أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

منال رضوان تكتب سيرة الغريب ل.. ولاء أبو ستيت طقس الكتابة كطريق إلى الله

 

في نصوص “سيرة الغريب”للكاتبة الصحفية والناشرة ولاء أبو ستيت الصادرة حديثا عن دار أم الدنيا  للدراسات والنشر والتوزيع تنصت الكاتبة فيها، إلى النداء العميق الآتي من جهة الروح، الكتاب يفتتح مسارًا نحو الداخل الإنساني عبر تسعة عشر نصًا تحمل عنوانات مختلفة كمراوغة القهوة، الكيميائي الفيلسوف، غريب وغرباء، حيث تتخفف النفس من زحامها، وتتحول الكتابة كما الحياة كلها إلى رقصة طقسية بطيئة تشبه دوران أحد دراويش المولوية المرسوم على غِلاف العمل، كل صفحة من تلك نصوص تحلّ إزارها عن ألمٍ قديم، وكل فقرة تقترب من يقينٍ مؤجل، كأن السطور نفسها تسعى إلى الله في تسليم واعٍ راضٍ، مترنّمة كاتبتها بما لا يُقال.

النص عند ولاء أبو ستيت هو النص المُعاش؛ تتناثر النداءات فيه مثل صدى تغلفه قبة من نور، يتردد بين “أنا” و”أنت”، حتى تتلاشى الحدود بين المتكلم والمخاطب.
ذلك الـ”أنت” الغامض الحبيب، الغائب، المُطْلق المتمثل في روح أخرى هائمة كمرآة للنفس، وهي تتحرر من أوهامها، وتخطو في درب الكشف.

الكاتبة الصحفية ولاء أبو ستيت

تكتب ولاء سيرة الغريب كما يتنفس الصوفي في خلْوته، نَفَسٌ طويل، شفاف، يتكىء على السيرة الذاتية حينا وعلى السير الغيرية في أحيان أخرى، ويتأمل اللغة كطقس عبور؛ حروفها تتوهج من الداخل، مشتعلة برغبة الفهم، لا برغبة الشرح أو النصح والإرشاد الأجوف
في لحظات كثيرة،
من نصوص كقبس السيرة ومع كل نهاية بداية جديدة و يا مسافرًا عبر الأوطان، يتعمق الإحساس بالتجربة الكتابة كإنشاد متواصل، تؤكد أن الحياة لا بد لها وأن تستمر لتفتح أبوابًا على سفرٍ لا نهاية له، سفرٍ نحو الذات الأولى، تلك التي نُسيت تحت ركام اليومي والزائل والمعثر، لتنم عن أن الاغتراب هنا ليس وحشة، بل هو الطريق نحو الأنس الباقي، نحو العرفانية التي تكتشف أن الغياب هو شكل آخر من أشكال حضور.

في ختام الرحلة، تقدم النصوص وكأن القارئ يخرج من صفحاتها وقد دار دورة كاملة حول قلبه، وعاد ليجده مضيئًا.
هذا الكشف لا يمكننا الحديث عنه من دون تحليل البنى لبعض النصوص والوقوف إزاء سطورها،
وقد اخترنا نص «السير نحو روعة الجنون» والذي يمثل لحظة من لحظات التبلور الدلالي في بنية سيرة الغريب؛ إذ يمكن قراءته بوصفه تمثيلًا لنموذج التحوّل الداخلي للذات الساردة ضمن الفضاء السردي المعرفي القائم على الانعكاس الذاتي؛ لأنّ الجنون هنا لا يُقدَّم بوصفه آلية هروب من الواقع، بقدر ما هو أداة معرفية للكشف عن البنية العميقة للوعي،
ليقوم النص على الجدلية الثنائية المركزية بين الحلم والواقع والوعي والجنون، غير أنّ الجنون هنا لا يُقارب في بعده النفساني المرضي، وإنما يُوظَّف بوصفه مرتبة معرفية عليا تُقارب مفهوم «الوجد» الصوفي، فتقول ولاء :
القصة تأخذ تحولات ذاتية دراماتيكية رهيبة في حلم ما قلت وأقول أنه جميل، دافعت عني يا الغريب، ووقفت لي في مواجهة أحدهم.. لقد رأيتك توجه له لكمات عظيمة ولا أعرف كيف وصلت أنت هناك.

غلاف العمل

كما نلاحظ هنا هذا التماثل الدلالي بين الحلم والواقع يشير إلى انزياح لغوي واعٍ من التعبير الواقعي إلى الخطاب المجازي الصوفي؛ فالمسار التأويلي للنص عند الكاتبة يتأسس على “ديناميكية الكشف” لا على السرد الخطي المتصاعد في الحكاية التقليدية من أدب الرسائل أو الاعتراف أو النصوص النثرية التقليدية.

وتتأرجح اللغة عند الكاتبة بين شدقي رحا؛ نتلمس بيسر فيها ذلك التوتر المزدوج بين لغة اعتراف ذاتي متماسكة عبر ضمير المتكلم، ومن جهة أخرى، هي لغة تجريدية تُقارب المطلق، تتجه نحو الحلم، تلك المزاوجة بين الاعتراف والتمجيد تضع النص ضمن ما يمكن تسميته بـ..الأنطولوجيا السردية للعمل في أغلب نصوصه، حيث تتحول التجربة الشخصية إلى حقل دلالي للتفكر في الكينونة، ومن ثم الانفتاح على حيوات أخرى عبر سويعات قليلة تقضيها في مطالعة تلك التجربة التي تأخذ من روح رسائل الأحزان أو أوراق الورد على سبيل المثال – للرافعي في أدبنا الكلاسيكي، لتضيف ملمحا آخر يتسق وعصرنا الحالي تمتزج التجربة فيه بين التواجد الصوفي و والاختبارات اليومية .
فلا يبدو «سيرة الغريب» مجرد عمل أدبي، بل سعيٌ شفيف نحو جوهر الوجود، رحلة تمحو المسافة بين الكاتب والقارئ، بين الإنسان وربّه، كأن النصّ دعاءٌ مكتوب بالحبر بعد أن جفت المآقي من دموعها، ليوقظ فينا فكرة أن العودة إلى الذات هي أعمق أشكال الوصول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى