لبثتُ واجما على الفراش، وسلمى بجواري في فستانها الأبيض المنفوش ترمقني بخجلٍ كأنما تتزوج لأول مرة! أحسستُ بغصة متأملا وجهها البريء، وتذكرت مدام رجاء الجالسة وسط المعازيم وهي تصفق في حرارة على أنغام ال (دي جي) وما تلبث أن تحني رأسها لي في امتنانٍ لا أستحقه! حينها شعرتُ أن جسدي يتبخر في الكوشة حتى لم يعد ظاهراً! سلمى التي لا ترفع عينيها لأحدٍ من شدة حيائها، ولا يُسمع حسها في الشركة إلا حثيثا، ولا تشترك في نميمة الزملاء والزميلات، هي نفسها التي وثقت بي، وفتحت لي قلبها بسخاءٍ كبير! ربما رأتني مختلفا عن الجميع، فقد عاملتها بجدية محسوبة ولطفٍ حذر دون أي تلميحاتٍ مقلقة مثلما فعل الزملاء الآخرون، وصارت بيننا علاقة قوية دون أن نحدد إطارها ولا كنهها، لكنها كانت كافية لبعث حالة من السعادة بمجرد التقاء الأعين، وعلى إثرها تفتحت الحوارات بيننا خارج إطار العمل على غير عادتها المتحفظة، فاستطعتُ أن أعرف الكثير عن زوجها الراحل الذي مات في أوج شبابه بنوبةٍ قلبية حادة. أمعنت النظر في صورته على هاتفها، وكتمت غيرتي وهي تتكلم عنه بإجلالٍ وتقدير: _ كان رجلا شهما وصبورا.. تحملني ثلاث سنوات… لم يفكر أن يتزوج عليّ رغم أنني لم أحقق حلمه في إنجاب طفلٍ من صلبه… ترك لي ثروةً كبيرة جعلتني لا أمد يدي لأحد.. الله يرحمه.. عندما كانت سلمى في تدريب خارج الشركة، انتهزت مدام رجاء مستودع الأسرار كما يُطلق عليها الفرصة وسألتني كأنها توقع بي: _ هل تحب سلمى يا بهاء ؟ شردت لحظتها في سؤالٍ آخر يباغتني من حين لآخر “هل سأتحمل أن أعيش حياتي بلا أولاد لو تزوجت سلمى؟” ويبدو أنني تأخرت بالإجابة عن مدام رجاء التي صاحت محتدة كأنما أجبتها بالنفي على سؤالها: _ حرام والله… إنها تحبك… ابتسمت مبتهجا، ثم سألتها : _ هي من صرحت لكِ بذلك؟ _ لا… عيناها تقولان هذا… تنهدت، ثم قلت في نزاهة : _ أخشى أن أظلمها معي وأطالبها بما لا تقدر عليه… _ إذن دعها وشأنها… ولا تعشمها يا بهاء.. الله يرضى عليك.. _ أنا لا أعشمها صدقيني.. _ كلامك اللطيف ونظراتك إليها وسؤالك عنها.. كل هذا ما معناه؟ أصابني الخرس، وطأطأتُ رأسي، فسمعتها تقول مستعطفة: _ لن تجد مثلها أبدا يا بهاء صدقني.. سلمى طيبة وعلى نياتها. ناوشني السؤال الذي ينغصني تارة أخرى، فتنهدت مبتئسا، وقلت لها راجيا: _ مدام رجاء.. عندي طلب… لو تستطيعين الحصول على الفحوصات والتحاليل الطبية لسلمى لأعرضها على طبيب دون أن تخبريها بالطبع… سيكون جميلا لن أنساه لكِ أبدا… ويبدو أنها استحسنت للفكرة، ورأتها بداية موفقة للم الشمل، فقالت في حماسٍ زائد: _ سأفعل… سأخبر سلمى أن لي طبيبة قريبة لي وأنني حكيت لها عن مشكلتها.. وأن قريبتي طلبت أن ترى التحاليل والفحوصات… وستعطيني إياها على الفور… _ ماذا لو رفضت؟ أو شكت في الأمر؟ _سلمى لا ترفض لي طلبا أبدا… كما أنها تثق بي جدا.. إنها طيبة للغاية والله.. ولكن بختها قليل… حين تحصٌلتُ على ما أريد، طرت إلى صديقي إبراهيم طبيب النساء، وانتظرت رأيه بفارغ الصبر. رأيته يخلع نظارته الطبية، ويقول مؤكدا: _ جميع التحاليل سليمة ولا يوجد عائق للإنجاب… حتى أشعة الصبغة على الرحم تؤكد أنه لا يوجد أي انسداد في قناتي فالوب… أخذتني مشاعر متناقضة ما بين الفرحة والدهشة والصدمة، ولبثتُ في تفكيرٍ وحيرة مما سمعته، ويبدو أن إبراهيم التقط ما أنا فيه من تخبط، فأوضح لي: _ واضح جدا أن العيب في زوجها ولم يخبرها ذلك.. ربما خشى أن تطلب الطلاق فأوهمها أن العيب منها وليس منه… حركت رأسي مستنكرا، وغلى الدم في عروقي متخيلا حال المسكينة التي عاشت ثلاث سنوات في كذبة كبيرة مع زوجٍ يخدعها كي يضمن ولاءها له حيا ثم ميتا! والأنكى من ذلك أنها تعتقد في قرارة نفسها لم تكن تستحق ذلك الكرم الاستثنائي منه! كورت قبضة يدي كأنني سألطم ذلك المحتال الذي تمثل أمامي، وفغمغمت حانقا: _ يا ابن اللعيبة… وها أنا ذا أجلس على الفراش، وسلمى بجواري بفستانها الأبيض المنفوش، تبتسم لي كملاكٍ لا يعرف ألاعيب البشر، أعطيتها حبة مستديرة، فتناولتها في استسلام، وشربت بعدها جرعة من الماء، لم تكن الحبة إلا مجرد حبة فيتامينات، لكنني أخبرتها أنها علاج لحالتها المستعصية وتساعد على تنشيط الرحم! لمعت عيناها بابتسامة شكر، فشعرت بالخجل من نفسي، وكدت أنطق بالحقيقة التي تقف على أعتاب لساني، لكنني ابتلعتها في شقاء، لحظتها قفزت صورة زوجها الراحل أمام عيني وهو يضرب كفيه ضاحكا، ويقول لي غامزا: _ يا ابن اللعيبة.
أهلا بك وشكرا لزيارتك من فضلك اترك يعليقك وسيتم نشره
مقالات ذات صلة
شاهد أيضاً
إغلاق
-
محمد السيد يكتب عيد سعيد
منذ 4 أسابيع -
الزهراء صعيدي تكتب غابُ المُوبقاتِ
2024-10-28