محمد رضوان يكتب قوة البدايات الصغيرة

ثمّة لحظات في الحياة تمرّ بنا كأنها لا شيء، كأنها مجرّد ومضةٍ عابرة في زحام الأيام. غير أننا، حين نلتفت بعدها بسنوات، نكتشف أنها كانت البداية الحقيقية لكلّ ما صار. إنّ البدايات الصغيرة كثيرًا ما تختبئ تحت ملامح العادي، لكنها تحمل في جوفها بذرة التحوّل الكبير.
إنّ الإنسان بطبعه ميّال إلى انتظار اللحظة الكاملة ليبدأ: ينتظر الفُرصة المناسبة، الظروف الملائمة، الشعور التامّ بالاستعداد. غير أنّ تلك اللحظة المثالية لا تأتي أبدًا. فالحياة لا تمنحنا الإشارات الفخمة التي ننتظرها، بل تكتفي بإيماءةٍ خافتة، تهمس لنا: ابدأ الآن، بما بين يديك.
كلّ ما نراه عظيمًا اليوم، بدأ صغيرًا.
كلمةٌ خطّها كاتب في ليلةٍ منسية، صارت بعد أعوام روايةً تتردّد في ألسنة القرّاء.
فكرةٌ دوّنها صاحبها على ورقةٍ مهترئة، غيّرت وجه الصناعة.
محاولةٌ متردّدة في زاويةٍ صغيرة، تحوّلت إلى مشروعٍ يملأ العالم ضوءًا.
ليست البداية في ذاتها ما يمنحها القيمة، بل الإصرار الذي يليها. فالبذرة لا تُثمر لأنّها بُذرت فحسب، بل لأنّ أحدهم واصل سقيها رغم طول الانتظار.
لكن البدايات الصغيرة تختبر شيئًا أعمق من الإصرار؛ إنها تمتحن إيمان الإنسان بما يريد. أن تبدأ وأنت وحدك، دون تصفيقٍ أو ضوءٍ مسلّط، هو ذروة الشجاعة الهادئة. لأنّ البداية — في جوهرها — ليست فعلًا خارجيًا، بل إعلانًا داخليًا بأنك تؤمن بما تسعى إليه، حتى وإن لم يصدقك أحد.
في زمنٍ تُقاس فيه القيمة بالسرعة، ويُختزل النجاح في النتيجة، يصبح فعل البدء نفسه مقاومةً جميلة. فأن تبدأ، في عالمٍ يُغريك بالتأجيل والانتظار، يعني أنك اخترت الحياة على حساب الخوف.
أن تزرع، لا لأنّ الموسم مناسب، بل لأنّك تؤمن بأنّ الربيع سيأتي مهما طال الغياب.
إنّ أجمل ما في البدايات الصغيرة أنّها تمنحنا فرصةً لأن نكون بشرًا بحق؛
ضعفاء، مترددين، لكنّنا نحاول. نحبو ثم نقف، ونسقط ثم ننهض. وكلّ خطوةٍ بسيطة تهمس لنا بأنّ الطريق يُبنى بالمشي، لا بالأمنيات.
حين نعيد النظر في قصص الناجحين، لا نجد سرّهم في الحظّ أو الظروف، بل في الاستمرار المتواضع. لم يملكوا خارطة الطريق، لكنّهم امتلكوا الإرادة الكافية لخطوتهم الأولى، والإيمان بأنّ الطريق سيكشف نفسه مع السير.
البدايات الصغيرة هي معلم الصبر، ومدرسة الأمل. فهي تذكّرنا أنّ النهر العظيم لم يكن سوى قطراتٍ اجتمعت، وأنّ الجبل الشامخ لم يولد في ليلة. كلّ ما يستحقّ البقاء يحتاج إلى وقتٍ كي ينضج، وإلى صبرٍ كي يتجلّى.
فلتكن بدايتك اليوم، مهما كانت بسيطة.
اكتب الجملة الأولى التي تخشاها، اتخذ القرار الذي أجّلته طويلًا، أو حتى استيقظ في الوقت الذي وعدت نفسك به. لا تبحث عن الكمال، لأنّ الكمال لا يزور إلا من بدأ.
سيأتي يومٌ تنظر فيه إلى الوراء، فتبتسم لذلك اليوم الذي خطوت فيه بخفةٍ نحو المجهول. يومها ستدرك أنّ تلك اللحظة، بكلّ تواضعها، كانت نقطة التحوّل التي غيّرتك.
ابدأ، ولو بخطوةٍ صغيرة.
فكلّ خطوةٍ صادقةٍ تفتح بابًا، وكلّ بابٍ مفتوحٍ يحمل خلفه وعدًا جديدًا.
والحياة، كما علّمتنا، لا تحتفي بالمتفرّجين، بل بمن تجرّؤوا على البدء.





