدوان نبيا لزمن ذاته موسوم بارتداده عن الحق والعدل، بالعار والخذلان، ويذكِّر بأن:
ثمة أطفال في صلب أمير العرب
وأحلام في صلب الغد
لكن الرشاش الرشاش الرشاش،
نبي الزمن المرتد
يلقي خطبته
وتصفق غيلان الموت!
جاعلا من الموت والدمار عنوانا لافتا لكل ما يحدث على أرض النكبة والهوان، والتي يحاول معها بمزامير شعره، في نفخ الروح إلى الهمم حتى لا يطالها ذات الإحساس الأليم بالموات، وهي ما زالت على قيد حياة، وإن كانت تعوزها حياة أخرى بالمعنى الصحيح. لكنه يستنهضها دوما بالدعوة إلى الكف عن الركون إلى إرث التعظيم والتمجيد، فيقول:
لا تمجدني بتمثال رخام ونشيد
فأنا أوثر من بيت الأناشيد الحزينة
حزن أمي..
لا تمجدني بغار وطقوس ملكية
جبهتي تؤثر من بين الأكاليل الطرية
كف أمي..
لتبرز الأم كوطن، وليختزل الوطن في الأم، لتعانق أبياته هذا التوحد وهذا التمازج الشجي الذي يلقي بعوامل الحنان، والاشتياق لحرية الوطن، المشحون بالشجن مع ماهية الوطن الذي صار رمزا للأمومة، وصارت الأمومة معادلا له، ومرادفا من مترادفاته، ومواز لمشاعر افتقاد لرمز القوة والمدد المتمثل في صورة الأب/ الرمز الشهيد، الذي يحمل دوما عبء توريث البطولة والشهادة كما يحمل عبء توريث الثأر، واجتراح الألم، في قوله:
أبي الغالي/ تطلع مرة أخرى/ لتبصر مرة أخرى/ وهبني قدرة الشهداء!
تتميز المختارات باتساع دائرة انتقائها لنماذج القصائد التي تمتد على مدى تاريخ المنجز الشعري لسميح القاسم، وتتوغل لتعانق كل المواقف التي يتخذ منها الشاعر منطلقا لتفجير طاقاته الشعرية، من أجل تفجير قوى الشحن والصمود، لأبناء القضية المنغمسين في نيرانها الحارقة المبيدة، والتي يستنطق فيها الجماد محدثا، ومحاورا من منطلق فلسفة حياة جبلت الشاعر والوطن على هذا التعايش مع مفردات الحرب، ودلالاتها، فيقول مخاطبا الرصاصة التي تخترق صدور الآمنين:
من علم القنَّاصة/ أن يثقبوا الكتاب
من علم القنَّاصة/ أن يثقبوا رسائل الأحباب/ وصور الأحباب
من علم القنَّاصة/ أيتها الرصاصة؟!
لتتجلى حرقة الألم المختلطة بذات الفلسفة المتآلفة مع اتساع الصورة الشعرية؛ لتحتوي هذه التفصيلة الملتحمة بمفردات الكتاب، ورسائل الأحباب، وصور الأحباب، التي قضت على آمالها رصاصات العدو الغاشم والعدوان، وقطَّعت أوصال العلاقات الحميمة، ومزقت نياط القلب.. حسرة تنطق بها براعة الكلمة، وعمق الفلسفة التي نتجت من معايشة حياة يحدوها القهر وغوائله المتشعبة، المتسرطنة في خلايا الوطن.
لترتقي الدعوة ـ في مقام آخر من مقامات وجده وحيرته ولواعجه ـ بطلب الغوث من العالم أجمع، بلغة نداءات الجماد المادي/ الأرض بروح الوطن المسلوب، فيقول في أحد مزاميره:
من هنا/ من مطهر الأحزان/ في الأرض الكليمة
أيها العالم،/ تدعوك العصافير اليتيمة
من هنا/ من غزة الثكلى/ ومن جينين،/ والقدس القديمة
مجسدا هذا التآلف الحزين، الذي صبغ به المحتل الغاشم كل شيء الأرض مادة وروحا، وأضعف الكائنات متمثلة في العصافير، بعد أن صار الإنسان في هذا الوضع أهون على المعتدي من تلك العصافير، ليجسد الشاعر المأساة بصورة أشد وطأة، وأكثر حدة، واقترابا من سوداوية الموقف وتأزمه على المستويين النفسي والمادي، ليتجاوز هذا النداء الدنيوي إلى نداء إلهي، بعدما عجز العالم عن وقف ممارسات الحقد الأعمى والبطش القاتل، في مزموره لأطفال العالم، وقوله:
يا إله الانتقام!
يا إله الانتقام اظهر..
ورد الخيلاء!
رد من يصلب في القدس السلاما
كيف لا يسمع من كون سمعا للبشر؟
كيف لا يبصر، من سوى البصر؟
هللويا!
لا تفارق قصائد “القاسم”، ميدان المعركة، ولا مستجدات الحوادث، وما أكثرها، على مدى تاريخ النزاع والنضال، وبحس الشاعر المبدع يتقلب مع كل أضلاع القضية على جمر نيرانها المتوهجة، وتصدمه كما تصدم أبناء الأمة أنواء الحرب ونذر الخراب، وهو إذ يقف على أطلال النكسة مترنما بناي كلماته المحترقة بنارها، يقول في ريبورتاجه عن حزيران/ يونيو، الذي يسمه بسمة (العابر)، اختزانا لمعنى الأمل المتواري دوما خلف كل ما هو صاعق ومدمر بأن النصر لابد آت.. تحمل كلماته عبق الناس وهموم الناس وأحزان الثكالى والمشردين، وغمة اقتناص المزيد من أرض الوطن، واكتمال وقوعه في قبضة المغتصب:
قال ليّ الراوي الذي أصبح شعبا في جسد:
“باسم مليون شريد مرة أخرى،
ومليون ذراع في السلاسل
باسم طفل، مرة أخرى تيتم
وعجوز حرموها صفنة الذكرى
وتاريخ السنابل
مرة أخرى،
ومنديل صبية
حبها نصب على قبر مقاتل…….
إلى أن يقول ….. باسم شعبي أتكلم!”
ويعلو دائما صوت المناضل، بالرغم من كل المآسي والخطوب، ولا تموت القضية، ولا يخبو صوت مجاهديها، فيقول بصوت شعبه، المتجسد في ذات الشاعر الذي اختزلته الخطوب ليصير رمزا، وصوتا عاليا متوحدا بهذا الجسد في رائعة تحمل اسم “قتلي محض باطل” كما تحمل موروث الحماسة والإباء من تراث لا يجحده إلا حاقد:
طمئنوا الغدر المبيَّت/ أن صوتي ليس يُكبت/ وعلى موطيء نعلي،/ كل صخر يتفتت
طمئنوا النار الغبية/ أن ناري أبدية/ وعلى حضن رمادي/ تولد الشمس الوفية!
ويقول مستنفرا الهمة، والحماسة، والنهوض من كبوة الخذلان المقيت داعيا، ومناشدا، بحق هذه الأرض على النفوس، باستجماع العزم والوحدة بلا تفرق من أجل هذه الأرض وهذا الوطن.. هي الأرض التي خرج من ثراها معنى الكفاح والتصدي، وإلى أرضها نزفت دماء أبنائها تروي أشجار عزها المستكين إلى حين النصر، وتسطر آيات التضحية للوطن الذي يستحق كل التضحيات، فهو هنا ينادي مختزلا براعة الكلمات والسطور، مشرعا لفضيلة الوحدة والالتحام والقيام من نزاع الفرقة، إلى وفاق المسعى، وكوصية، أو حل سحري، في قصيدته البليغة “النفير”
يا الهاربين من الضياء.. النادبــين على الضياء/
لن تجعلوا دمع التماســـــــــيح الغبية في البكاء
فاستمرئوا أصفادكم.. أو فانضووا تحت اللواء/
أرض الكفاح مهيبة.. شرف الكفــاح لمن يشاء
محمد عطية محمود