أخبار عاجلةأراء حرةالرئيسية
بيتُ الغَمام… بين مجازِ الغيابِ وسيمياءِ الحنين.

بيتُ الغَمام… بين مجازِ الغيابِ وسيمياءِ الحنين.
قراءة نقديّة تحليليّة في قصيدة ” بيت الغمام” للشاعر محمد صوالحة.
بقلم د. زبيدة الفول.
————————————
بيت الغمام
لأي العيون سيأوي النهار
بعيد الرحيل
بأي الأراضي سنلقي النجوم بذار
ليُزهر روض القلوب
بنور تولى
لأي مدار بروحك سحرًا يطير الحمام
بعيدًا بعيدًا
فيهوي الزحام
تنام وحيدًا
وأبكي وحيدًا
وأُنثاك لوعة شوق
تعري الإناث
كفعل الخريف
ربيع الفواكه
يُقصيك نجما
يضمنخ شوقا
وغيم الجنوب
يمطر عليك
أريج السلام
هناك
بكف السماء
قمر تلظى
بنار السؤال
كيف
قميصك صار رداء المساء
وبيت الغمام
الشاعر محمد صوالحة
————————————
المقدمة:
تعجز اللغة حين تتوغّل في فضاء الشعر الحقيقي، ذاك الذي لا يصف العالم بل يُعيد خلقه من ضوءٍ وندى، من سؤالٍ ودهشة. في قصيدة «بيت الغمام» للشاعر محمد صوالحة، نكون أمام نصّ يفيض بالرمز والغياب، حيث تتكثّف الصورة لتغدو معادلاً روحياً لحالةٍ من التوحّد والاغتراب الداخلي. النصّ لا يُحكى، بل يُستشفّ كنسمةٍ غامضة في ذاكرة الغيم، إذ يكتب الشاعر من منطقةٍ بين الحلم واليقظة، بين الحضور واللاوجود، ليصوغ رؤية كونية تحاور الوجود والغياب في آن.
⸻
التحليل الفني والجمالي:
أولاً – بنية الصورة والانزياح الدلالي:
منذ المطلع:
لأيّ العيون سيأوي النهار / بعيد الرحيل
يتبدّى السؤال لا كأداة استفهام، بل كصرخة وجودية معلّقة في فضاء الصمت. “النهار” هنا ليس زمناً ضوئياً بل كناية عن الحياة نفسها، فيما “العيون” رموز لملاذٍ مفقود، كأنّ النهار مشرّدٌ يبحث عن حضنٍ يستقرّ فيه. هذا الانزياح في المعنى يحوّل الصورة من حسّية إلى وجودية، ويجعل من القصيدة مساحة للتأمل الفلسفي في معنى الرحيل والغياب.
يواصل الشاعر لعبة المجاز:
بأيّ الأراضي سنلقي النجوم بذار / ليُزهر روض القلوب
“النجوم” بذور، و”القلوب” أراضٍ، و”الروض” وعدُ الإزهار الروحيّ. هنا تنقلب الطبيعة إلى مرايا داخلية، وتتحول الكواكب إلى بذور عشقٍ تُزرع في التربة البشرية. إنها استعارة كونية تعكس فلسفة صوالحة: اتحاد الإنسان بالعالم عبر الحبّ والحنين.
ثانياً – ثنائية الوحدة والاتحاد:
يتجلّى الصراع بين الوحدة والمشاركة في قوله:
تنام وحيدًا / وأبكي وحيدًا
هنا التوازي البنائي يكرّس الازدواج النفسي بين الأنا والآخر، فالعزلة لا تخصّ طرفًا واحدًا، بل تتوزّع بالتساوي، حتى يغدو الحبيبُ والذاتُ وجهين لعزلةٍ واحدة. إنها وحدة كونية تنسجم مع رمزية “بيت الغمام”، حيث الغيم بيتٌ مؤقّت، لا جدران له، يسكنه الحنين لا الحجر.
وفي المقطع ذاته، يظهر الانزياح البلاغي حين يقول:
وأُنثاك لوعة شوقٍ / تُعرّي الإناثَ كفعل الخريف
هنا تتجلّى المفارقة: “أنثاك” ليست امرأة جسد، بل امرأة فكرة، أي تجسيد للشوق نفسه، كأنها أنوثة الوجع. أما “تعري الإناث كفعل الخريف”، فهي كناية عن انكشاف الحقيقة الجمالية بعد تساقط أوراق الزيف. صورة مذهلة تحوّل الفصول إلى استعارات شعورية، والخريف إلى أداة تطهير.
ثالثاً – الرمزية والسيمياء:
يحفل النصّ برموز متشابكة، تُشكّل شبكة دلالية متينة:
•النهار رمزٌ للوضوح، لكنه تائه في “العيون”، أي في الحبّ والرؤية.
•النجوم بذورُ النور، تُزرع لتُزهر أرواحُ العاشقين.
•الغيم بيتٌ عابر، أي أن الوطن نفسه مؤقت، لا يُمسك.
•قمر تظى بنار السؤال: صورة مكثّفة تُجسّد مأزق الإنسان في مواجهة المعنى، فحتى القمر – رمز الصفاء – يحترق بأسئلة الوجود.
تبلغ الرمزية ذروتها في البيت الختامي:
كيف قميصك صار رداء المساء / وبيت الغمام
فيه تتماهى الذات بالمحبوب، والمحبوب بالكون. “قميصك” يصبح “رداء المساء”، كناية عن الاندماج الروحي، أما “بيت الغمام” فهو المأوى النهائي للحلم، ذلك البيت اللاواقعي الذي يسكنه الغياب المضيء.
رابعاً – الموسيقى الداخلية والانسجام الإيقاعي:
تعتمد القصيدة موسيقى تفعيلية حرّة، لكنها منضبطة بإيقاعٍ داخليّ ينبع من تكرار الأصوات الرخيمة (الميم، النون، اللام) التي تمنح النصّ نغمة شجنٍ واحتواء. كما يهيمن صوت الألف الطويلة على النصّ، وكأنها امتداد لأنين داخليّ، يتناغم مع دلالات الرحيل والحنين.
خامساً – الرؤيا الفلسفية:
قصيدة بيت الغمام ليست مجرّد بوحٍ عاطفي، بل تأملٌ وجوديّ في معنى الفقد. الغيم هنا استعارة عن الروح البشرية في هشاشتها وتجددها، والنهار والليل رمزان للدورة الأبدية بين البدايات والنهايات. الشاعر يقدّم عبر الحنين مشروع توازن بين الفناء والبقاء، بين ضبابية الغيم ونور السؤال.
⸻
الخاتمة:
في بيت الغمام، لا يسكن الشاعر بيتًا من حجر، بل بيتًا من حلم، يشيّد جدرانه بالحنين ويغلق نوافذه بالضوء. النصّ يتجاوز الغزل إلى مقام الحكمة الشعرية، حيث العشق يتحوّل إلى وسيلة لفهم الوجود. محمد صوالحة يكتب هنا شعرًا يتّسع للكون، لا للذات وحدها، ويزرع في القارئ بذرة السؤال:
هل الغياب قدر، أم طريقة أخرى للحضور؟
إنها قصيدة تتنفّس المجاز، وتعيش على تخوم الرؤية، وتمنح القارئ ذلك النور الذي لا يضيء المكان، بل الروح





