أخبار عاجلةدراسات ومقالات

منال رضوان تكتب نشيد الذاكرة ومقام الحنين في على أبوابها جئنا قصيدة عبد السادة البصري

نقد

ترتكز قصيدة الشاعر والأديب القدير عبد السادة البصري “على أبوابها جئنا” على نسيج كثيف يتجاور الحنين الجمعي فيه إلى جانب الوجد الشخصي، لتمثل حالة من الاستدعاء الشعريّ للمدينة القديمة “البصرة”، المهد الأول، والتي بموجوداتها تمثل ثيمة أساسية في أشعار البصري بوجه عام وفي هذه القصيدة على وجه التخصيص؛ إذ نراها لا بوصفها مكانًا فحسب، بل بوصفها كيانًا متخيّلاً مفعمًا بالرموز والتاريخ والمكوّنات الثقافية والوجدانية، فيمزج نصه، ذلك السرد الواضح بين الذات والجماعة، ويحوّل تجربة الشوق إلى البصرة إلى ملحمة وجدانية تشبه الطقس الجمعي، وكأنها صلاة على عتبات مدينة، حين تصير معشوقة، وأيقونة، وأمًّا، ومكانًا مقدسًا بفعل اجتياح الذكريات، ذلك المكان الذي تعبر خلاله مشاعر الفقد والرجاء والاحتجاج والتمسّك بالهوية.
يبدأ النص بتوطئة تُبنى على وعي مزدوج بين المشاركة والانفراد، بين العزلة والاحتفاء المصاحب لأصداء حكي جميع من عانق تلك المرويات، وإن شئت قل: بين محاولة “إعارة العين” للآخر والرغبة في الإقرار بتفرّد التجربة وخصوصيتها.
وهنا يلوّح الشاعر بعتبة تأويلية مهمة، حيث يهيّئ القارئ بها لتلقي القصيدة على مستويين مهمين أولهما: مستوى الشاهد الذي يرى، والثاني: مستوى العارف الذي عايش لب التجربة الممتلىء بالحنين إلى ما كان!
وهو ما يمنح تلك القصيدة سلطة وجدانية تقترن بالخبرة الكافية لصياغة الذاكرة لا بالوصف العابر.
ومن الملاحظ أن بنية القصيدة تتصاعد حتى نلمس مستوى الإيقاع الشعري، الذي يتأسس على وحدة نغمية نثرية تحمل طابعًا إنشاديا، يشبه غناء كورال المعابد القديمة، يتخلل ذلك الرجع تكرار استدعائي للأماكن والرموز المحلية نجده في مفردات كثيرة أهمها: (“يا بنت البحر”، “سليلة رب الأمطار”، “العتبات”، “الناطور”، “نخل البرحي”، “البلم العشاري”، “الهيوة”، “السامري”، وغيرها)، تلك المفردات التي جاء بعضها كانثيال لغبار الذكريات المتناثر على جسد القصيدة.

كما استطعنا رصد المستوى اللغوي التعبيري الذي يستند إلى المجاز الكثيف، والتصوير التراكمي، وتكاتف التراكيب، وتجاور الجمل القصيرة في سردية متلاحقة اللقطات وهو ما منح القصيدة بعدًا مهيبًا تصاحب دقاته دقات الإعلان عن القصيدة الطقس، كما تتعانق فيه عناصر الطبيعة والتاريخ والوجدان الجمعي فالبصرة هنا ليست فكرة يدور الجسد الشعري حولها؛ بل صارت متنا شعريًا يتشابك مع الذاكرة العراقية الجمعية من جهة، ومع محنة المكان من جهة أخرى.
فالقصيدة لا تحتفي فقط بجماليات المدينة العريقة، بل ترثي ما حلّ بها، وتستنطق شواهدها المادية والمعنوية، من الأبواب والصاج والبيوت الطينية، إلى النهر والمقابر الجماعية؛ فالباب -على سبيل المثال- الذي يمثل الحماية والزود، مع تكرار يصاحبه التركيز شديد الوضوح لمفردات (أخت، أم، ربة، سليلة، ربيبة) هذه الألقاب الأنثوية شديدة الرقة، والدفء، والحنين إلى السكينة اللاهية، والمرح الغض الذي لم تخالطه آلام الفقد بعد، هذه العناصر كلها تُستدعى لا في سياق الرثاء المباشر، والبكائيات المتخيلة سلفًا لذلك الطيف الشعري؛ بل في سياق إعادة التكوين عبر الشعر؛ حيث تتحول المأساة إلى طقس من الغناء والمناجاة والمقاومة الرمزية.

وما يلفت النظر في “على أبوابها جئنا”، هو أن الشاعر لا ينزلق إلى الخطاب الأيديولوجي المباشر، بل يُضمِّن احتجاجه في سياق وجداني شفّاف يبتعد عن الأدلجة، لصالح الشعور؛ فذكر التهميش والجور لا يأتي في صيغة تقريريّة صلبة تتنافر وطبيعة الشعر؛ بل مضمّنًا في (استدعاء للقرآن، والنخيل، والتراتيل، وأغاني البحر…)؛ بما يجعل القصيدة قائمة على خطاب رمزيّ أكثر منه خطابًا مباشرًا جامدًا، وهذا ما يُكسبها بعدًا جماليًا يبتعد عن النعرة الصاخبة المنفرة،
كما يبرز في النص توظيف كثيف للأنساق الثقافية العراقية والمفرادت ابنة بيئتها كما في: (الحناء، مقام علي، أجراس الكنائس، مروحة الخوص، الكاروك، الطواشات، الطقوس الشيعية والسنية، الأغاني الشعبية…) ما يمنح القصيدة طابعًا هجينًا يزاوج بين الشعريّ والإثنوجرافي، وبين الغنائيّ والتوثيقي، ويُحيلنا إلى وعي ثقافي عميق يختزن التجربة الجمعية للمواطن في صورة المدينة.
كذا لا يمكننا إنهاء تلك القراءة من دون ذكر بعض خصائص اللغة ومرونتها عند البصري؛ إذ تتراوح المفردات هنا بين الفصحى القوية المشرّبة بلهجة محلية، والتراكيب الشعرية ذات النزعة الغنائية، مما يمنح النص تنوعًا إيقاعيًا يُقارب القصيدة التفعيلية من حيث الجرس، رغم أنها تتوسل رحابة وفضاء القصيدة الحرة أو النثرية، وكأن التمرد حتى على القوالب الشعرية أضحى حائط الصد الباقي لدى البصري، وهذا التراوح بين (الفصحى والعامية المحلية) هو ما يمنح النص جاذبية أدائية، خصوصًا حين تُتلى كأهازيج محلية توثق الذكريات عبر الحكي.
في المستويات الختامية من ذلك النص، تتحول القصيدة إلى نوع من النشيد الجماعي، كما أسلفنا القول؛ حيث تتسع “البصرة” لتغدو رمزًا لكل أرض تُنتهك ثم تستعيد حضورها بفعل الحنين والمحبّة والنقاء، ويبلغ هذا التصعيد ذروته في القسم الأخير الذي يتوسّل صورة الأجداد والأحفاد والعمارة الشمسية؛ ليعيد إنتاج الأمل في بنية شعرية لا تنهي خطابها بالحسرة بل.. بإرادة البقاء.
بيد أنه مع ما جميع ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن الشاعر نجح في تجنيب القصيدة الوقوع في فخ النوستالجيا المفرطة؛ فحنينه ليس انسحابًا إلى ماضٍ عتيق، بل إعادة تأويل للماضي في ضوء الحاضر الجريح، وإعادة صياغة للمكان بوصفه مشروعًا مستقبليًا، لا مجرد الذاكرة فحسب.
لذا فإن “على أبوابها جئنا” ليست مجرد قصيدة عن البصرة، بل عمل شعري يستدعي بنية المدينة بوصفها قصيدة في ذاتها.
بناءً عليه فإن النص يمزج بوعي فنيّ رفيع بين الوجدان الشخصي، والتاريخ الجمعي، والأسطورة المعاشة، في تماسك شعريّ رصين، يعكس تجربة ناضجة في الكتابة الوجدانية ذات البُعد الوطني.

منال رضوان، ناقد أدبي – مصر
عضو لجنة الإعلام باتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى