أحمد الباسوسي يكتب جمعة يتيمة
الطريق الى المسجد كان مفروشا بالصهد، كأن شمس يونيو تنتقم من اولئك النفر الذين يركبونه في تلك الساعة من الظهيرة، يبدون مثل اشباح نحيلة قصم الاعياء ظهرها فصارت تمشي مقوسة، ثقيلة الحركة، تنز منها حبات العرق كما الندى ينثال من شجرة التوت. الغصة كانت تمشي معه في ذلك الطريق المحرق، اليوم الجمعة الأخيرة في شهر الصوم، على مشارف بضعة أيام من نهايته. عطش الصيام تمكن من زوره، لكن ما يزال صامد، يمضي في الطريق منجذبا بقوة مغناطيسية جبارة لصوت الشيخ على المنبر، الصوت يضرب الآفاق من خلال مكبرات صوت قوية معلقة على سور المأذنة العالية، المكبرات تقذف بالصوت الى جميع الجهات الاربعة الاصلية للكرة الأرضية. اهتاجت داخله أشجان الفراق، والم لحظة النهاية، هل حقا سوف تكون تلك لحظته الأخيرة وهو متلبس هذه الحالة؟. هل يودع جمعاته اليوم؟، يدرك ان لكل شيء نهاية، لا يوجد شيء يدوم، كما لا يوجد شيء حقيقي. الزمن على الطريق ليس الزمن هناك على طريق آخر لاتنتقم منه الشمس مثل تلك اللحظة، والمكان هنا ليس المكان هناك في جانب آخر، والمسافة ايضا هنا ليست المسافة بعينها هناك بعيد، وراء هذا الأفق المتجهم. ما الحقيقة اذن؟!. تلك الأصوات التي ترسلها عقيرة رجل يخطب في الناس الآن ربما يكون شاب، أو ربما هو رجل هرم، لم يتحقق من شخصيته بعد!، تغمض عليه مع شدة صهد الحر، وشدة العطش، وهجوم قطرات العرق التي لايستطيع وئدها. كل ذلك راح مع اعصار الغصة التي قبضت خناقة بينما يمضي الآن في اتجاه المسجد الرابض في نهاية الشارع بواجهته المهيبة، وبوابته الضخمة، والمأذنة المسنونة التي تناطح السماء في ارتفاعها كأنها مسلة فرعونية عظيمة. هل حقا انتهى الأمر وسوف تكون تلك الجمعة الأخيرة التي أعيشها بوجداني المتلألأ الجميل وتلك الحالة الانسانية الفريدة التي تتلبسني؟، انقلب كل شيء داخلي، وانقلبت أيضا على كل شي. قائمة كبيرة من الممنوعات تجبر اعضائي الداخلية على الانصياع والتأدب، وتواجه دماغي المتباهي بحتمية الانصياع والطاعة. ممنوع الطعام، ممنوع الشراب، ممنوع التدخين، ممنوع التهور أو اقتناص لحظات من الرعشة الخاطفة الحميمة مع انثاي، ممنوع النميمة والتطفل رغم شغفي الشديد لذلك. الليل دائما ممطوط، متمدد، زحام، ضوضاء، سهر، شوارع مزخومة بالناس والضوء والضوضاء، اطفال ونساء لا ينامون، علقت عناقيد ورق الزينة الملون في كل مكان، الأنوار الصفراء الزاهية والملونة تضيء الدنيا وتشكل حياة أخرى مبهجة، معبأة للقلوب بالفرحة رغم بؤس واقع الناس ومرارته، حياة تأتنس بالناس، وانفاسهم على المقاهي والساحات وفي المنتديات وحتى في الشوارع، تتلألأ حركتهم فيها حتى الساعات المتأخرة من الليل، تصبح الدنيا مصنعا للبهجة والفرح رغم كل شيء، وفي المساء يقف في الصفوف الأخيرة خلف الامام في صلاة التراويح والتأمل والخشوع، يعيش مع الجموع لحظة ذوبان فريدة في الناس ومع الناس. سهرات الخلاء مع الاصدقاء السهرانين تمتد حتى الفجر، لها نكهة مميزة لا يمكن تذوقها سوى في هذا الوقت من العام فقط. ثرثرة مكبرات الصوت تتدافع مع سخونة أسفلت الطريق المترب الذي تستفزه اطارات السيارات المتعجلة للحاق بصلاة الجمعة الأخيرة، الأتربة الساخنة تتطاير، تملأ عيناه الملتهبتان بألم الفراق. صوت ثرثرة الشيخ يغمض أكثر فأكثر كلما اقتربت قدماه من بوابة المسجد، الغصة تتملك كل كيانه، لم يعد بامكانه احتمال ألم فراق الأيام، دموع كثيرة ذرفت، النحيب تحول الى بكاء بصوت مسموع، دخل المسجد، الاعياء تمكن منه تماما، وضع حذائه على الرف القريب، كاد يسقط على الأرض، فزع نحوه شابان كان يتابعانه في بكاءه، استند على ساعديهما، ارتفع صوت نحيبه، صوت الخطيب لا يزال ماض في طريقه لكن لا يصل الى المنتحب، حاول الشابان تهدئته، انضم اليهم آخرون آثروا الهروب من ثرثرة خطيب المنبر. قال أحد الجلوس وكان يتابع الموقف باهتمام لافت ” رجل يبدو في أزمة أو مشكلة، أو يدعي مشكلة للحصول على المال من المصلين”، وافقه كثيرون. بعد انتهاء الخطبة، نزل الشيخ من فوق المنبر، أعلن للناس قبل ان يبدأ الصلاة ” من يطلب مساعدة مالية عليه ان يخرج من المسجد ويطلبها وراء الباب”. عاصفة النحيب تحولت الى اعصار، لم يفهم ما قاله الشيخ، ربما لم يسمعه من أصله، ولم يفهم كل الذين احاطوا بالرجل، أو حاولوا مساعدته انه لم يعد يحتمل ألم فراق ايامه التي تمرق بسرعة حتى اقتربت من حافة النهاية.