عفيف قاووق يكتب إضاءة على رواية ” والله راجع”
رواية “والله راجع” للكاتب الفلسطيني د. محمد عبد السلام كريّم، أشبه ما تكون بوثيقة تاريخية قدّمها لنا الكاتب بقالب روائي اعتمد فيها تقنية الراوي العليم، وتؤرخ لمرحلة زمنية عاشتها فلسطين عمومًا ومدينة صفد بالتحديد، وذلك مع بداية انطلاق الثورة الفلسطينية ضد الإحتلال البريطاني ومعه العصابات اليهودية.
يلاحظ أن الكاتب إستفاض في الإشارة إلى اليوميات المعاشة في مدينة صفد والحديث عن الأسر الصفدية ويومياتها حيث أفرد لها مساحة لا بأس بها من صفحات الرواية، متخذا من أسرة أبو نايف النموذج الحيّ عن تلك الأسر والعائلات. مُبرزًا التعاضد والتكاتف الأسري بين أفراد العائلة الواحدة فكانوا في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى كما يقول رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام. وقد ظهر هذا التكاتف خلال المحنة التي أصابت العائلة نتيجة الكسر في الجمجمة الذي أصاب ابنها (العبد) عبد السلام.
كما أجاد الكاتب في توصيف الأماكن والعادات الأسرية و التغنّي بمدينة صفد تلك المدينة الموغلة في عمق التاريخ من لدن كنعان أوربما قبله والتي تشبه حمامة بيضاء رمت بجناحيها على جبلين وأرخت برأسها على عدة تلال، في حين استراح جسدها وذيلها على أودية بين تلك الجبال في هذه البيئة الجبلية المرتفعة وهي حاضرة الجليل وعاصمته. و جرمقها أعلى جبل في المنطقة، وفيها الكثير من المواقع المهمة المختلفة، فمن الشعرة الشريفة إلى القلعة فالجامع الأحمر، وغيرها الكثير.
وينتقل بنا الراوي العليم إلى مرحلة ثانية وتحديدا مع أواخر العام 1935 وبدايات عام 1936 حيث بدأت المضايقات البريطانية واليهودية للشعب الفلسطيني تطفو على السطح، فكانت بداية الثورة الفلسطينية للتصدّي للاحتلال البريطاني وخاصةً في دعمه غير المحدود للهجرة اليهودية، من كل أرجاء العالم باتجاه فلسطين.
وللتأكيد على اللُحمة الوطنية بين شرائح المجتمع الفلسطيني أظهرت الرواية الدور المهم والفعّال لكل من المساجد والكنائس، وتعانق الهلال مع الصليب بالفعل لا بالقول،من خلال كل من الشيخ علي خطيب المسجد والراهب عطالله في كنيسة السيدة مريم العذراء. حيث تولى كل منهما وعلى طريقته فيشحذ الهمم وتحريض المواطنين على الجهاد والتصدّي للإحتلال البريطاني والمحافظة على الثوابت وإبطال المخططات الانجلو- يهودية، من هجرة وتسليح، إضافة إلى ضرورة التنبه من مغبة الإقدام على بيع الأراضي إلى اليهودي أو الإنكليزي أو غير ذلك. لأنهم يريدون صفد، ولكن خاليةً من أهلها.
وحسنًا فعل الكاتب عندما قدّمَ لمحة موجزة عن بعض الرجالات والقيادات الذين تصدّوا لمقاومة الإحتلال والعصابات اليهودية، كالشهيد عز الدين القسّام ذلك الشيخ السوري من مدينة جبلة، قرب اللاذقية، والذي قاتل الفرنسيين في سورية فطاردوه؛ ليستقرّ في حيفا، حيث شكّل جمعيةً لمقاومة الاحتلال البريطاني ومشاريع هجرة اليهود من كل العالم باتجاه فلسطين.وامتد أثره ليومنا هذا،وقد وقد خلفه بعد استشهاده في قيادة الثورة الشيخ فرحان السعدي. كما أن الشيخ أمين الحسيني بدأ بالتحضير لأعمال ثورية ضد الإنكليز من خلال اللجنة العربية العليا. إضافة إلى دخول فوزي القاوقجي منطقة المثلث مع نحو 250 مقاتلًا من العراق وسورية وشرق الأردن، بغرض الانضمام إلى قوات الجهاد المقدس.
أما فيما يخص الشخصية الرئيسة في هذه الرواية وهي العبد أو عبد السلام فقد كانت بذرة ثقافة المقاومة تنمو لديه وواجب الدفاع عن الوطن يعتمر في قلبه، بعد أن آلمه ما سمع من عمليات الإعدام التي تبنّاها الاحتلال البريطاني، ونفذها بحق المقاومين ومنهم الشهداء محمد جمجوم وعطا الزير وابن صفد فؤاد حجازي. لدرجة أن طبيعة ألعابه مع إخوته تغيرت، من (عسكر وحرامية إلى يهود وفدائية)، واللافت أنّ أيّاً من الإخوة لم يكن ليقبل أن يلعب دور اليهود. وعندما جاء البريطاني برفقة المختار لتفتيش منزل والديه اقترب العبد من المختار وقال له، بلغة طفوليّة: ” أخبرهم بأننا حتى لو لم يكن لدينا سلاح فسننتصر ويخرجون من صفد”.
وبلغة شعريّة تبرز الرواية تضامن الأرض مع الثوار ففي الحديث عن معركة صفد يصف الراوي كيف أن أرض صفد وجبالها ألبست المقاتلين خضرتها، واشرأبت أشجارها وتداخلت لتمكّنهم من التخفي والرصد. وبالمقابل تأبى هذه الأرض ان تبتلع قطرة دم إنكليزية واحدة فأغلقت مسامها.
يُسجل للكاتب أنه لم يغفل الإشارة إلى ما يمكن اعتباره بتخاذل النظام الرسمي العربي فبينما كان الإصرار البريطاني، على تشكيل كيان يهودي مستغلاً الغياب العربي والاسلامي فقد ترك الفلسطينيون وحيدين يقاومون. وقد صدق ابومصطفى–أحد سكان صفد- عندما قال “مشكلتنا الأساسية هي مع الانكليز ودعمهم للهجرة اليهودية. وكذا عدم متابعة قضيتنا من العرب والمسلمين”. لا بل أكثر من ذلك فقد قام زعماء السعودية والعراق وشرق الأردن واليمن كوسطاء ليطالبوا الفلسطينيين، بوقف الإضراب، الذي استمر نحو ستة أشهر، ويدعوهم، في رسالتهم إلى: ” الإخلاد إلى السكينة حقناً للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتهم الحكومة البريطانية.
ويبدو أن ديدن النظام الرسمي العربي منذ البدء وليومنا هذا لا يتقن سوى عقد المؤتمرات فقد عقد العرب، في أواخر 1944 مؤتمراً في الاسكندرية، ووقّعوا ميثاق جامعة الدول العربية، إلاّ أن الفلسطينيين رأوا أنّ المؤتمر والميثاق لم يعطيا الاهتمام الواجب للقضية الفلسطينية. وبقي الدعم العربي مجرّد وعود لم تتحققّ، .فكان قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين دولة يهودية ودولة عربية، عبر الأمم المتحدة في 29/11/1947 .ثم دخل عام 1948، بآلامه المختلفة والفلسطينيون كانوا بانتظار تدخّل رسمي عربي ما، لم يلحْ بعد في الأفق.
والموضوعية تقتضي منّا التفريق بين الشعوب العربية وأنظمتها ويشير الراوي لإنضمام الضابط إحسان كم الماظ. سوري الجنسية والذي جاء بمبادرة فردية منه للمشاركة بالحرب ضد العصابات اليهودية. وللأسف كان هذا الضابط المؤمن بعدالة القضية ضحية لتجاذب الأراء حول مسألة إدارة الصراع حيث بدأ الخلاف مع النقيب ساري الضابط الأردني الأعلى رتبة منه، بعد قيام مقاتلي الملازم إحسان باستهداف الحافلة اليهودية، ليطلب النقيب ساري من الملازم إحسان، إعلامه مسبقا بأي عملية ينوي القيام بها. وعندما يحاول الملازم إحسان أن يشرح له أهمية السريّة في عمليات المقاومة يتمسك النقيب ساري بالتراتبية العسكرية متوعدًا بإطلاق النار على كل من يخالف تعليماته حتى لو كان من “قبضياتك” يا ملازم إحسان !؟ وهذا ما جعل الشك يساور الملازم إحسان ليقول للنقيب: “من لحظة قدومك وأنت تحاول معرفة معلومات، ولا تريد توفير السلاح لنا. لصالح من تعمل ؟. وعندما لجأ الملازم إحسان إلى المقدم أديب الشيشكلي، وفاتحه بما يتعرض له من الضابطين، فنيش وجميعان. لم يكن لدى الشيشكلي أيّة حلول أو محاولات تسوية. بل طلب منه أن يترك صفد لفنيش وجميعان . لتتدحرج الدموع على خدّي إحسان وهو يعانق مقاتليه، ويمضي وهو يردد: أسفي عليكم با أبناء صفد.لقد باعوكم للأغراب وبأرخص الأسعار.
وفي موضع آخر تشير الرواية إلى حجم الخيبة التي عاد بها زكي قدورة، رئيس بلدية صفد، ومعه وفد من ثلاثة أشخاص من زيارته للرئيس شكري القوتلي في دمشق، الذي أبدى أسفه لعدم قدرته على توفيرّ السلاح خاتمًا حديثه بالقول:” للأسف العين بصيرة والإيد قصيرة.يا ريتني فيني أساوي شي. “. ولم تأتِ زيارة هذا الوفد للقصر الملكي الأردني بأي نتيجة ملموسة بل بوعود لا أكثر.
ويستفيض الراوي في تبيان التخبط العربي في مواجهة العصابات اليهودية كقيام الملازم أول ايميل جميعان باستبدال الكتيبة الأردنية بكتيبة أخرى يجهل عناصرها جغرافية المعارك ومصادر الخطر كما أن المدفعية اليتيمة التي جاء بها جيش الانقاذ، وكذا كتيبة الهاون قد انسحبت، في أصعب مراحل المعركة.وأمام هذه الحال يستذكر عبد السلام ما قاله الملازم إحسان. لقد بيعت صفد. لقد سلمّت صفد. ويكمل قائلاً “هل من المعقول أن ينسحب جيش الانقاذ، دون إعلامنا؟! أوليس ذلك كمن يقول للعصابات اليهودية تعالوا واستولوا على المدينة؟ ! لم يكن لمدينة صفد أن تنهار لولا أيد خفية تمكّنت من فعل ما لم تستطع العصابات اليهودية فعله.
يحدثنا التاريخ بأن الطفل الفلسطيني يولد وهو مقاوم، فلقد كان دور طلّاب وأطفال المدارس بسيطاً، في هذه المرحلة إلاّ أنّه حيوي في حماية الثوار، فعندما علم الجيش الانكليزي بأمر اجتماع الثوار في المسجد استنفر عناصره وتوجّهوا صوب المسجد للإجهاز على الثوار. لم يكن على كل طفل إلا ترديد كلمة واحدة فقط هي إجو، وتعني وصلوا . تداول الأولاد الكلمة من قرب مركز البوليس وحتى المسجد،. فما أن وصل جنود الاحتلال المسجد، حتى كان الشيخ علي يغلق باب المسجد، بعد أن خرج جميع الثوار،من المسجد سالمين.
مما لا شك فيه أن ما يطلق عليهم بيهود الداخل أشد خطرا من يهود الخارج، فقد شهدت البلاد محاولات إحباط وتهويل تولاها مجهولون على شاكلة رجل يدعى هزّاع،الذي كان لسبب أو آخر، يتجوّل حيث لا يسمح للآخرين. كان يرتدي لباساً بدوياً يختلف عن لباس بدو محيط صفد، وكانت مهمته بث الذعر وتثبيط عزيمة المقاومين. وهو ينادي: يا أهالي صفد، أولادكم في جبل كنعان والقلعة ومحيط المدينة استشهدوا… معظم مواقعهم سقطت وسيطرت عليها العصابات اليهودية… أخرجوا من المدينة قبل أن يصلوا إليكم …حافظوا على أعراضكم. وفي جولة أخرى من جولات التوهين يقول هزاع: أعتقد أنّ العرب لن يدخلوا إلى صفد. ومن ثمّ فالعصابات اليهودية لن تترك أي قرية في الجليل.
كما كان للإعلام الكاذب دوره المشبوه في المعركة حيث أن إذاعة لندن البريطانية تعلن كاذبة:” أنّ المعارك المستمرة في شمال فلسطين، أدت إلى سقوط مدينة صفد. وفرّ جميع المدنيين من المدينة، ومحيطها، باتجاه الحدود السورية والحدود اللبنانية
ختاما يبقى الأمل بتحرير فلسطين قائما والنصر آت لا محالة والكُل الفلسطيني والله راجع.