أخبار عاجلةأراء حرةالرئيسية
قراءة نقدية تحليلية في قصيدة “قريتي” للاديب محمد صوالحة
بقلم الدكتورة زبيدة الفول.

قريتي
توقظ
المعابد..
توقظ الشمس
توقظ
ابناءها بعد
ان تغسل وجه الفجر
وتنثر نداها
فوق العشب
(2)
قريتي
تطرب لناي الرعاة
تغني لأطفالها
أغنية الحياة
تناغي أشجارها
كنجمة اقترب منها
القمر
أو كصوت أبي
حين يقيم الصلاة
(3)
قريتي
مفتوحة أبوابها
كبيوت الله
ينبت الطهر
في ترابها
كزهر الحقول
قريتي
ليلا تكون
قصيدة عشق
وفي النهارات تداعب
الشمس
وتغني للحب
قريتي
صوت حق
ترنيمة راهب
تسبيحة عابد
قريتي
شيخ حكيم
يعرف متى
يهدي النهارات شمسها
ومتى يجعل
من التراب نارا
(4)
قريتي
زقزقة العصافير
اذ غدت
وصليل السيوف
اذ مس التراب قرح
قريتي
نهر الكلام ،،، نبع المعاني
كلنا لقريتي لباس
وطوق نجاة
كلنا نبت ترابها
منها نبضنا
ومنها تمتد إلينا
يد الحياة
(5)
قريتي
كقلب أمي
حنان وعطاء
كوجه حبيبتي
أشراق وابتسام
كوجه صغيرتي
يمنح الورد
لونه وشذاه
قريتي
بدون ضحكتها
هل يكتمل للنهار ضياه
————————————-
مقدمة
قصيدة «قريتي» نصّ مشحون بالحنين والقداسة، يستحضر المكان لا كحيز جغرافي فحسب، بل ككائنٍ حيٍّ ينبض بالعاطفة والذاكرة والهوية. يقدّم الشاعر من خلالها صورة للقرية بوصفها أمّاً حنوناً، وملاذاً روحياً، ومركزاً للصفاء الإنساني. النصّ يفيض دفئاً وصدقاً، ويغدو بموسيقاه وصوره ترنيمةَ انتماءٍ ووفاءٍ للأصل.
1ـ المحور الدلالي والموضوعي
الموضوع المركزي هو الانتماء العاطفي والروحي للمكان. تتجلّى القرية بوصفها مهد الطهر والنقاء، ومصدر الحياة، وموئل الذاكرة. تتكامل فيها عناصر الطبيعة والإنسان والقداسة لتصبح رمزاً للصفاء الأول، حيث تتحد الأرض بالسماء، والفجر بالصلاة، والندى بالحياة.
يُعيد الشاعر صياغة العلاقة بين الإنسان ومكانه، فيجعل القرية كائنًا فاعلاً «توقظ المعابد» و«تغني لأطفالها»، وكأنها أمٌّ كونية تلد الصباح وتغسل وجه الفجر بنداها. في هذه الصور نرى شاعرًا يؤمن بأن القرية ليست ماضياً يُروى، بل كيانٌ يبعث الحياة.

2ـ البنية الإنشائية والإيقاعية
جاءت القصيدة في مقاطع مرقمة، تتّسم كل منها بوحدة شعورية تامة، وتتكامل جميعها لتشكّل لوحة واحدة متكاملة التفاصيل.
الإيقاع نابع من التكرار المنظّم لكلمة «قريتي» التي تؤدي وظيفة التوكيد الموسيقي والوجداني في آن، فهي تعزف نغمة ثابتة تعيد المتلقي إلى مركز الانتماء.
كما يتنوّع الإيقاع الداخلي بين الفعل والاسم، وبين السكون والحركة، ليحاكي دورة الحياة في القرية ذاتها. إنه نصّ يتنفس على إيقاع الطبيعة لا على بحور العَروض التقليدية، وهو ما يمنحه حرية التعبير وانسياب العاطفة.
3ـ اللغة والأسلوب البلاغي
لغة القصيدة نقية، صافية، ومباشرة في ظاهرها لكنها عميقة في باطنها.
الصور البلاغية تنبض بالحياة:
•الاستعارة في «تغسل وجه الفجر»،
•التشبيه في «كقلب أمي» و«كوجه صغيرتي»،
•التجسيد في «توقظ المعابد»،
•الترنيم الديني في «تسبيحة عابد» و«ترنيمة راهب».
كل هذه الأدوات اللغوية تُضفي على النصّ طابعاً طقسياً، كأن القرية معبد للروح، ومحراب يتنفس فيه الحبّ والنقاء.
اللغة تتنقل بسلاسة بين الحسي والروحي، بين اليوميّ المقدّس والرمزيّ الجماليّ، ما يجعل النصّ قريباً من القلب وسامياً في المعنى.
4ـ الصور الحسية والرمزية
الصور الحسية تُضفي على النصّ إشراقاً بصرياً ووجدانيّاً. تتكرّر رموز الضوء والماء والتراب والصوت، لتشكّل نسقاً رمزياً متكاملاً:
•الضوء رمز الحياة والبداية،
•الندى والماء رمز الطهارة والتجدد،
•التراب دلالة الجذور والانتماء،
•الصوت والموسيقى علامة على الذاكرة الجمعية والهوية الحية.
أما صورة «السيوف» و«القرح»، فتمثّل لحظة صراع وجرح، تُذكّر بأنّ القرية لا تنجو من آلام التاريخ، لكنها قادرة على النهوض من رمادها كزهرة الحقول.
5ـ الصوت، الموسيقى الداخلية، والإلقاء
تمتاز القصيدة بموسيقى داخلية عذبة ناتجة عن التكرار الصوتي لحروف القاف والراء والكاف، ما يمنحها نغمة دافئة تستميل الأذن عند الإلقاء.
التوزيع البصري للسطر الشعري يمنح القارئ فسحات للتأمل والتنفّس، فتغدو القراءة رحلة حسّية توازي مضمون النص.
عند الإلقاء، يظهر توازن جميل بين الهدوء والتصاعد، بين التأمل والاحتفاء، وهو ما يعكس وعي الشاعر بالنغمة والإيقاع النفسي للعبارة الشعرية.
6ـ البعد الاجتماعي والتاريخي
تتجاوز القصيدة بعدها الذاتي لتصبح وثيقة وجدانية لجماعة بشرية.
القرية هنا ليست مكان الشاعر وحده، بل رمزٌ لوجه الوطن، لذا يتحوّل النصّ إلى شهادة حبّ جماعي، واحتفاء بالهوية في وجه الغياب.
تتجاور في النص صورة الرعاة والأم والحبيبة والشيخ، لتكوّن فسيفساء من الأصوات تعبّر عن دورة الحياة في بيئة عربية أصيلة؛ حيث الإيمان بالخير، والصبر، والارتباط بالأرض هي قيم الوجود الأولى.
خاتمة
قصيدة «قريتي» للأديب محمد صوالحة نصّ مكتمل النضج الفني والعاطفي، يجمع بين صدق الانتماء وجمال التعبير، ويؤسس لعلاقة شفيفة بين الشاعر والمكان. هي قصيدة تفيض صفاءً روحياً وبساطةً راقية تجعلها قريبة من وجدان القارئ، ومفعمة بالضوء والإيمان بالإنسان والأرض.
إنها مرآة قريةٍ ما زالت تنبض بالحياة في ذاكرة شاعر يكتب ليعيد إلى العالم دفء البدايات وطهارة الوجود