أخبار خارجية وشئون دوليةأخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

منال رضوان تكتب السرد الأَلِغوري ورمزية تحوّلات الرأس في قصة “إلا رأسه” للأديب واثق الجلبي.

 

تقدّم قصة “إلا رأسه” للأديب والشاعر العراقي واثق الجلبي مشهديتها داخل الإطار السردي الذي تتجاور الميثولوجيا الرافدينية فيه مع الاستعارة الوجودية؛ فيتأسس نصه القصصي على معمار من السرد الأَلِغوري، يعبّر الصوت السارد من خلاله عن صراع الهوية، وارتباك الذات أمام ثقل الماضي، فنلاحظ أن الصورة الأولية تظهر في افتتاحية ذات كثافة دلالية عالية تمهد لما بعد؛ فحين يقول:

“وقفَ أمام سعفة ميتة مدهوشًا ناشرًا كثافة أفكاره على رأس نخلة مقطوع”.

فهو بهذا يؤسس الصورة على عدة مستويات، يمكن ملاحظتها هنا في: ( انقطاع الرأس، السعفة الميتة، النخلة، الدهشة، تراكم الأفكار…) مع مراعاة أنها كرموز تنتمي إلى الحاضنة الجغرافية والثقافية لبلاد الرافدين، وتحضر هنا بوصفها -في النص- أرضًا تُنجب الملوك والأنبياء والحكماء، وتعيد إنتاج الهوية عبر محاولات مستميتة لاستعادة الرأس.

هنا يتحوّل “الرأس” في نص الجلبي إلى بؤرة أيديولوجية وجمالية، ليس باعتباره عضوًا تشريحيًا (Skull)وإنما بوصفه مركز القرار والمعرفة والتاريخ، فتتجلى هذه الوظيفة في قوله: “كانت طوابير الرؤوس المقطوعة بعناية تمر أمامه وله أن يختار رأسا بديلا”، ليتخذ العرض هنا شكل المحكمة الرمزية؛ حيث يُعرَض فيها على البطل تاريخ بأكمله، رؤوس متتابعة تصطف كأطياف الماضي، كأنها تشكّل “هوية منتقاة”، يتخيّرها المرء من على رفوف الأسلاف،
ليقترح هذا المشهد قراءة فلسفية؛ إذ يمثل البحث عن الرأس بحثًا عن تاريخٍ صالحٍ للارتحال به نحو المستقبل، وهو بحث مُحمَّل بالقلق الوجودي، تُعبّر عنه العبارة شديدة الوقع:
(بدنه المتورم من الأسئلة.)

هذا الجسد المتورم الذي يجوز تأويله بالوطن، تقرحت الأسئلة كندبات على جلده، كل محاولة لتجربة رأس جديد ليست سوى محاولة لإعادة بناء مروية وطنية متماسكة.

تشكّل رؤوس الأنبياء طبقة سردية خاصة في القصة؛ فحين يقول:
(بعد أن جرب رؤوس الأنبياء قرر أن يختار رؤوس القادة)، تظهر الحركة بين المقدّس والدنيوي، كحركة بحثٍ عن نموذج يستوعب أزمة الإنسان، الرأس النبوي يرتفع في الهواء بمجرد أن “استقام”، فيصبح رمزًا لخطابٍ لا يمكن تجسيده في جسدٍ أرضي، في حين أن البدن يسقط!!

هذه المفارقة تكشف لنا أن القداسة غير قابلة للارتداء السياسي، وأن محاكاة النموذج المثالي وحده، لا يقيم دولة، ولا يعيد رأسًا مقطوعًا إلى جسدٍ ينتظر خلاصه.
لتتكرس الألِغورية في المتن، عند انتقال البطل إلى رؤوس القادة:

(هام برأس سرجون الأكدي أو الكلداني لا فرق).

هنا يتداخل السرد الميثولوجي بالتاريخي، ويصبح اختيار سرجون فعلاً يحمّل ذاته إرث الدولة المركزية الأولى كما تقول أسطورة سرجون السومرية، غير أن هذا الإرث “يحرق الكفّ”، كما يرد في النص: (وما أن أمسك به حتى احترقت كفاه)، هذا الاحتراق يبلور تصورًا وجوديًا بأن السلطة التاريخية ليست قابلة للاستعارة؛ فالأمبراطوريات القديمة تصطدم بالبنية المعاصرة للفكر الذي يتعامل معها الآن.

يبلغ نص الجلبي ذروته حين تنفد خيارات الأسلاف، فيعود البطل إلى رأسه الأصلي فيقول:

(حتى عاد إليه رأسه المستجيب لتداعياته)، هذا الاسترجاع يمثل لحظة كشف سردي، والتحوّل إلى وعي جديد؛ فالرأس المستعاد ليس رأسًا جاهزًا وإنما الرأسٌ المُجبَر على اتخاذ القرار:
(إما أن يصبر ويكون مسؤولا عن قراراته أو يصبح دمية).

هنا تستقر رسالة النص في جوهرها: الهوية لا تُستعار ولا تُرتدى ولا تُستجلب من خزائن التاريخ، وإنما تتنامى عبر مسؤولية متراكمة، وإن كانت موجعة.

بهذا المعمار الدال، يعد السرد ألِغورية سياسية–وجودية تُفكِّك علاقة الذات بتاريخها، وتعرض الأزمة المركزية بصيغة رمزية واسعة تمتد بين الأسطورة والواقع، وبين الرأس والبدن، وبين الإرث والمسؤولية، يشتغل النص على استراتيجية سردية تجعل من “الرأس” البنية المجازية الشاملة، الممثلة للعقل الجمعي، وتفصح عن حاجة تاريخية إلى صياغة رأس لا يطفو في الهواء، ولا يحترق في اليد، بقدر ما يتصل بجسدٍ يقدر على النهوض.

يمتد بنا الاشتغال الألِغوري في القسم الثاني من هذه الدراسة نحو تفكيك دلالات الرؤوس بوصفها سردية موازية لتاريخ العراق؛ حيث تتحول الشخصيات المختارة من الأسلاف إلى “نُسخٍ رمزية” من نماذج الحكم والفكر والسلطة؛ فظهور رؤوس الحكّام القدماء مثل سرجون وسنحاريب ونبوخذنصر يُعيد – مما لا شك فيه- تشكيل الخريطة الذهنية للذات الساردة، التي تتعامل مع هذه الرؤوس بوصفها احتمالات للهوية، أو بالأحرى، كنماذج تمثيلية للقوة والحكمة والصراع والاستدعاء لمظاهر الهيمنة.

يُظهر النص هذا التعامل عبر استعارات جسدية قوية، حين يقول: (عانى كثيرا من رؤوس القادة كسنحاريب وآشور ونبوخذ نصر…..)، تُشير هذه المعاناة إلى أنّ كل رأس يحمل إرثًا مُفرطًا في القوة، إرثًا لا يستطيع جسد الآن احتماله؛ إذ تمثل هذه الرؤوس ثقلاً حضاريًا وسياسيًا يفوق قدرة الكيان المعاصر على التمثّل، وبذلك يبرز تصور نقدي ضمني مفاده..
إن تاريخ الإمبراطورية لا يُستعاد بإعادة تركيب رأس قديم، وإنما يتطلب بنية جديدة تتجاوز عبء الماضي، تتعلم من دروسه، وتتجاوز عثراته.

لتتخذ الألِغورية هنا بُعدًا فلسفيًا معقّدًا؛ فاختيار الرأس يعد فعلًا معرفيًا، إن تجربة ارتداء الرؤوس— من الأنبياء إلى القادة— تُظهر أن أزمة الهوية في النص ليست بحثًا عن الأصل، بقدر تمحورها في البحث حول الإطار المعرفي، الذي يمكن من خلاله تفسير الأنا، كل رأس يحمل رؤية للعالم، ويحمل معه نظامًا أخلاقيًا وسياسيًا؛ إلّا أنّ هذه الرؤوس جميعها تفشل في التناغم مع الجسد الذي (تورّم من الأسئلة).!!
فالتورّم دلالة معرفية، وهو أحد الأعراض التشريحية الدالة على خلل وظيفي؛ مما يعني الإشارة إلى تضخّم الأسئلة قبل القدرة على حمل الإجابات.

يُعيدنا هذا المسار إلى تمثيل الأزمة (الوجودية–السياسية) للذات العراقية؛ ذات معلّقة بين إرث ضارب في العصور الأولى، وحاضر مثقل بالخسارات، ومستقبل لم يُصنع رأسه بعد، تتجلى هذه الرؤية في الجملة المفصلية:

(لا رأس إلا رأسه فوق بدنه إما أن يصبر ويكون مسؤولا عن قراراته أو يصبح دمية).

هنا يستمر المعمار الألِغوري في التصاعد حد الوصول إلى أعلى تجلياته؛ فالذات تحسم الأمر بحكم فلسفي، الهوية مسؤولية، وليست ميراثًا.

لينتج النص بذلك خطابًا نقديًا حول مفهوم القيادة والسيادة، وحول علاقة الفرد، والجماعة، والماضي.
إن العودة إلى الرأس الحقيقي ليست دعوة إلى الانغلاق والرجعية؛ لكنها بمثابة الإعلان عن نهاية مرحلة “الاستعارة” وبداية مرحلة “التكوين”، ففي هذه اللحظة يتحول السرد من رمزية الماضي إلى واقعية الحاضر، والأمل في المستقبل، ويصبح الرأس رمزًا للعقل الجمعي الذي استنفد محاولات الاتكاء على الأسلاف كلها، فلم يبقَ إلا أن ينشئ رأسه الخاص؛ ليعبر أزماته.

في هذه القصة تتجلى قوة السرد لدي الكاتب في قدرته على تحويل الرمز إلى كائن حيّ، وعلى منح الجسد لغة تفوق حدود الفرد؛ إذ يصبح الجسد هنا وطنًا، ويصبح الرأس تاريخًا، وتصبح عملية الاختيار إعادة تشكيل لرأس جماعي طال انتظاره.
بذلك يحقق مراده عبر أسلوب يقوم على التكثيف، واللغة المقتصدة في التفاصيل، والمشحونة بالدلالات؛ ما يجعل السرد الألِغوري إطارًا ناجحًا؛ لتحليل التحوّلات العميقة في الوعي الأدبي العراقي المعاصر.

بهذا البناء، يقدّم النص تجربة سردية حداثية، تُحاكي استعادة الرأس بوصفها مشروعًا لإعادة تعريف الذات، حيث يصبح السرد الألِغوري وسيلة للكشف، وللتأسيس، ولإعادة النظر في النماذج الكبرى التي حكمت مسار التاريخ، وصولًا إلى رأسٍ واحد يصلح للوقوف فوق جسدٍ يبحث أخيرًا عن معنى وجوده، فيحاول النجاة صارخا: إلا رأسه.

منال رضوان – ناقد أدبي، مصر

القصة إلا رأسه
الأديب والشاعر واثق الجلبي – العراق

إلا رأسه

في نشاطٍ ذهني عصفَ بهِ كما جرت مجاذيفُه السائبة كأضلاعه التي لا يعلم أين مستقرها وقف أمام سعفة ميتة مدهوشا ناشرا كثافة أفكاره على رأس نخلة مقطوع ، كانت طوابير الرؤوس المقطوعة بعناية تمرُ أمامهُ ولهُ أن يختارَ رأسا بديلا ليرى صلاحية ما اختارهُ على بدنهِ المتورم من الأسئلة التي سقطت عليه ، قرر أن يأخذ رؤوس القادة والحكماء العراقيين فقط لأن بابل أنجبت الشمس والقمر والكواكب فما من مسوغٍ لرؤوس لم تُصنع في أرضه ، بدأها بآدم حيث وضع رأسهُ الزقوري جانبا وما أن استقام الرأس حتى سقط البدن وبقيّ الرأسُ مرتفعا في الهواء ، استراح لفكرة أنه ليس نبيا ، كانت العتلات تدور وتحت رأس كل شخص اسمهُ ، بعد أن جرب رؤوس الأنبياء قرر أن يختار رؤوس القادة ، هام برأس سرجون الأكدي أو الكلداني لا فرق فصمم أن يرتديه وما أن أمسك به حتى احترقت كفاه ، عانى كثيرا من رؤوس القادة كسنحاريب وآشور ونبوخذ نصر حتى عاد إليه رأسهُ المُستجيب لتداعياته ، لا رأس إلا رأسه فوق بدنهِ إما أن يصبر ويكون مسؤولا عن قراراته أو يصبح دُمية.

operamisr.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى