دراسات ومقالات

حاتم عبدالهادي يكتب قصيدة المعنى تأسيس لما بعد الحداثة العربية ( نحو قراءة جديدة للشعر العربي المعاصر )

حاتم عبدالهادي يكتب  قصيدة المعنى  تأسيس لما بعد الحداثة العربية   ( نحو قراءة جديدة للشعر العربي المعاصر )

 

قصيدة المعنى

تأسيس لما بعد الحداثة العربية

 ( نحو قراءة جديدة للشعر العربي المعاصر )

حاتم عبدالهادي السيد

تتأنق اللغة وتتمكيج، وتصفو، لتعيد رونقها عبر القصيدة التي تتغيا مقصوديات، وترميزات تجريدية، عبر سوريالية تشبه شجرة صيف عرتها أوراق الخريف، وجردتها من اوراقها الخضراء لكنها غدت لوحة تشكيلية للعراء، ولفضاءات المخيال السيمولوجي الرامز، وفى ” قصيدة المعنى ” – التي أنتهج وجوديتها، كمساحة تتشكل من رحم ” قصيدة النثر”؛ أو بين المساحة الأولى المابينية بين الشعر المنثور وقصيدة النثر، نلمح أولى تشكلات هذه القصيدة المابعد حداثية، والتى تتغيا اللغة كوسيلة لتراسل الحواس، عبر صور سوريالية، ومساحات البياض على الأوراق البيضاء، والتي تشكل عجينة تكوينية لقصيدة المعنى التي أتغياها. و”قصيدة المعنى ” التي – أصطلحها – هي: القصيدة التي تعتمد الموضوع كمحرك لسياق فضاءات القصيدة، وتعتمد المعنى الماورائي للمعنى المباشر، كما تعتمد الإزاحة للوصول إلى المعنى الذى يتقصده الشاعر، كما تعتمد الإيجاز، وتعالقات المعنى” التضمين الاحالي ” للوصول إلى غائية المعنى الذى يتقصده الشاعر؛ وهى قصيدة تعتمد خفوت الموسيقا إلى أقصى حد، وتجرد الموضوع ” كشجرة سوريالية، أو شجرة عراها الخريف؛ لكنها تشى بجمال الوضوح رغم عراء المنظر من الأوراق الخضراء، وهى قصيدة تعتمد تراكمات المعنى وترميزيته للوصول إلى غاية ذاتية: ” صوفية الذات ” عبر الفطرة التى تتجرد تشى بحقيقة الجمال الإنساني عبر اللايقين ، واللابرهان، والتصوف الذاتي؛ وتلك – لعمرى – أبرز خصيصات القصيدة المابعد حداثية- التى أوردها هنا– كمعطى جمالي للقصيدة الجديدة التي تعتمد التفكيك، والبلاغة الجديدة – عبر التأويل والخطاب المتشظي الكوني- وتتجرد بنثريتها عن الغنائية، وتخفت بموسيقاها وايقاعاتها عن قصيدة النثر، أي أن الإيقاع أقل خفوتاً، فهي أقرب إلى الشعر المرسل – في بداياته – لكنها تتخالف معه، ومع قصيدة النثر معاً في مضامينيتهما؛ التي أوردتها سلفاً، أو يمكن اعتبارها نسخة جديدة أكثر حداثوية لقصيدة النثر كذلك

هذا ويشكل اللون العتبة الأولى للولوج إلى ” بيت النص” ،كما أن الرائحة واللون تشكلان في الغالب مرموزات خاصة– خلف ظاهر المعنى، وما ورائيات اللغة التي تبدو الفارس الأول هنا في نسج بنائية الجملة، عبر لعبة الصورة والظلال، وتكسرات لون قزح عبر المرآة المخادعة المخاتلة للذات والموضوع والمعني .

إن قصيدة المعني تستدعي – في الغالب – سوريالية اللغة؛ عبر اقتصادياتها المائزة؛ ومرموزاتها السيمولوجية، والتي تحيلنا عبر الإزاحة والتماثل، وتعالق الذهنية؛ إلى مخيال يسقط رؤيويته وحداثويته على المعنى الآخر:”المعاني الثواني” – اللغة الثالثة – والتي أورها شيخ البلاغيين ” عبدالقاهر الجرجاني”، و”قدامة بن جعفر ” ،في كتبهم التراثية؛ لكن شاعر قصيدة المعنى نراه  يستخدم “بلاغة الإحالة” أو “البلاغة التحويلية”؛ ليحيلنا إلى المعنى السيميائى، ومعادلاته الضمنية، والموضوعية، عبر فلسفة اللغة، وتراكميات المعنى، وترميزاته السيموطيقية الدالة .

ومن اللون وتشكلاته؛ إلى العراء النفسي ،أو الفجوة النووية للقصيدة ،وزخم المعنى عبر تجريدية الصورة؛ وسورياليتها كذلك .

وقد يستخدم شاعر قصيدة المعنى تقنية “الـ كان”؛ أو الخطاب للذات والظلال، ليحيلنا إلى التاريخانية عبر الفلاش باك، و”السينوغرافيا”، عبر زمان ومكان غير مُحَدَّين؛ وعبر تحليق في هيولي للعالم المحكي عنه، في الغرفة التي بلا سقف، وربما بلا جدران، حيث العزلة والاغتراب النفسي والروحي، والصمت والسكون؛ عبر التقابلات ” والثنائيات التي تمثل الخواء والعراء الفيزيائي، بما يشعرنا بكونية المكان، وما بعد حداثوية الرؤية عبر السيميائية التى تعتمد معادلات للتوازن طوال الوقت عبر المعني التكويني، أو” الُبني العميقة”، لكنها بنيوية التفكيك، وتكوينية اللا بناء، حيث الفوضي المنظمة للمواقف والمشاهد التي تتقاطع عبر التفتيتية والتّشظي للكون والعالم والميتافيزيقا، وغير ذلك .

وتتوسل قصيدة المعني تطويع ” اللغة “لتجعلها” فرس رهان” وشاهد على انتضام  رؤيوية المعنى لدى الشاعر، ويقظته الشاعرة التي تنشد ” تشاركية القارىْ”عبر الراوي، السارد، الحكاء القديم، بما يجعلنا نؤكد لعبة ” تكاملية الأجناس الأدبية” في رفد القصيدة الجديدة بمدلولات أكثر حدساً، ولا يقينية، للتدليل إلى اللابرهان الروحي، عبر مخيال اللغة المكتنز؛ وعبر تدورات المعنى المابعد حداثي، الإحالى؛ الذى يعتمد الإزاحة، ليزيل ” ظاهرية المعنى”، إلى ما ورائياته الكامنة فيه، وتلك لعمرى تعادلية تصنعها “لغة الترادف”، و”اللغة الإشارية” عبر البلاغة الجديدة التي تحيلنا إلى تأول المعنى الماورائي لنعقد تشكّلات رؤيوية، أكثر حداثوية، عبر التشكيل البصرى، الذى صنعته الإزاحة، والمفارقة، والمعانى الثوانى، أو المعنى الثالث الذى تصنعه الرؤيوية للبلاغة الجديدة، بين ما هو متخيل – لدى القارىء- وبين النص/القصيدة، لنسأل عمن سرق المشار إليه في القصيدة؛ على حد رؤيوية ” رولان بارت ” ، وغيره .

وليس معنى انتصارنا للغة – هنا –إننا نتحدث عن ” قصيدة اللغة ” – فحسب – بل نضيف إليها تشكلات المعاني عبر تقنية التبادل؛ فاللعبة الجديدة تعتمد الصورة والظل، وتداعيات الألوان، ولا نقصد الصورة التشكيلية / البصرية بذاتها، بقدر ما نركز هنا على بنية المعنى الاحالي وعلاقاته الرامزة التي نتأولها، كأفق كوني، لنتشارك والشاعر في تصورات الذهنية عنده، ونعبر بالمعنى الجمالي للصورة إلى آفاق أكثر حداثوية، كذلك.

فالمعني – هنا – هو الذي يخلق التوتر، ويحدد مشروعيات للجمال الفيزيائي، وللصورة الفيزيقية المتراءاة .

كما يستخدم شاعر قصيدة المعنى” بنائية التكرار”، للولوج إلى معانٍ جديدة في قصيدته ليحيلنا إلى واقع معاش، عبر مرموزات متتابعة، أيقونية، فهو لا يأدلج القصيدة، بل يصنع لها عدة مرافىء لتعبر اللغة والصورة إلى المعنى المختفي؛ أو” المعنى السرَّي” الذى تغياه”، هو، وتأولناه نحن؛ عبر فيوضات المخيال الكوني، واحالاته السيموطيقية التي تحيلنا إلى الذات والكون والعالم والحياة .

فقصيدة المعنى تجمع المعطى الكوني والذاتي، والابستمولوجي لتشكل ” فلسفة وذاتية جوهرها، حيث فلسفة الشاعر ملتبسة بالوجود الكوني، والفراغ، لا معنية بكتلة، ولا مُحدَّة بزمكانية تؤطرها، خلف” أيديولوجيات” النوع النووي”، بل تعبر سدم الكون والمجرات إلى ثقوب متناثرة في أطراف العالم المتشظي، وتصنع بنائيتها عبر التفكيك والعراء والمعاني والظلال.

والشاعر في قصيدة المعنى يتوارى خلف النشيج، وخلف ظلال الألوان، والمعاني، ليترك لجنوح الخيال آفاقاً أكثر دهشة، عبر رؤيوية متصوف، أو جوال يجر عربة الحياة إلى لا نهائي ممتد .

وهنا لا أدًّعي أنني أتيت بنظرية أو مدرسة عربية جديدة لعلم “القراءة الأدبي”، وإن كنت قد نشدت، وتَغَيَّيتُ ذلك، لكنها اجتهادات نظرية، أرفدها بالتطبيق العملي، – ولعمري – فقد انتهجت هذه الطريقة القرائية لما أطلقت عليها قصائد المعني، لأنشد تجديدية في الشعر والنقد معاً، وطبقت ما رأيته علي بعض الدواوين والقصائد، وتوصلت إلي نتائج أكثر ادهاشاً في تفكيك المعاني المستغلقة عبر استخدامات ودمج بعض المدارس الأدبية مثل: البنيوية والتفكيكية والتركيبية عبر التأويل، لأتهجى منطقة جديدة تبتعد عن علمية الأدب، التي تنتهجها البنيوية، ولا علمية اللغة التي تنتهجهها التفكيكية ،ولنأخذ من الحداثة وما بعد الحداثة منطلقاً تغايرياً لقراءة جديدة للنص الأدبي، وقد اعتمدت منهجية القراءة الأدبية للنص من عدة رؤي، وعبر مدارس ومذاهب عديدة، فأنا أنادي هنا بموت المدرسة الأدبية والمذاهب، وسقوط النظرية مقابل أن ننتصر للنص الأدبي الذي يطرح رؤيويته عبر تعددية النهج القرائي ، وعبر خضم كثرة المذاهب والمصطلحات، والمدارس والنظريات، فلربما نؤطر لمنهاجية عربية لقراءة النص الأدبي بنكهة شرقية عربية، وبمنطلقات ما بعد حداثية، تنتهج عدم القطيعة مع التراث والموروث العربي، وفي نفس الوقت عدم القطيعة مع المنجز النقدي والأدبي العالمي، كي لا نتأخر عن الركب الأممي العالمي من جهة، وليخرج ابداعنا النقدي والأدبي -بنكهة أكثر حضارية- تجمع بين الأصالة والمعاصرة وتنظر للآخر برؤي أكثر احتراماً وصدقية،  منطلقين من مسألة التجاور واحترام ثقافات الأمم والشعوب عبر الكونية وحوار الثقافات والحضارات نستفيد ونفيد، ونأخذ ونعطي، ولنعبر جسر عالم التقنيات والفضاءات المفتوحة والكوكبية، وما بعد الحداثة وغيرها بنكهة الشرق العربي الإسلامي، المابعد حداثي الجديد. فإن وفقت فهذا حسبي ومبتغاي. وإن يكن غير ذلك فإن التجريب يتم الاستشراف له بعد نضوج الفكرة، وصدق الفرض والمنهج والمعيار، وليكن لنا ابداع ونقد بنكهة عربية مغايرة، تجمع بين علمي: الاستشراق والاستغراب، وبين القديم والمعاصر، والموروث وما بعد الحداثي، لنستشرف أفقاً جديداً. ولم لا؟! .

 ولندلف إلي التطبيق العملي، فالتجريب خير برهان علي صدق الفرضيات، والتجريب متاح للجميع كذلك، ولم يُغلق باب التجريب والتجديد، بعد، أليس كذلك أيضاَ ؟!!.

(2)

   يحيلنا الشاعر المغاير الجميل / أحمد عبدالحميد في قصيدته الفريدة: ” حيث لا سماء تخصني” – منذ البداية – إلي فلسفة ذاتية خاصة، صوفية، وتجريدية، عدمية وكونية، تستقطب الوجود والعالم، وتستنطق الذات الموجوعة عبر دهاليز الحياة، فنراه يُطبطب علي الحروف، يهدهدها من رقدتها لتستيقظ بأمر الحب، والجمال، ولتنزع غُلالتها لتعيد معه اكتشاف الحياة والعالم والكون، والوجود السرمدي العظيم.

هو فرد –إذن– في معادلة الوجود الممتدة، يصنع المعجزة/ القصيدة، ويهيأ لها عرشًا صوفيًا عبر تصوف ذاتيٍّ، يفلسفه، ويُعيد تكوين عجينته الكونية بآهاته التي يُهرقها علي الأوراق البيضاء فيحيلها زرقاء داكنة، تنزع إلي السواد، لكنها تتبرعم بأمل لا مُحَدٍّ، وتنبت برعمها الطريِّ في بؤبؤ الروح المتعطشة للحب وللمرأة والحنين، ويقف وحيدًا ليتأملها وحده، فسبحان ما صنعت يداه، وما صنع شيئَا هو كذلك، بل كان يتأمل الوجود من بعيدٍ، زاهدًا في مساءاتٍ تمر، عبر غائبة لا تجيء،” حيث لا سماء تخصني“/تخصنا/تخص الوجود والكون، وهو شاهد علي الحياة يتشوَّفها ويراها، وربما لا تراه أو تكثرث لوجوده – كما يظن –لكنها مشغولة معه– طوال الوقت–فغدت الحياة هي التي تدور في فلكه، فمن يزهد في الحياة تَتلبَّسَهُ لِتُعيده إلي سجنها، ولا تتركه يتمتع بجمال السباحة في أفق اللا ميتافيزيقا، فقد تجرد من أسئلتها، وآمالها وآلامها، وظل يرقبها من شرفته المضيئة بالحب الجميل .

انه شاعر المعنى الذي ابتني بيتًا  ليحيا، فإذ به السجن بعينه، فيتناص مع سعدي يوسف الشاعر البهيَّ، لا ليعيد تأسيس المفارقة، ولكنه ليكمل مشوار سعدي يوسف، في قصيدته التي استهل بها القصيدة لتحدث مفارقات التساؤل الذاتي-منذ اللحظة الأولي- وليكمل الرد عليه، فسعدي يوسف يقول:

 “قد نبتني بيتاً،

 فَنُسجنُ فيه،

ما أبهى الحياة !”.

وشاعرنا/ أحمد عبدالحميد يقول في نهاية القصيدة:

سيأتي شخصٌ ليقولَ

– كلمةً طيبة –

لكى يكون المرء صالحًا ينبغي ألا يفقدها أبداً .

لكن التعاسةَ تكمن

 في أن لا نقول للحياة شكراً.

وكلاهما–كما أرى– يغرفان من بئر واحدة، ولكن باختلاف المفارقة، فكلاهما يتهكم ويسخر، ويعتب، لكن أين العُتبى، ولمن العُتبى؟ والحياة تمضي بالغبش، وبزبد الأشياء الطافية فوق السطح، بينما يبحث مع سعدي يوسف عن الجوهر، عن المعنى العميق خلف ظاهر النص الذي نتأوله لنخرج جوهر المعاني المُتجذرة داخله، والتي تمثل نقطة البدء والتكوين، أو “بيضة الوجود الجميلة “، أو النواة، التي تتأسس فوقها عجلة الوجود الكوني السوريالية الباذخة، والمضيئة، والمعتمة في ذات الوقت أيضًا !! .

يبدأ/أحمد عبدالحميد قصيدته بحكاية سردية: “وقالت لي لدينا حياة”، وهنا تكفي الشاعر هذه الجملة، ليظل يعيش في كنفها، وكأنه يستعيد شريط ذكريات لحبيبة مضت، أو غابت، أو غُيِّبَت، لكنه يكتفي بالجملة، ليبدأ سردًا سينوغرافيًا استرجاعيًا لفلاش العمر، الذي انسحب منه الضوء فجأة، وكأن القصيدة هي سرد يفسر العنوان السيموطيقي الدال، فلم تعد تخصه السماء، ولا الأرض والأشياء، واكتفي بقولها :

وقالت لي – :

لدينا حياةٌ

أَلا يحملُ هذا معنىً كافياً

في عمريَ هذا لا أستطيعُ الاختباءَ

وحين رأيتك …

لاحظت أنك لست وجيهاً …

أو مرغوباً …

الشَّعْرُ أسود ، ربما

العينان واعدتان ، ربما

ولو لم أتأذ…

لوددت النزول على ركبتيّ …

هل هي مُخَيَّلتي

أم أنّ الوقت قد تأخر وعلينا

الذهاب إلى مكان ما …

؟

لمَ لَا

؛

العمر ليس كافياً

والمرء مَدينٌ لنفسه بمحاولة ما …

المال ليس يهمُّ

الجنس ليس يهم

علينا أن نكون لطفاء ، فحسب .

إنه يسرد ذاته، ويُهريق روحه علي سُجادة الحياة الميتافيزيقية، ليعبر  سماواتٍ غير مُحدةٍ، وأراضينَ لا فائدة منها، فهو فقط يحيا بكلماتها إلي الأبد. فلا شيء عاد مهمًا،فقط يرشدنا إلى أن نكون لطفاء، فلا المال أصبح مهمًا، ولا الجنس، فقط الائتناس بقرب الحبيبة بدلًا من العزلة، فهو يريد أن يكلم الوجود والعالم والأشياء، أو أي شخص ليشعره أنه حيٌّ، كما أنه يريد هذا الشخص ليعترف له بأنه وقع في الحب، وكأنه يعيد – عبر التناص التأويلي – قول الشاعر العربي القديم :

ألا أيها النُّوامُ ويحكم هبوا

أسائلكم : هل يقتل الرجل الحب .

فقد أيقظ الناس وكل النوَّام ليسألهم عن الحب، وهل يقتل الحب الرجل ،غير مبالٍ بأنه قًضَّ مضاجعهم، فالحب أعمي، ومن يحب لا يرى سوى طيف المحبوب، يقول :

من الجيد أنْ يكون لديك شخصٌ لتكلمه

حتى لو كان كلُّ الحديث – محضُ هراء –

بدون ذكر الأشياء التي تجعلُنا نرتجفُ

هل تعرف شيئاً عن مواعيد الموت .؟

أضافتْ في همس –

: أجد نفسي مجبرةً على اعتراف بعيد الاحتمال ، هو أنني وقعت في الحبِّ ؛

ما يَمِيزُ حياتي أنّها لا تنتمي إليّ .

حياتي بأكملها سُلِبَتْ مني .

نصفُ حياتي …

وليس لديّ شئٌ ليعبر عنه .

سيكون الأمر عميقاً، ومليئاً بالحكمة،

لو أن عقارب الساعة ترجع إلى الوراء.

– لماذا توقفت النساءُ عن أن تكون نساءَ ؟؟؟

هذا هو الأمر الذي لا نتحدث عنه.

إنه غدًا غريبًا عن العالم، يتذكر ويتمني عودة عقارب الساعة إلي الوراء، ليرى بنظارة الماضي حاضره، كما يتساءل عبر الصورة التجريدية عن حال النسوة الذي تَبَدَّل، فلسن هن نساء الأمس كذلك !! .

وشاعرنا ينزع إلي استلاب وتجريد الصور ليحيلنا إلي سيريالية المعني الرامز، عبر الاختزال، والبوح الصامت، فلم يعد يكترث لأيِّ شيء سوي أنه موجود وحسب، يعيش علي الحافة، وينتظر قدوم الحب من جديد، لذا نرى فلسفة تطغي عبر شاعرية مخبوءة، فهو يبحث عن اليقين، ولا برهان هناك، ويبحث عن الحب ولا حب، وعن المرأة التي غابت خلف ضباب الغيوم والصمت، كما أنه يجسد المشهد ككتلة ، أو كصخرة جردتها العواصف، فغدت تقف شاهدة علي الحياة، لتخرج حكمة الشاعر وفلسفته الصوفية السوريالية المندغمة مع ذاتٍ مُحبة عاشقة، تريد غبش الصباح لتسابق العصافير، لكنها تصطدم بصخرة الواقع فتقف لترسم لنا مشاهد قيامة الذات والأبدية، عبر سرمد روحه الجميلة، يقول :

كثيراً ؛ نحن لا نعرف كيف نعيش أبسط الأشياء  .!!

مياهٌ

تسَّاقطُ

فوق

المياهِ

السيرُ على الطريق الصحيح يعني : مزيداً مِن الاستغناءِ  ولكنّك جئت كلّ هذا الطريق منْ أجل شئٍ ما…

ثم يبدأ الشاعر رحلة التساؤلات الكبرى، عن الحلم والحقيقة، عن الوقت والغرفة التي بها سرير الطهر للحب العفيف البريء الذي لم يتلوث ، ولم تلوثه رغبة عاطفية، فهو حُبٌّ نوراني سامق، وعفة تصل إلي حد الدهشة كذلك، لكنها مفارقات الحقيقة ، ودهشة البراءة، وعفة الحب الخالص، يقول :

هَلْ تؤمنُ بالمصادفات . ؟

حَلُمتُ …

وقدْ مرّ وقتٌ …

وها نحن …

غرفةٌ…

وسريرٌّ …

ولم يبق عندك من الأصدقاء  غيري

اغوني …

اغوني …

هذا هو ما  نسيناهُ …

هذا هو الشئُ الذي يهمُّ…

أعرفُ أنها مفارقةٌ

لكنْ لابدَّ أنْ تَفْهَمها

أن يكون الحبُّ بريئاً

أمرٌ سفيهٌ جداً .

ما أقوله حقيقيٌّ وقاسٍ .

أنا لا أؤمنٌ بالمعجزات .

وشاعرنا يؤمن بالبعث والموت، كما يؤمن بوجوديته عبر الحياة القاسية، لذا يحلم ويعيش الحلم كي لا يموت، أو هو يصرخ في براري العالم بحثًا عن الحقيقة، حقيقة الفطرة الأولي: الخلق، الوجود والعدم، الصمت والسكون، الجرح والبراءة، النور والعتمة، الحقيقة والخيال، والموت والحياة والبعث من جديد.

 وهو عبر الثنائيات، نراه يقف في منطقة الشاهد الأخير علي الحياة والوجود، يمد يده للعالم، ويخرج من الفوضى إلى الذات، إلي عبق الشَّوفِ، عبر براح الكلمات، واقتصاديات اللغة المائزة، والمعني الذي يدلل إلي مرموزاتٍ سيموطيقية، ودوال مغبشة بحكم وأمثال، أو هي تجربة حياة بكامل تفاصيلها الوجودية، والذاتية، ومفارقاتها العبثية، والحقيقية كذلك، يقول :

أموتُ

لأبعث

مرة أخري

بلا ذكريات

جارحةً

مثل شعاع النور

بريئة

مثل عيون الماء

لا ألم

لا خوف

لا حب

لا.. اا…

فقط ما تلمسه قدمي …

وتراه عيناي …

مياه

تساقط

فوق

المياه

أنا                 هو

هو                أنا.

إنه يندغم عبر التشظِّي، ويلتحف الوجود عبر غلالة صوفية، يخش إلي الهو والأنا، عبر فضاءات القلق، والتلاشي، والصورة والظلال، والقصيدة التي تُجاهر بالحكمة والمحبة والصمت، والعزلة الجميلة، ويعبر كل ذلك كمتصوف جوال في ليلة شتائية، أو أمسية ليل صيفية ليكلم الوجود والعالم، عبر لغة تصفو : تشف، وتَرِفُّ، وتعبر، وترتقي إلي عرجون الذات لتعبر أقانيم الوجود، وأقاليم العالم بحثًا عن الذات التي تاهت في هيولي ممتد، وسياحةٍ حول الذات البهية الباذخة، والجميلة أيضًا، يقول :

لماذا علىّ أنْ أنزعج

إلى أين  يأخذني الهوى

مطرٌ

على

مطرٍ

على

..نجلسُ لنرى هطولَهُ ، ثمّ ننامُ

وهو يهطِلُ ، نستيقظ وهو يهطل ،

ويأتي الغروبُ ثانيةً

وهو يهطِلُ …

آجلاً

أم عاجلاً

سيأتي شخصٌ ليقولَ – كلمةً طيبة –

لكى يكون المرء صالحا ينبغي ألا يفقدها أبداً .

لكن التعاسةَ تكمن في أن لا نقول للحياة شكراً.

إن شاعرنا مغرم بالطبيعة، بكل فصولها وتفاصيلها، لحظة الغروب والشروق، النور والعتمة، الجمال والهذيان، كما أنه يُصَبِّرُ الذات الصالحة المؤمنة، بل ويحثنا إلي عدم فقد الحياة، بل ويشير إلينا لنقول للحياة شكرًا، عبر مرار السخرية، وشعر الهايكو الذي يتجسد في الطبيعة، أو هو يغوص، ويعيش عبر جَمالين : جمال الذات، وجمال الصورة والكلمات، ويعبر بنا عبر قصيدة المعنى التي نتأولها ، إلي مابعد حداثة الصورة، عبر لغة تستقطر الروح، وتستحلب الوجود، وتضيء كل الوقت، وهو شاعر نقف له لنقول: لنرفع القبعة فنحن أمام شاعر جوال في آفاق الذات، يسقي الأرض بالحب، ويدلق المطر من سماء الروح علي العشب المحترق، فيحيل الكون إلي بحر من التفلسف والحكمة، والجمال، عبر ذات جميلة تعشق الحياة، لذا نقول معه للحياة: شكرًا، ونغني معه أنشودة الخلود للقصيدة  الفارقة، التغايرية، السامقة، عبر الكون والعالم والحياة .

 

                               

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى