ساحة الإبداع

ننفرد بنشر “وجبة الغداء” الفائزة بالمركز الأول في مسابقة مجلة القصة الذهبية لـ “أميمة رشوان”

في تلك الدار التي يلفها الصمت على أطراف قرية الصيادين كانت تجلس السيدة الخمسينية متكورة على نفسها تضم ساقيها النحيفتين إلى صدرها، واضعة رأسها بين راحتيها، وبينما هي هكذا تحرك الهواء الراكد الجاثم على جدران المنزل تحت حفيف جلباب زوجها العائد من السوق عندما اقترب منها زوجها بخطوات متثاقلة ووجه تجمدت ملامحه، وعيون منطفئة كمن بعثرت الرياح حصاد عمره.
وضع أمامها سلته المصنوعة من الخوص وانزوى ليجلس متقرفصا في سكون في الركن المقابل لها، بينما توغر صدره نيران الذكريات المتقدة، اعتاد على فعل ذلك في هذا اليوم من كل أسبوع منذشهور، يأتي بالأسماك لتكون وجبة الغداء.
تبقَّى هكذا لساعات تنتظره، تقيدها الذكريات والهموم في مكانها لكن ما إن تراه يدب النشاط في أوصالها الخاملة، وتنفرج أخاديد وجنتيها ويكسو وجهها النور فهذه الوجبة المحببة لوحيدها فؤاد.
يتملكه العجب وهو ينظر إليها في صمت ليراها تتبدل وتَضْحَى امرأة أخرى، ملامح الوجه تتغير وترقّ، الجلد الذي يبدو في باقي الأيام كأنه منقوع في الماء لأسابيع يعود أملسَ بَضًّا، وعظام وجنتيها البارزتين كخدي مومياء تكتسيان لحما وتطريان وترتسم عليهما ألوان زهرة حب حمراء، يختفي وجع مفاصلها فتتحرك هنا وهناك بروح فتاة في ربيع العمر.
تحدث نفسها: “إن فؤاد يحب السمك المقلي المقرمش، ويحبه طواجن أيضا”. فتمسك بالسمك تنظفه جيدا، وتصنع منه عدة أصناف، فتضع بعضه في البرام ثم توقد فرن الحطب وتدسه فيها، وتترك الباقي لتقليه، منذ أن كان صغيرا يعشق البحر وما يخرج منه، تتذكر عندما كان يختفي من أمامها ويطول غيابه فتبحث عنه في كل البلدة ليجدوه أخيرا نائما في إحدى المراكب القديمة على الشاطئ.
كان فؤاد شابًّا بهيَّ الطلعة طيب القلب محبوبا من الجميع، هو الولد الوحيد بعد ثلاث بنات حملته في حنايا القلب قبل البطن، بعد أن حصل على شهادة الإعفاء من الجيش أراد أن يسافر مثل باقي شباب القرية الذين وقعوا تحت غواية الشاطئ الآخر، فحملوا أرواحهم وأحلامهم إليه يتغربون لبضع سنين ثم يعودون محملين بالخيرات.
عندما عزم على السفر باعت له سوارها الوحيد واستدانت الباقي. تحاملت بيديها على الأرض لكي تنهض واقتربت من الفرن، أزاحت الغطاء عن وجهها لتطمئن على الطواجن بداخلها، أخرجتها بعد أن تأكدت من نضجها ثم جهزت السمك المقلي.
دخل فؤاد عليها يوما وهو يطير فرحا منفرج الأسارير لا تجد قدماه مكانا لها على الأرض، حملها بين ذراعية ودار بها، أخبرها أنه اتفق مع أحد المراكب التي تحمل شباب القرية إلى الجانب الآخر، لا تدري لماذا شعرت حينها بقبضة تعتصر قلبها، ولكنها تجاهلت الأمر عندما رأت الفرحة تتقافز من عينيه. في اليوم الموعود حمل حقيبته، وبعض المتاع القليل الذي يكفيه مدة بقائه على ظهر المركب في عرض البحر.
نظر إليها طويلا، يريد أن يطبع صورتها في نني العين، طوّقته بذراعيها، ظل ساكنا في حضنها كأنه عاد طفلا صغيرا، أفلتته بصعوبة فقط عندما سمعت أصوات رفاقه يستعجلونه في الرحيل. ركبوا المركب وفي منتصف الرحلة كانت فورة أحلامهم أكبر من أن يحتملها مَن كان الغدر طبيعته؛ فأضحى هادرا عتيا، ذابوا في لجته. أيام يبحثون عنهم، عاد مَن نجا منهم، خرجت تتفحص الوجوه لم يكن فؤاد من بينهم، غابت عن الدنيا لأيام.
بعد أن وضعت الطعام على الطبلية أخذت من كل صنف بعضه، وضعته في سلتها وحملته وهي تجر ساقيها جرا حتى وصلت إلى الشاطئ، خاضت في مياهه ارتفع صوتها بالنداء على ابنها مرددة اسمه:
-فؤاااااد، يافؤاااااد، الغداااااء.
ثم أفرغت سلتها على سطح المياه وعادت أدراجها تجر أوجاع فؤادها وهي تتمتم: “يا بحر الهوى، أمانة ما فاتش عليك عايم؟ رد البحر قال: فات وكان ع الخشب نايم”.
غير مبالية بنظرات الصيادين الذين يهزون رؤوسهم، ويتوارون خلف نظراتهم التي تنعتها بالجنون.

 

 

https://www.youtube.com/@ElgemelyAhmed

 

https://operamisr.com/2023/03/

 

 

 

 

أوبرا مصر ، ساحة الإبداع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى