أخبار خارجية وشئون دوليةأخبار عاجلةأراء حرةالرئيسية

مِعْلامة .. السِفْر الجديد ياسر القعافي/ كاتب وشاعر يمني

ياسر القعافي/ كاتب وشاعر يمني

 

واطاير امغرب ذي وجهت سن امتهايم
قلبي ظناه امعذاب
أحيان في امزيديّة وحيان منها وشايم، شيبٌ وعادوا شباب
سقم، أشا اسايك واخو الطيور امحوايم
أسا تردّ الجواب

حين سمعت هذه الأغنية لأول مرة، لم أفهم سوى بعض مفرداتها، وكنت أرى من حولي يهيمون بها، ويحركون رؤوسهم وجفونهم نصف مغمضة طربًا، وهم يغنون مع صوت أيوب، فيزداد فضولي لمعرفة الكلمات التي تصنع فيهم كل هذا الشجن.

كانت هذه الكلمات أول ما عرفته من لهجة أهل تهامة، أو “امخباتية” كما نسميهم، بينما يطلقون علينا اسم “امجبالبة”.

المفتاح قريتي، تقع على أعلى قمة جبلية في منطقة الشرفين التي تطل على تهامة بمدى مفتوح، وحين يكون الجو صافياً ترى من حرض والطوال شمالًا حتى وادي مور جنوبًا، أما إذا هطل المطر عصرًا، فيصبح سهل تهامة كأنه في راحة يدك، امتداداً إلى البحر الأحمر غربًا، وهو يلمع في ضوء الشمس كقطعة نقدية عملاقة.

وحين كبرت قليلًا، إلى الحد الذي استطعت معه حمل ربطة القات الشامي على ظهري، والنزول إلى سوق المخضيرة – في أيام الإجازة – لبيعها للمقاوَتة، الذين كان أغلبهم من الحديدة والجراحي وعبس والقناوص، وسمعت حديثهم، تذكّرت أغنية أيوب، وبدأت أربط بين ما أسمعه من مفردات كلامهم والمفردات المشابهة في الأغنية. كان ذلك حدثًا أخبرت به أصدقائي، وقلّدت نطق بعض المفردات التي سمعتها منهم.

وفي عام 1990م سافرت مع أبي إلى محافظة الحديدة لإجراء عملية استئصال اللوزتين، ولأول مرة رأيت الأسفلت والسيارات الصغيرة في مدينة “شَفَر”، وأكلت المرصة التي طالما سمعت عنها. كنت أتلفّت لأرى جبل المفتاح، لكنه ضاع وسط السلسلة الجبلية، وهذا كسر نفسي؛ فقد كنت أظن أنه سيكون بارزًا عن كل الجبال.

مررنا بمدن وأديرة تهامة الواقعة على الطريق إلى الحديدة، وأنا أمدّ عنقي لأقرأ أسماءها في اللوحات الزرقاء: خميس الواعظات، المعرص، الخُشْم، القناوص، دير عبدربه… حتى وصلنا الحديدة، ورأيت البحر باتساعه الذي أصابني بالدوار، وحركة الأمواج التي طالما فتنتني وملأتني حيرةً لم تستطع سببية جاذبية القمر محوها من عينيّ حتى الآن.

أصبحت الروابط بين الجبل وتهامة تزيد كل يوم؛ فمن تهامة نجلب الحبوب بأنواعها، والطرح، والذبيل، والماء لريّ القات، ومن الجبل ينزل القات الشامي. واشترى كثير من أهل الجبال مزارع في تهامة وبنوا البيوت، وتزوّجنا منهم وتزوجوا منا، وكانت رقصاتهم ولعبهم وزقرهم في هذه المناسبات تمثل استعراضًا استثنائيًا لا يُنسى.

في عام 2023م أهدى إليَّ الأستاذ علوان الجيلاني نسخة من روايته مَعْلامة، وكان لقائي به في مقيل صديقي الأستاذ عبدالمجيد التركي. كنت قد عرفت الأستاذ علوان من خلال مقدمته المميزة والمتفرّدة لديوان فلّ نيسان للشاعر علي عبدالرحمن جحاف، وكانت تلك المقدمة فاتحتي للحديث معه حين التقينا، و قرأها لي أيضًا.

وكوني لم أدرك التعليم بالكتاتيب والمعلامات، فقد كنت دائم الشغف بطريقة تهجئة كلمات القرآن الكريم وفق أسلوبهم الجميل – وأتمنى تعلمه حتى الآن – فاعتبرت ذلك مدخلًا لمَعْلامة علوان مهدي الجيلاني، الشاعر والأديب والكاتب الكبير.

بمجرد البدء بالقراءة، أدركت أنني أُسلِمتُ لطفل صغير ما إن أمسك بيدي، حتى أخذ يطوف بي في مزاقر الجيلانية، يحدثني عن جدته غالية، ومرضه، ودروشة أمه به، وهجرة الولي المعتكف جيلان، وختمه للقرآن الكريم، وأسماء وقصص كل من نلتقيه في طريقنا، وولعه بمرادعة الثيران، وقصة “القشوي”، وتصدي أبيه له، وحريق الكويت، وقصص الحب والتعريض به على “حسي المسعودية” وغيرها من الأحداث، وبلهجة تهامية آسرة.
أتذكّر إخفاءه تحت بردعة الحمار من قبل جدته “غالية” حين هرب من المعلامة، ومجيء والده للبحث عنه، ومحاولته كتم أنفاسه والبقاء دون حراك، وجدته تحاول صرف أحمد نشم قبل أن تُفضَح مؤامرتها مع علوان، وكيف أخرجته سحبًا من أذنه من تحت البردعة حين ذهب أبوه، وهي تضحك وتقول له:
«قم أيها الحمار الصغير، خلاص الأمان».
ولا أزال أتذكر وجه علوان المفجوع والغاضب حين رأى كلبه يتلوى ويعوي ألمًا عندما دهسته تلك السيارة الفاجرة دون أن تتوقف أو تُهدِّئ من سرعتها كردّة فعل على الأقل، وكم شفى صدري موقف أحمد نشم حين علم بالخبر.

سألته بعد قراءتي مَعْلامته:
– كيف كانت ردة فعل من ذكرتَ قصصهم أو حكايات آبائهم وأمهاتهم بأسمائهم الحقيقية؟
فأجابني بابتسامة ترفّ من عينيه، وتبلّل كلماته:

«يفرحوا.. اتصلوا بي وشكروني، ويقولوا: أمي تبلغك السلام، أو أبي يسلم عليك».

 

مَعْلامة أسلوب كتابة جديد يجمع بين الرواية والسيرة الذاتية ضمن سردية المكان والزمان، بطريقة تبعث الشجن والحنين في كل زوايا وجدانك، وتجعلك تتنقل في الأمكنة، وتحضر الأحداث، وتقع في قبضتها، فلا تحاول الفكاك منها، ولا تعلم: أسمح لك الجيلاني أن تتلبسه أم تلبسك هو؟

ترى أهل تهامة ببساطتهم، وملابسهم، ومعتقداتهم، وتبرّكهم بالأولياء، وإيمانهم بالعين والعلاج بالزار وطقوسه، ولعبهم ورقصاتهم ونقائهم. ترى أولئك الذين “سلبت عقولهم المحبة وأخذتهم جذبات العشق وغرائب ما يصدر عنهم”.

كتب الجيلاني مَعْلامته ولم يهتم بالتبرير لما تختلف معه فيه، أو لما لا تفهمه؛ ينقل الحدث دون تجميل أو تزييف. وعيه وشجاعته واعتزازه بنفسه – كونه من أسرة لها شأنها في المنطقة – مكَّنه من قول ما يتحاشى غيره قوله.
ويعتبرون سردية مجتمعاتهم أقل شأناً أن تُحكى، ربما للشعور بالدونية والقلَّة أمام الحواضر أو استجابةً لتعامل الحواضر مع مجتمعاتهم على هذا الأساس.
أمانته جعلته يكتب بصدق وفخر، يتحدث عن أمه، ويصف جمال وجهها وعذوبة روحها وولعها بأغاني الحارثي، وكيف كانت تستقبل مشائخ وأعيان المناطق المحيطة بالجيلانية أثناء غياب زوجها، بينما كثير من الأدباء والمثقفين يستحون من ذكر أسماء أمهاتهم، فضلًا عن الحديث عنهن.

مَعْلامة ليست سردًا أدبيًا أو عملًا فنيًا فحسب، بل وثّقت عادات واعتقادات وقضايا مجتمعية وجوانب تاريخية لتهامة عمومًا وللجيلانية خصوصًا، وعكست نقاء المجتمع قبل أن تلوثه الأفكار الدخيلة التي شوّهت الحياة وغيّرت العادات والتقاليد والملابس والعلاقات الأسرية.

أدركتُ من خلالها واحدية تهامة، امتدادًا من مكة حتى المخا، في اللبس والعادات والاعتقادات والرقصات والزقّارين واللعّابين والشعراء الشعبيين، والأكلات والمسميات وقرابات الدم والنسب، دون تأثير للاعتبارات السياسية للرقعة الجغرافية لتهامة.

بعد قراءة مَعْلامة، ما إن يُذكر اسم مكان من الأماكن التي وردت بها، حتى ينتابك حنينٌ غامر، وتتجلّى ذكرياته في مخيلتك، ذكريات لم تكن فاعلًا فيها، لكنك شاهدٌ عليها، يندى عبقها من وجدانك — وبالأخص “الجيلانية” التي أسطرتها مَعْلامة وخلقت لها شجنًا في الروح يشبه ما تحسّه حين تُذكر ليالي الحلمية وزيزينيا وباب الحارة و الخليلي والحسين من المسلسلات والروايات، أو “الجوانة” و”الزيدية” و”بير العزب” و”البونية” و”حوض الأشراف” في الأغاني.
وأعتقد أنها ستتحول الى مسلسل ذات يوم.
بعد قراءتي الأولى لمعلامة وفي أول لقاء بالجيلاني فتحت برنامج قوقل إيرث وذهبت الى قريته .. الجيلانية أسأله
أين كانت المعلامة؟
أين حصلت مرادعة الثيران التي كانت ستودي بحياتك؟
أين حسي المسعودية؟
أين مربعة جدتك التي اختبأت بها تحت البردعة؟
وأين .. وأين .. وتوالت الاسئلة وهو يجيبني ويتذكر الأحداث والأماكن والحنين يخنق صوته وتطفر الذكريات من عينيه.
واتفقنا على ضرورة زيارة الجيلانية.

لقد أظهرت مَعْلامة أثر التغيرات والتبدلات في الحياة التي أثّرت على المجتمع التهامي، مثل ظهور “البمبة”، وانتهاء دور “امحسي” و”البريح”، وما كان يصاحبه من تبادل أخبار وحكايات وأغانٍ واستراق نظرات وقُبل بين المحبين، ومواقف وقصص بين البارحين والعابرين.

ثم ظهور الحرّاثة والسيارات والتلفزيونات والمتغيرات التي دخلت المجتمع حين اغترب الناس وتحسّن دخلهم وارتقت حياتهم، لكن تصحّرت أراضيهم ويبست أرواحهم وجَدُبت مخيلاتهم.

بعد قراءة مَعْلامة ليس كما قبلها؛ اتسعت دائرة الجمال في نظري، وصرت أنقّب في كل وجه وموقف ومشهد بعين رسّام أو نحات، ومخيلة شاعر وفضول طفل.
صرت أرى أن ما أمامي يمكن أن يتحول إلى لوحة أو مشهد سينمائي. اختلفت نظرتي الضيقة والانتقائية.

كشفت مَعْلامة أن في كل واحد منا روائيًّا، وأن حياتنا رواية تستحق أن تُكتب. وككل عمل جميل ومميز، يدفعك إلى التفكير في مجاراته، لكن مَعْلامة تدفعك إلى اتخاذ القرار بذلك.

لقد رصدتْ مَعْلامة الجزء الأهم من تجربة الأستاذ علوان الجيلاني، سواء الشعرية أو الروائية، من خلال الأحداث التي صنعت مخيلته وأثّرت في انفعالاته وأَثرت خياله. فلو سُئل الجيلاني عن تجربته ستكون مَعْلامة جزءًا محوريًا، إن لم تكن الأهم في إجابته.

كان واعيًا بتجربته ومدركًا لها في حينه؛سأله معلمه: «ماذا تتمنى أن تصبح في المستقبل؟» لم يقل: مهندسًا أو طبيبًا أو طياراً، بل قال: «أؤلف أربعين كتابًا» وقد كان.

كُتبت مَعْلامة بروح الطفل علوان، بذكرياته وشغفه وصدقه وبراءته، لا بلغة الروائي والشاعر والكاتب؛ كان غياب تفلسف الكاتب ضروريًا لتظهر الأحداث صادقة وبريئة وملهمة، لا تنظيرًا واستعراضًا أدبيًا.

وبخلاف ماركيز في عشتُ لأروي، التي كتبها بلغة كاتب وانفعالات روائي متمكن رغم انه أبدع في روايته عن طفولته وتجربته ولكن بلسان ماركيز النوبلي.

الرباط المقدس بين الطفل والجدّة والأم والأب والأرض والذكريات جعل من مَعْلامة حالة وجدانية جامعة، تبعث الشجن والحنين في أرواحنا، وتجعلنا نُسقطها على أنفسنا.

وأنا أقرأ مَعْلامة كنت أسترجعني في “المفتاح”، أدور في طرقها وساحتها، وأرعى في القليع وتحت “حيد الجناح” و”الحزنة”، وأذهب إلى جدتي “زينب”، وأبقى عندها لأيام جميلة، وأتشاقى مع خالي خالد، وأتذكر أمي وقصصي الكثيرة معها.

مَعْلامة سفرٌ نسخ به الجيلاني ذكرياته وشجنه وروح المكان وبساطة الإنسان وحكاياته، كـمسيحٍ جديد يدلّ على أرضٍ مقدسة، وبوصلة تشير إلى زمنٍ جميل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى