ساعة أو أكثر تَغيبتُها عن المنزل – عقب خروجي من المدرسة، وأنا في الصف الخامس الابتدائي – قضيتـها مع أصحابي مُتسكعًا في ضواحي المدينـة، وأطرافها. كان بينها سوق الأحد، عزبة الشقنقيري، محلج القطن، ومزلقان محطة السكة الحديد. وعدتُ إلى البيت، وأنا أفكر في سبب مقنع لتأخري أسوقه على لساني؛ كي لا أتعرض للتوبيخ.
بعد أن تخرجتُ في الجامعة، وتنقلي بين مكانٍ وآخر للعمل، كان حتما مقضيًا أن أمشي يوميًا مسافة طويلة، والولوج في اتجاه مزلقان محطة السكة الحديد؛ للذهاب إلى عملي الجديد. لم تكن أمامي فرصة عمل أخرى في هذه المدينة؛ فاستمسكتُ بها، وهي كرهٌ لي. لم يعد يعني لي فيما بعد مجاوزة المزلقان بأية حال من الأحوال، أني قطعتُ شوطـًا كبيرًا، بعيدًا عن مداري، كما كان شعوري السالف. أداوم المضي إلى الشغل دون انقطاع، مهما بلغ بي التعب مبلغهُ – ليس حُبًا فيه – وقد تمنيتُ أن يصير يوم العطلة يوم عمل؛ كيما يتسنى لي أن ألتقي حبيبتي سلوى.
كانت هي تُقبِّح طريق المزلقان،ولا تأمن المشي فيه، هكذا حدثتني. بعد عام من العمل معها، ولقائي بها يوميًا، تصير قدمايَ عصيتينِ على تخطي شريط السكة الحديد، فَكما تنفذ إلى أنفي رائحـة الســولار المتسرب مـن خزانات وقود القطارات، تنفذ إليَّ رائحتها. كانت الساعة التاسعة مساءً وقت أن صادفتْ خُطايَ خُطاها في سكة المزلقان. أذكر أنها كانت ليلة ممطرة، وأقدام قليلة تخطو مُتوخية الحذر فيما تبقى لها من ضوء كشافات العربات؛ فكثيرون عند دخول الليل يؤثرون صعود الكوبري. مشيتها، عطرها، إِزارها الشتويُّ، نبهني اليها. تحدثنا قليلاً حتى سحبت يدها من يدي، وهي تقول:
– بابا ينتظرني في معرض السجاد.
كان معرض السجاد يقع في برج الإسراء خلف المزلقان، وكان هاشم يقطن أعلاه، ولم أكن أدري بعد أنها اعتادت المجيء إليه.