محمد رضوان يكتب قيمة الألم في صناعة الإنسان

يخاف الإنسان من الألم بطبعه، يهرب منه كما يهرب من الظلمة، ظانًّا أنه نقيض الحياة. غير أن الحياة نفسها لا تُفهم إلا عبر هذا الشعور الحادّ الذي يعبرنا حين تنكسر التوقعات، أو تتبدّد الأمانات، أو نفقد شيئًا من أنفسنا. فالألم ليس طارئًا على التجربة الإنسانية، بل هو جزءٌ من نسيجها، وصانعٌ خفيّ لكل ما نراه من نضجٍ وقوة وعمق في البشر.
إنّ أجمل ما في الألم أنه لا يُشبه أحدًا، فهو تجربة فردية تمامًا، تخصّ كل إنسان بطريقته. وقد يكون ذلك سرّ قيمته الكبرى: أنه يعيد تشكيلنا من الداخل، ويعيد ترتيب أولوياتنا دون أن نستأذنه. فحين نتألم، نكتشف هشاشتنا، ثم نبدأ في بناء صلابتنا من جديد، ولكن هذه المرة على وعيٍ أعمق بما نحن عليه وما نستحقه.
في لحظات الألم، ينكسر الغرور الإنساني الذي يوهمنا بالسيطرة المطلقة. نرى محدوديتنا بوضوح، ونفهم أن القوة ليست في القسوة، بل في القدرة على المواجهة دون أن نفقد إنسانيتنا. إنّ الألم يعلّمنا الرقة بطريقةٍ غريبة؛ فكل من ذاق وجعًا حقيقيًا يعرف كيف يرفق بالآخرين، لأن جرحه صار مرآةً لجرحهم.
ليس الألم عقوبة كما يظنه البعض، بل هو امتحان للنضج. فمن يمرّ به دون أن يغيّره، فقد ضيّع معناه. وحدهم الذين يتأملون وجعهم يجدون فيه بابًا إلى فهمٍ أوسع للحياة. فكم من تجربة موجعة فتحت بصيرة صاحبها، وكم من خسارة كشفت له أن ما ظنه نهاية كان في الحقيقة بداية أخرى.
الألم يختبر صدقنا مع أنفسنا. عندما تتألم، لا تستطيع أن تتجمّل أو تتخفّى خلف الأقنعة. تتجرد من كل ما هو زائف، وتعود إلى حقيقتك الأولى. ومن هنا، يبدأ التحول الحقيقي: حين نصبح أكثر صدقًا، أكثر وعيًا، وأكثر استعدادًا لأن نحيا بعمق لا بسطحية.
ربما لا نختار الألم، لكنه يختارنا في اللحظة التي نحتاجه فيها دون أن ندري. يأتي ليعيدنا إلى مسارٍ غفلنا عنه، أو ليكشف ما لم نكن نراه في داخلنا. والأعجب أن معظم لحظات القوة في حياة الإنسان وُلدت من رحم لحظة ضعفٍ موجعة. إننا لا نكتشف صلابتنا حين تسير الأمور كما نشتهي، بل حين تنكسر الأشياء من حولنا ونضطر إلى النهوض رغم كل شيء.
الألم، في جوهره، ليس عدوًا، بل معلم صامت.
لا يشرح درسه بالكلمات، بل بالتجربة.
يأخذ منك شيئًا ليمنحك شيئًا آخر، أعمق وأصدق.
وكل من مرّ بالألم وخرج منه بشيءٍ من الحكمة، يعلم أن ما فقده كان طريقًا لما وجد.
ولعلّ القيمة الكبرى للألم أنه يجعلنا أكثر إنسانية. فالأرواح التي لم تتألم تبقى سطحية، لا تعرف معنى التعاطف أو الرحمة. أما من لامسوا قاع الوجع، فهم وحدهم القادرون على مدّ أيديهم لمن يسقطون، لأنهم يعرفون طعم السقوط.
لهذا، حين تمرّ بتجربة مؤلمة، لا تسأل: “لماذا أنا؟”
بل اسأل: “ماذا يريد هذا الألم أن يعلّمني؟”
فالألم لا يزورنا عبثًا، إنه رسالة وإن جاءت بلغةٍ قاسية.
في النهاية، لا يُصنع الإنسان من لحظات الراحة، بل من لحظات التحدي والاختبار.
والنضج ليس أن نتجاوز الألم بسرعة، بل أن نحمله برفق، ونتعلم منه دون أن ندعه يطفئ فينا نور الحياة.
فكل جرحٍ حقيقي يترك فينا أثرًا، لكنه أيضًا يفتح نافذة جديدة على وعينا.
وبين الجرح والبصيرة، يولد الإنسان من جديد — أكثر حكمة، وأكثر رحمة، وأكثر جمالًا في ضعفه.



