دراسات ومقالات

صورة في حدوتة

أنا وثلوج كندا

بقلم/ حسام عبد القادر مقبل

“الحياة ذكريات جميلة وحزينة، سعيدة ومؤلمة، قد تكون مليئة بالإنجازات، أو بالإخفاقات.. وتبقى الصورة هي التي تسجل هذه الذكريات وتحتفظ لها لتصنع تاريخنا”.

 

أنا وثلوج كندا

الصورة التي أتحدث عنها هذه المرة ليست مرتبطة بشخصية قابلتها أو موقف مع صديق، ولكنها مرتبطة بمكان وحدث، والمكان هو كندا وبالتحديد في مدينة مونتريال حيث أعيش، والحدث هو نزول الثلج في الشتاء والذي يحتل معظم أوقات السنة، فالصيف في كندا لا يزيد عن شهرين إن اكتملوا.

 

ورغم مرور أربع مواسم شتاء عليَّ حتى الآن، إلا أن ما زال مشهد الثلوج مهيبا بالنسبة لي، خاصة عندما تصبح الحياة كلها بيضاء، والثلوج هنا أسلوب حياة، اعتاد الكنديون عليها منذ القدم، ورغم كل التطور التكنولوجي الرهيب، والذكاء الاصطناعي حاليا إلا أن الطبيعة لا تعترف بهذا أبدا، وعندما تكشر عن أنيابها فلا يستطيع الإنسان إلا أن يكافح للبقاء ويحارب الطبيعة بأدواته التي مهما تقدمت هي بسيطة.

وعندما قدمت إلى كندا، كنت سمعت من أصدقاء وقرأت الكثير وشاهدت فيديوهات عن الثلوج وكيف يعيش الناس الشتاء في كندا، بدرجات حرارة تصل إلى 30 وأحيانا 40 تحت الصفر، وقد تزيد، ولكن السمع شيء والمشاهدة والمعايشة شيء آخر تماما.

ولا أنسى أول عاصفة ثلجية قوية أعيشها وكنا في نوفمبر، وعرفت وقتها أن هذه العاصفة جاءت مبكرة لأن موعدها في ديسمبر، فقلت: أكيد جاءت مبكرة لترحب بي.

صحوت من النوم، وكانت السابعة صباحا تقريبا، نظرت من الشباك شعرت أني في مكان آخر، فجأة تحولت الدنيا كلها إلى اللون الأبيض، كل شيء أبيض، الأرض، الأشجار، البيوت، والسيارات، الكل تحلى بالثوب الأبيض وكأنه عرس، ولكن الأبيض ليس فقط للعروس، وإنما أيضا لكل الحضور.

 

لبست الملابس المخصصة للثلوج، وكنت أعددت نفسي جيدا، وخرجت لأشاهد مشهدا غريبا من نوعه، فالشوارع والحياة كأنها في صحراء قاحلة أو منطقة مهجورة، نسيت برودة الجو وأنا أتأمل الوضع، وقفت أمام سيارتي مشدوها، فالسيارة لم تشذ عن القاعدة ولبست الفستان الأبيض الذي لم يترك شبرا منها عاريا، عكس ما تفعل العرائس في الأفراح، وكان الأصعب أني وجدت السيارة شبه مدفونة في الثلج، والعجل كله مدفون داخل الفستان الأبيض.

كنت اشتريت فرشاة الثلج للسيارة والتي لها طرفان الأول فرشاة طويلة والثاني مدبب يقوم بكحت الثلوج، وأيضا الجاروف الذي سأحفر به حول السيارة حتى يمكنني أن أخرجها، فالمعدات جاهزة ولكن تبقى التجربة.

وكانت النصيحة أن أبدأ بتشغيل السيارة حتى تسخن، وأشغل التدفئة حتى تساعد في تسييح الثلج، ولكن مع الأسف لم أتمكن من فتح الباب لأنه التصق من كثرة الثلج، بدأت بنزع الثلج من فوق السيارة ومن على الزجاج الأمامي والخلفي والجوانب، على أمل أن أتمكن من فتح الباب، ثم بدأت أحفر ولم أكن أتخيل أبدا أن يستغرق الحفر وقتا طويلا ومجهودا مضنيا بهذا الشكل، ظللت حوالي ساعة وربع أنظف وأحفر، وبالطبع لم ألحق موعدي الذي خرجت لأجله، ومرت علي (دنيا) زوجة (وليد) صديقي العزيز مصادفة فضحكت وقالت لي: welcome to Canada، وطبعا رأتني ساخطا غاضبا فضحكت وقالت لي: “كلنا في الأول بنكون كده، ثم تعتاد الأمر”، وصورتني وأنا أحفر وساعدتني كثيرا حتى تمكنا من فتح باب السيارة وتشغيلها.

وأصبح هذا المشهد يتكرر كثيرا ويصل إلى مرتين أسبوعيا على الأقل، والجميع يخبرونني أن هذا أفضل شتاء من سنوات!

أما قيادة السيارة في شتاء كندا، فله قواعد وأصول مختلفة تماما عما نعرفه، فالقيادة تحت المطر سهلة إلى حد كبير مقارنة بالقيادة فوق الثلوج وأسفلها، وهناك إطارات مخصصة للشتاء لابد من تغييرها في أواخر شهر نوفمبر من كل عام، ولكن هذه الإطارات رغم أهميتها لا تفعل شيئا أثناء السير بالسيارة على ثلوج متراكمة تصل إلى 30 و40 سم فوق الأرض، فالتحكم في السيارة يقل كثيرا، والسيارة تنزلق أثناء القيادة دون سيطرة كاملة من السائق.

خرجت في أول مرة، وقلت لنفسي مثلي مثل الجميع، لابد أن أذهب لموعدي والسيارة أفضل كثيرا من ركوب مواصلات عامة والسير وسط الثلوج وتحتها، وبعد أن أخرجت السيارة من ثوبها الأبيض، وبدأت القيادة فوجئت بأن السيارة تعوم ولا تسير، وبدأت أشعر أني أرقص مع السيارة رقصة خطيرة وسط الشارع وبجانب سيارات أخرى ترقص أيضا ولكنهم مدربون كثيرا عني، فأنا حديث العهد بالرقص فما بالك بالرقص بالسيارة على شوارع من الجليد.

كنت متوترا جدا وخائفا، لأني حتى عندما (أفرمل) السيارة لا تقف بل تستمر في السير، وكدت أصطدم بسيارات أمامي عدة مرات، وعندما أنحرف يمينا أو يسارا لأتفادى الاصطدام أجدها تذهب في مسار آخر تماما، وهكذا.

لم أكن أعرف ماذا أفعل، فلا يمكنني التراجع، ولابد من الاستمرار، وبدأت أخفف السرعة كثيرا وأسير كأني سلحفاة، ولا استخدم الفرامل وإنما أقوم بالتهدئة مع السرعة القليلة حتى أتمكن من السيطرة جيدا على السيارة، وكل مرة يحدث معي ذلك كأنها أول مرة وأشعر بالرعب، وأصبحت أمارس الرقص مع سيارتي بشكل منتظم مع كل عاصفة ثلجية، وأردد الشهادة قبل أن أبدأ الرقص.

والغريب والعجيب أني اكتشفت أن كل ما سبق هو أمر هين وسهل مقارنة بالمطر الجليدي أو ما يسمى بالجليد الأسود Black Ice، وهو نوع من الثلج الشفاف الذي يثبت على الأرض ومع برودة الجو يظل ثابتا ولاصقا على الأرض، ويكون طبقة على الأرض لها ملمس مثل الصابون بالضبط، ولا يمكن لك أن تتحكم في السير فوق الرصيف أو الشارع وعليه هذا البلاك آيس، وتجد أيضا الناس يرقصون وهم يسيرون ويحاولون الحفاظ على توازنهم، وهي عملية أشبه بمن يسير في السيرك فوق الحبال، يريد أن يحافظ على توازنه، واكتشفت أن هناك غطاء مخصص للأحذية يتم تركيبه على النعل من أجل تثبيت الحذاء فوق الثلج، إلا أنه غير عملي بشكل كبير.

وبالطبع قيادة السيارات فوق البلاك أيس أصعب من القيادة فوق الثلج العادي، ويؤدي لنفس المشكلة، وهو عدم السيطرة على السيارة ولتبدأ مرحلة الرقص.

وعندما تنزل من السيارة وتريد الوصول إلى البيت أو المحل لابد أن تحافظ على توازنك وأن تسير بحذر شديد ويطلقون على هذا النوع من السير “المشي كالبطريق” أي أننا نتقدم خطوة بالقدم اليمين ثم نحرك القدم اليسرى لتكون بجانبها وهكذا، والأصعب عندما يكون معك مشتريات وشنط فأنت لا تستطيع الحفاظ على توازنك ولا يوجد ما تمسك به، وعندما تنظر حولك تشعر أنك في فيلم سينمائي يتم إخراجه بالتصوير البطئ، فالكل يتحرك ببطء وبصعوبة لكي يصل إلى باب البيت.

والغريب أني الآن أقوم بتقديم الإرشادات والنصائح للقادمين الجدد، في كيفية التعامل مع الثلوج، وقيادة السيارة وتنظيفها، عن من أتحدث بالضبط؟ عن نفسي؟

أنا بالفعل غير مصدق لآخر فقرة كتبتها وقرأتها عدة مرات، ولكنها الحقيقة وما حدث بالفعل، رغم أني غير مصدق أني تأقلمت مع كل ما سبق.

حسام عبد القادر مقبل –  صورة في حدوتة

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى