د. حسين عبد البصير يكتب الإسكندرية سيدة مدن العالم
تعد مدينة الإسكندرية العالمية، بنت الإسكندر الأكبر، هي مجد الثقافة وحاضرة التاريخ ومبدعة الحضارة. وكانت الإسكندرية مدينة متميزة طوال عصورها التاريخية منذ أيام التأسيس فب عهد الإسكندر الأكبر وفي العصر البطلمي من آثاره الجميلة، أو ما يعرف العصر الهيللينستي حين امتزجت حضارة الشرق مع حضارة الغرب على أرض مصر الخالدة. وفي ذلك العصر، تحولت مصر إلى دولة بل إمبراطورية ذات طبيعة مزدوجة تجمع بين العنصر الهيلليني، الممثل في المحتل الوافد الذي كانت تربطه صلات قوية وقديمة وعديدة بمصر القديمة، والعنصر الشرقي ممثلاً في مصر الفرعونية وحضارتها العريقة التي أبهرت الوافد البطلمي وجعلته يتأثر بها للغاية. وفي النهاية، نتجت حضارة جديدة هي الحضارة الهيللينستية التي جمعت بين حضارة اليونان القديم ومصر القديمة.
وقام الملوك البطالمة باستكمال ما بدأه الإسكندر الأكبر في مصر ولكن من خلال منظور واقعي سعى إلى تكوين إمبراطورية وراثية في الشرق الأدنى القديم. وظهر ذلك جليًا وبوضوح الشمس في كبد السماء في آثار مصر في مدينة الإسكندرية الساحرة التي طغت بآثارها الخالدة على ما عداها من آثار مدن البحر المتوسط.
ووصلت مصر إلى مستوى ثقافي متقدم. وأصبحت مدينة الإسكندرية ومكتبتها العامرة من أهم المراكز الثقافية والحضارية في عالم البحر المتوسط.
واهتم الملوك البطالمة بمصر الأخرى ومدنها، وأعنى مدن مصر الوسطى وصعيد مصر. وانتشرت المعابد المصرية في ذلك العصر في عدد كبير من مدن ومراكز صعيد مصر الحضارية. وعبر الفن في ذلك العصر عن روح جديدة مزجت بين الموروث المصري القديم. وأضاف صفات وسمات جديدة حتى يناسب الجميع: مصريين ويونانيين يعيشون على الأرض المصرية العظيمة. تلك روح مصر التي تحول الوافد إلى مصري وتجعله يسعد بروحها الحضارية التي ليست لها مثيل في العالم أجمع.
ثم جاء العصر الروماني ومن بعده العصر الإسلامي والعصر الحديث والعصر المعاصر، وظلت الإسكندرية المدينة الحضارية والثقافية المبهرة دائمًا وأبدًا.
لقد تجذر التاريخ في أرض مدينة الإسكندرية العالمية الخالدة، ابنة الإسكندر الأكبر الوحيدة الكبرى، وتقدير البطالمة للمرأة حين شاركت في الحكم ملكات الإسكندرية البطلميات الجميلات القويات، وقمن بأدوارهن الملكية مثل الملوك البطالمة من الرجال، أو حين انفردن بالحكم مثل الملكة الأجمل والأشهر والأعظم في التاريخ على الإطلاق، الملكة المصرية السكندرية البطلمية كليوباترا السابعة الذكية والقوية، التي سحرت العالم كله وأعين الرجال الأقوياء في ذلك العصر، وحافظت على استقلال مصر، على الرغم من الضعف الذي حل بأسرة البطالمة في النصف الثاني من تاريخها، وعلى الرغم الأنواء السياسية الصاخبة في تلك الفترة، وعلى الرغم من تغير موازين القوى وسيطرة روما على مقاليد الأمور في العالم كله، خصوصًا في منطقتنا من الشرق الأدنى القديم. وكذلك استعرضنا بعضًا من آثار الإسكندرية الساحرة، ومتاحفها الجميلة. وعايشنا التعايش والتسامح على أرض الإسكندرية الحاضنة بقوة للأديان السماوية الكبرى: اليهودية والمسيحية والإسلام، وكذلك انبهرنا وانفعلنا بمدينة الإسكندرية الحاضنة والراعية والمنمية والمزهرة للثقافات والأجناس والأعراق والجنسيات والعريقات المختلفة، والمزدهرة والراقية بالثقافات والحضارات والديانات والعرقيات. ونقطف من ثمار مكتبة الإسكندرية العالمية، درة التاج، وراعية الثقافات والفنون، ومجمعة الحضارات، وحامية الآثار والتراث، وبيت الإبداع، وحاضنة الماضي ومجددة الحاضر ومستشرفة المستقبل في مصر والعالم كله.
وفي ظني ويقيني، أنه لا توجد مدينة في العالم كله قد تمتعت، وما تزال، بما تمتعت به مدينة الإسكندرية العالمية من صنع وعشق للتاريخ، وتقدير واحترام وتحرير للمرأة، وإنتاج آثار، واحتضان للمتاحف، وتعايش وتسامح بين الأديان والثقافات والجنسيات وإبداع للثقافة والحضارة.
وفي رأيي، إن هذا هو دور ورسالة مدينة الإسكندرية الخالدة منذ أقدم العصور، وإلى الآن، دائمًا وأبدًا، وكما أراد لها مؤسسها، الفاتح العظيم الإسكندر الأكبر، وكان له ما أراد، وتحقق له ما حلم به، وخرج إلى الوجود ما تمنى بصدق وجرأة وجدة في العالم القديم آنذاك، والذي لم يكن أهله من الإغريق يرون أحدًا غيرهم في الكون كله، بيد أن الإسكندر الأكبر غيرّ الكثير من المفاهيم، وجعل من العالم شرقه وغربه وحدة واحدة تحت زعامة وقيادة ورئاسة مدينته الخالدة، مدينة الإسكندرية الكوزموبوليتانية منذ عهد الإسكندر الأكبر وأبدًا أبدًا.
فتحية حب وتقدير وعشق وهيام لمدينة الإسكندرية العالمية الساحرة وأهلها الكرام منذ زمن الإسكندر الأكبر، المؤسس التاريخي الأول لها، ومن قبله حين كانت قرية بسيطة في أيام الفراعنة، وإلى الآن، وإلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض وما عليها.
د. حسين عبد البصير
مدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية