دراسات ومقالات

الجميلي أحمد يكتب: فايزة الألفي التي عالقة في القلوب

الجميلي أحمد يكتب: فايزة الألفي التي عالقة في القلوب

 

الجميلي أحمد يكتب: فايزة الألفي التي عالقة في القلوب


لا أكتب كي تخلّدني الكتابة أو التاريخ، ولا أبتغي بها مساحة أكبر من المساحة التي هي لي في قلوب مَن أكتب عنهم، ولم أعِر اهتمامًا لأحد أن يقرأ ما أكتبه عنه، إلا هذه المرة!
كم تمنيت أن تكون بيننا صاحبة هذه الإطلالة التي لطالما قالت لي في كل كتاب يصدر لها “لتكن أنت مناقِشي”، فأضحك وأهز رأسي نفيًا، وأقول لها “أنا شهادتي مجروحة بك”.
الكتابة اليوم لها طابع يختلف عن غيرها، فالكتابة هي التي تجبرني عليها ، وهي التي تكتبني، قدر ما أكتبها، ولأنها رحلت عن عالمنا هذا إلي عالمٍ أكثر نقاء مِن دنيانا، زال حرج شهادتي فيها، وكم تمنيت أن تقرأ هي دون غيرها ما أكتبه عنها! الآن عرفتُ قدْر أمنيتِها أن أكتب عنها في حياتها، فألعن الكتابة التي لم تخرج مِن أجلها.. ألعن نفسي التي كانت تأخذها العزة أن تكتب عن شاعرة ولِدت تجربتها علي يدي، إنها الراقية (فايزة الألفي) الشهيرة بـ “فيفي الألفي”، والتي تعرفت عليها قبل دخولها الوسط، حيث كنت أدير إحدى حفلات التوقيع في أتيليه القاهرة، وكانت فيفي الألفي ضيفة عليّ ضمن ضيوف حفل التوقيع، وفي نهاية الحفل أسرّت لي أن لها محاولة واحدة مع الكتابة، قلت لها ربما تكون هي البداية، ضحكت وقالت لي: بعد هذا العمر؟! وبصعيديتي الساذجة “ليه هو عمرك كام سنة” ضحكة واستمالت للخلف ولم ترد .
قلت لها الكتابة ليس لها عمر، ولا سِن، الكتابة نور يشرق في الإنسان في أي وقت.
تناولنا معًا فنجانين من القهوة، وقتَها قالت لي “أنا أول مرة أشرب البُن، رغم أن أحب رائحته . وكانت البداية كقصيدتها.. ومَن عرف فايزة الألفي يؤمن تمامًا أنه عرَف ملاكًا يمشي على أرض الله، ومَن تَقرّب منها تَعرّف على نقاء قلبها وصفاء نيّتها، دخلتْ معي إلى الوسط الثقافي، وحضرت معي أكثر من ندوة، وسافرت إلى مؤتمرات في أقاليم مصر، كان الوسط يمثل لها حلمًا، وقد تركت مجتمعاتِها الراقية ونواديها وجلساتِها مع صديقاتها في الخمس نجوم ونزلت لتجلس معي علي مقهي “آفتر إيت” بوسط البلد، كانت تتعجب في بدايتها مِن تلك الأماكن، وسرعان ما بدأت تجربتها مع الكتابة ومع الأماكن في التناغم والألفة، وكثفت مِن حضورها الندوات والصالونات بشكلٍ ينمّ عن سِياقها للزمن، وكأن قلبها الأبيض يشعر أن ما تَبقّي له من العمر قليل!
فيفي الألفي التي قضت أكثر مِن نصف عمرها في دولة الكويت مع أسرتها، وجاءت إلي مصرَ والكتابةُ في دمها، لكنها لم تعرف كيف تبدأ، ولا أين تذهب، كنت متابعًا لها خطوةً بخطوة، تكتب القصيدة وتقطعها، وتحضر وتستمتع بالسماع، ثم تكتب وتتخلص مما تكتبه.. إلى أن استقر بنا الحال على أول قصيدة لها، وأصرت وقتَها أن تضع جزءًا منها علي غلاف كتابها “مشاعر” والذي شرفتُ أن يكون مِن إصدارات دار وعد للنشر والتوزيع.
تقول:
“شوارع حبنا بتسأل
حبيبك ليه بعيد عنك
وأنّات الطريق زادت
وقلبك شوقه فاض منك
وأنا بَعدك
بيوحشني الكلام ويّاك
ويوحشني الكلام عنك”
لا أجزم أن تجربة فيفي الألفي في الكتابة تعَد تجربة شعرية كبيرة أو فارقة، لكنها تجربة إنسانية كبيرة، وتستحق الوقوف عليها، إذ يعَد كل ما كتبت فايزة الألفي يعبّر عمّا يمثلها هي، ولا يعنيها أن يتماس ما تكتبه مع الآخرين.
تقول:
“ولمّا اسمع أنين الناى ..
بيرجع بيّا للماضى
بيخطفنى لزمن تانى ..
زمن كان الدماغ فاضى
ل لما كنا لسّه صغار
بنلعب تحت ضلايه ..
جميزه فى باب الدار ..
وتوته جنب نخلايه
وحيطه سانده ع التوته
بتتعكز من الأيام ..
من حكايات سنين عدت
وأحداث فات عليها كتير ..
من أول لحظه للمولود
وفرحة أم جالها الواد ..
لغاية آخر العنقود
واللى دوّر وشه ليها
عشان يخبى دمعاته ..
على اللى فارقه من ازمان
وع اللى من زمان سافر
وع اللى عاد
كأنه حَمْل ..
عدى أوانه ماله مخاض
وعشان حضنها حنين
بتتحمل شقاوتنا ..
نطلع احنا فوق الحيط
ونقطف م العنب والتوت
ونتنطط ولا العفاريت
لحد مايدن المغرب
وتطلع أمى من جوه
تنادينى انا وهو
كفايه شقاوه طول اليوم
وجارنا كان ناياتى قديم
يحب الناى وأناته
وعزفه ويا غنواته
كأنه ..
كان بيتألم
وعارف إنه ..
هايفارقه
ويفضل نايه بيإنه
وجِدّى بعد مايصلى ..
وياخد ورد تسبيحه ..
بنتجمع حوالينه
ودايما قعدتى ف ريحه
ينده ع الحمام ييجى ..
يطير على عشه .. يتدارى
ويسند جدى ع الحيطه
أو الحيطه اللى سانده عليه!
ويحكيلنا حدوته
ياخدنى النوم على حجره
واحلم اننا بنلعب ..
واحلم بامنا الغوله
وعفريتها اللى كان طاير ..
وست الحسن والشاطر
اقوم اصرخ من الكوابيس ..
تهدهد أمى وتطبطب
تهدهد أمى وتطبطب”
شيئان دائمًا تكتب فيهما فايزة الألفي، الأول الحنين إلى الماضي، وهذا يدل على أصالتها ومعدنها الطيب، تأخذنا في هذه القصيدة للماضي البعيد، ماضي فايزة الألفي الإنسان، وتصِف لنا المشهد الذي تتمنى أن تعود له، ولعل الذي اقترب منها فايزة الإنسان يجدها دائمًا تتباهى بمولدها في المنصورة، وتصِف كيف كانت أيامها هناك، وهذا ما وصفته في القصيدة السابقة وصفا كاملا للمشهد الذي يعلق في ذاكرتها منذ أيام الطفولة، حتي وصفها لجارِها الناياتي القديم، وقصّها عن جَدّها.
ورغم أنها دخلت الوسط في سِن متأخرة، إلا أنها تقدمت بسرعةٍ شديدة في الكتابة، وهذا يرجع إلى عامليْن: الأول، الحب الشديد لأن تكون شاعرة.. والآخر، ما تَولّد مِن هذا الحب الشديد لكي تكون شاعرة؛ فقدْ ولّد لديها هذا حبًا للوسط الثقافي لدرجة أنها كانت في أوقات كثيرة تذهب في يومٍ واحدٍ إلى ندوةٍ واثنتين! وهو ما جعل تجربتها الشعرية تنمو بشكلٍ واضحٍ وسريع.
تقول:
“ولما عيوننا تتلاقى
يرف القلب من جوه
أتارى النظره مشتاقه
ومنه الروح بتتقوى
ويسألونى حبيبك ده؟
أدارى وارُد .. مش هو”
مَن ينظر للمقطع السابق يجِد أننا أمام تجربة شعرية إنسانية تستحق التحية، ربما تعبّر فيها فايزة الألفي عن حال كل عاشقةٍ تحِب بصدق، وهذا ما يميز تجربتها، وأعني به صدقَها في تناولها للقصيدة.
تقول:
“تيجيى يلا نقول ونعيد؟
نرجع م الأول وجديد
يوم كان الحب مجمعنا ..
والقلب سعيد
لما قابلتك ومشينا
والإيد فى الإيد
ماهو أصل الحب عايز تجديد
والعيد لو عدا ومافرحناش ..
بيروح وينسّينا المواعيد
والقلب .. لو البرد يمسه
محتاج كام نبضه تكون جامده ..
ترفع له حرارته .. بشحن جديد
وتصحى الحب اللى جمعنا ..
والشوق هايزيد
والدنيا هاتفرح ويانا ..
وبأجمل الحان تسمعنا
بنقول ونعيد”
هذه القصيدة تؤكد صدق فايزة الألفي في الكتابة، الصدق البرئ الذي يخرج مِن داخل القلوب الصافية، ويمكن القول إن تجربة العزيزة فايزة الألفي في الكتابة، برغم قصِرها، إلا أنها تركت لنا تجربة إنسانية مدهشة.
لننظر معًا وهي تقول لحبيبها “تيجي يلا نقول ونعيد.. نرجع من الأول وجديد”.
يا ألله.. قمة الطفولة والصدق في المشاعر!
وتقول:
“ما بين جفون شطين
وعيون عسليه
ورموش كما الصفصاف
ع الخد مرخيه
دابت بنات الحور
غِرقت مراكبيه
وانا بوصلتى تاهت
وقف الزمان بيّا”
البساطة أحيانًا كثيرة تكون قوة في الإبداع، ولسانها في المقطع السابق وهي تتغزل في حبيبها ذي العيون العسلية تؤكد لنا أن الشعر لا يحتاج الي التقعير ولا فرد العضلات في التغريب لكي يتساءل الآخرون ماذا يقصد الشاعر؟!
قليلاً جدًا ما كانت فايزة الألفي تكتب عن ذاتها، فلم يظهر خلال دواوينها أنها استخدمت الكتابة في وصفٍ لها أو لشيء داخلها، إلا في مقاطعَ قليلةٍ من شِعرها.
تقول:
“جوّه مِني قلب نونو
لسّه أخضر
حِلمه أكبر من جنونه
بس يقدر
يوم ميلاده يطير بفرحه
م الكلام الحلو يسكر
مهما شاف م الدنيا ديا
رافض انه معايا يكبر”
كانت الشاعرة الراحلة فايزة الألفي منكِرة لِذاتها، حتى في حياتها، فهي إنسان بسيط يتعامل مع الآخر بكل تلقائية، كانت محِبة للآخرين، لا تحمل لأحد في نفسها شيئًا، تغضب كالأطفال، وتفرح أيضًا مثلهم، كانت ودودة ومجاملة لكل مَن تعرف بشكلٍ يستدعي الدهشة والتأمل، وفي الوقت ذاته كانت تعتز بنفسها كأنها إحدى مَلكات مصر الفرعونية.. رحِم الله العزيزة والباقية معنا في قلوب كل محبيها فايزة الألفي المبدعة الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى