القيمة اللسانية في السيميوطيقا السردية: من البنية الدلالية إلى الجمالية الثقافية

إنّ مفهوم القيمة في الإطار اللساني ليس مجرد مصطلح إجرائي أو أداة تقنية، بل هو قلب نابض في جسد السيميوطيقا السردية، ومحور تنظيمي للبنية الدلالية، ومرتكز فلسفي يضبط العلاقة بين العلامة والوظيفة والمعنى. فحين يضع دي سوسير اللبنات الأولى لمفهوم القيمة داخل مشروعه اللساني، لم يكن يقصد فقط تحديد موقع العلامة بين مكوناتها (الدال والمدلول)، بل كان يؤسس لرؤية شاملة تجعل اللغة فضاءً اقتصادياً تُوزَّع فيه القيم على نحو علائقي، حيث لا معنى لعنصر خارج شبكة العلاقات التي تحيط به.
أولاً: القيمة عند دوسوسير – من الاقتصاد اللغوي إلى البنية الكلية:
في محاضرات في اللسانيات العامة، جعل دوسوسير اللغة نظاماً من الفوارق، حيث لا تُدرَك الكلمات بذاتها، بل بمقدار ما تختلف عن غيرها. وهنا ينبثق مفهوم القيمة: العلامة لا تكتسب معناها إلا بفضل اختلافها عن سائر العلامات. إن القيمة، بهذا المعنى، تشبه العملة: لا تُقدَّر بذاتها، بل بعلاقتها بسوق التبادل اللغوي. هذه الرؤية تحولت لاحقاً إلى حجر زاوية في بناء السيميوطيقا السردية، خصوصاً في مدرسة كريماص، التي سعت إلى جعل الدلالة نتاجاً لمسار توليدي يقوم على تبادل القيم وتحويلها داخل بنية نصية.
ثانياً: القيمة في السيميوطيقا السردية عند كريماص:
حين أصدر الجيرداس جوليان كريماص كتابه الدلالة البنيوية (1966)، حاول أن يؤسس لسيميوطيقا عامة تستند إلى اللسانيات البنيوية وتستفيد من الإرث الفولكلوري الروسي (بروب ورفاقه). وفي هذا المشروع، غدت القيمة مبدأً حاكماً في قراءة النصوص السردية:
فالفاعل السردي لا يُدرَك فقط عبر أفعاله، بل عبر القيم التي يسعى إلى امتلاكها أو حمايتها (الحياة/الموت، الشرف/الخيانة، الخير/الشر).
الحبكة السردية ما هي إلا انتقال للقيم بين الذوات: من فقدانها إلى استرجاعها، أو من عجزٍ إلى قدرة.
حتى الجماليات السردية نفسها تُبنى على أساس اقتصاد القيم، حيث تتحول العلامة من دالٍّ محايد إلى حامل لمعنى يتحدد بتموضعه داخل شبكة تداولية.
ثالثاً: الامتداد العربي – إعادة قراءة التراث في ضوء اللسانيات:
لم يقتصر الأمر على الفكر الغربي؛ فقد استثمر الباحثون العرب مفهوم القيمة ضمن مشاريعهم النقدية والبلاغية. ونجد في أعمال:
١ _ عبد السلام المسدي (المقاييس الأسلوبية، 1976) محاولةً لتأسيس جسر بين البيان الجاحظي واللسانيات البنيوية، حيث تُقرأ البنى الأسلوبية كأنساق قيمية متحركة.
٢_ عبد القادر الفاسي الفهري (اللسانيات واللغة العربية، 1985) قدّم تصوراً وظيفياً للغة يربط القيمة بآليات التداول والسياق الثقافي.
٣_ حمادي صمود (التفكير البلاغي عند العرب، 1978) أعاد الاعتبار للبنية القيمية في الخطاب البلاغي القديم، حيث تتجلى العلاقة بين الفصاحة والمعنى كعلاقة قيمية أكثر منها تقنية.
٤_ أما أحمد المتوكل والهادي الطرابلسي، فقد سعيا إلى إعادة قراءة نظرية النظم عند الجرجاني باعتبارها بناءً دلالياً للقيم قبل أن تكون ترتيباً صرفياً أو نحوياً.
رابعاً: القيمة بين الجمالية والأنثروبولوجيا:
إنّ ما يميز السيميوطيقا السردية هو قدرتها على تجاوز البعد اللساني المحض نحو أفق أنثروبولوجي وجمالي؛ فالنص السردي ليس مجرد حكاية، بل هو مختبر لتوزيع القيم الإنسانية: الحب، الشجاعة، التضحية، الخيانة، الحرية… إلخ. ومن هنا، تغدو القيمة في السرد نوعاً من “المبدأ التنظيمي” الذي يجعل النص قابلاً للتأويل والعيش في المخيال الجمعي.
خامساً: نحو قراءة جديدة:
يمكن القول إنّ مفهوم القيمة في السيميوطيقا السردية يشبه “مفتاحاً تأويلياً” يربط بين مستويات ثلاثة:
1. اللساني: حيث تُبنى الدلالة على أساس الفوارق والاختلافات.
2. السردي: حيث تتحرك الشخصيات ضمن اقتصاد تبادلي للقيم.
3. الجمالي/الثقافي: حيث يُعاد إنتاج القيم في وعي القارئ والمجتمع.
إنّ دراسة القيمة بهذا المعنى ليست انشغالاً تقنياً فحسب، بل هي استدعاء لجوهر العملية الأدبية نفسها: كيف يحوّل النص اللغة إلى حامل للمعنى، والمعنى إلى حامل للقيمة، والقيمة إلى تجربة جمالية وإنسانية.