صلاح بيصار يَكتُب : الفنان محمود مختار ..بين “اون”و “كاتمة الاسرار “

إذا كان مثال مصر محمود مختار ..قد دخل من بوابة التاريخ والخلود.. بعد أن أطلق شرارة الإبداع الأولى فى فن النحت الحديث.. من بداية العقد الثانى من القرن العشرين ..فلاشك أن فن النحت حاليا يعد فى مقدمة الفنون ..باختلاف مجالاتها من التصوير والرسم والجرافيك.. مع فن الخزف الذى يعد شريكا له فى هذ المستوى الرفيع ..وقد أصبح لدينا أجيال عديدة حفرت فى مجرى هذا النهر الخصيب ..ولعل من أحدث الأجيال بعد امتداد ما يقرب من قرن من الزمان هذا الجيل الجديد ..جيل الألفية الثالثة ونحن فى عقدها الثانى ..وهو جيل شكل ملامح متميزة فى الابداع المجسم ..مثلما اقتحمت الفنانة المثالة ..ذلك المجال مع صعوبة الأداء فى التشكيل والتعبير .
ومن بين شباب النحت الذى ينتمى لهذا الجيل ..يعد الفنان محمود مختار صاحب تجربة تبشر بالتفاؤل وقد أخذ من اسمه نصيب.. مع استلهامه أيضا للمصرى القديم مما جعل له ملامح فى فنه ..من خلال الدأب والاخلاص فى الخامة بما يعد من فنانى الأحجار الصلبة ..التى تمتد بالنسبة له من الجرانيت الوردى والبازلت .
جاء ولع الفنان بالمصرى القديم وتوحده مع حضارة “اون ” من تلك المنطقة من شرق القاهرة بعين شمس الحافلة بالاثار..التى اطلق عليها اليونانيون مدينة النور او الشمس .
ولاشك ان عكوفه دارسا لحضارة الاجداد ..فى تلك المنطقة ..قد جعل لاعماله عموما مايؤكد علاقة الحداثة بالتراث ..من حيث التامل والاستلهام من اجل ان يتواصل الابداع المصرى من البدايات الاولى فى التاريخ ..الى الحاضر المعاصر ..وهو مفهوم يعد نصب أعين من يتلمسون معنى الحضارة ..داب عليه فنانونا من اصحاب الرؤى من مختلف الاجيال .
وتمتد اعمال محمود من الكتلة النصفية ..التى تفرض حيزها على الفراغ والراسية للشخوص التى تشق الحيز ..مع تلك الاختزالات التى تجمع بين روح التشخيص والتجريد فى تعايش وتجاوب ..مايشكل حالة تعبيرية فيها الصمت والسكون وفيها ايضا الغموض الناشىء عن التخلى عن التفاصيل ..وربما جاءت منحوتته النصفية السوداء لوجه فتاه تنتمى لعام 2015 ..بمثابة خريطة الطريق لاضافاته النحتية بعد ذلك ..من خلال تلك الوجوه العديدة والفارق فيما بينها فى الحالة التعبيرية ..وبين التشكيل الراسى والافقى تبدو بعض الاعمال ..بروح المصرى القديم تتميز فيها الكتلة بالثبات والاستقرار.. من تلك المنحوتات الهندسية المكعبة وقد اضاف اليها بعض التفاصيل من ملامح الوجوه ..وهى حالة تضيف الى اعماله من حيث التنوع مثلما جاءت منحوتته للفتاة العصرية.. صاحبة الشعر بهيئة “كحكة ” دائرية .. وفى نفس الوقت الانتقال من الصمت الى البوح ..ومن السكون الى مايوحى بالحركة الكامنة .
وتبدو منحوتات الفنان للكائنات الاخرى من الطيور كالبطة والطائر فى وضع ساكن لكن محملة بطاقة الحركة ..والجميل تلك الكتلة الهامسة بالتفاصيل تندغم فيها الرقبة مع الجسد ..فيها روح الحياة وبعد الزمن ..كما فى البطة التى بدت بهيئة قارب مسحوب اقرب الى صندوك مسمط خرج منه الراس الناتىء فى ايماءة ..انتقلت بالمنحوتة من السكون التام الى الحركة .
ومن بين اجتهادات الفنان مختار حواره النحتى ..مع مثال مصر مختار من خلال منحوتته “كاتمة الاسرار”.
كاتمة الاسرار لرائد النحت الحديث”برونز 1926″ ..واحدة من فلاحات مختار الخالدات ..بدت فى شكل هرمى محتشدة بكل طاقتها ترتكز ذقنها على راحتيها التى تحيط كتلة راسية تاكيدا لقوة الاحتشاد ..تبدو بملامح الوجه غارقة فى الدهشة والافكار الدفينة الحافلة بالاسرار .
اما محمود مختارالحفيد فقد حافظ على الروح بهيئة فلاحة .. من خلال وضعية الكتلة الهرميه.. لكن فى اختزالات من عناصرقوسية ودائرية ..كما فى الوجه الذى يبدو بلا تفاصيل والوعاء الدائرى الناتىء من اندغام الذراعين فى الصدر فى مسطح هندسى ..والتشكيل من اسفل جاء بمثابة الترديد اللحنى للاقواس ..تحية الى محمود مختار الفنان الشاب والى ابناء جيله ..جيل الالفية الثالثة ..ننتظر منهم الكثير فى التشكيل والتعبير ..والبحث فى التراث فى فن النحت.