منال رضوان تكتب فات الميعاد.. حين تهمس الدراما بالحقائق دون صراخ
دراسات ومقالات

مسلسل “فات الميعاد”، الذي عُرض حديثًا خارج السباق الرمضاني، وبمعنى أدق بدأت حلقاته مع بداية موسم اختبارات نهاية العام الدراسي؛ لكنه حقق نسب مشاهدة عالية قدّمت درسًا في كيفية استعادة الدراما المصرية الجادة عافيتها وتفرّدها.
فات الميعاد من تأليف السيناريست محمد فريد كما أشرف عى ورشة كتابة العمل التي تكونت من ناصر عبد الحميد، عاطف ناشد، وإسلام أدهم، وإخراج سعد هنداوي، وبطولة أحمد مجدي، أسماء أبو اليزيد، محمد علي رزق، أحمد صفوت، سلوى محمد علي، محمود البزاوي، فدوى عابد..
في هذا العمل، تقف شخصية “مسعد” (أحمد مجدي) كمرآة متشظية لكل ما لم يُعالَج في بنية الأسرة المصرية: الذكورة الجريحة، الأم المتسلطة، والضعف المتخفي في سترة القسوة؛ فلا يقدّم الشرّ بالكاركاتر النمطي، أو الانفعال الصاخب؛ بل في صورة مرارة هادئة تنمو بصمت بداخله، يرتدي سترته حتى منتصف عنقه، كأنه يُخفي روحه عن العالم، فيبدو العنق محاصرًا، والصوت مختنق، والرأس مثقل لا يجد مفرًّا إلا بالانسحاب إلا إلى الداخل. عقب نوبات هياج لازمته حتى الحلقة الأخيرة عند انفعاله على ابنته وتحطيم هاتفها؛ كأنه يعلن أن التغيير لا يمكنه أن يحدث رغم جميع ما مر به
استخدم مجدي أدوات داخلية بإتقان؛ كنظراته التي تفضح هشاشته رغم صلابته الظاهرة، وجهه الجامد، عنقه الذي لا يلين، وهو رغم العنف الذي يمارسه، لا يتركك تبغضه، بل يفاجئك بلحظات تعاطف عابرة؛ كأن في داخله بقايا رجل كان من الممكن أن يكون صالحًا؛ إذا نجا من أسر أمه وظله الثقيل في بيت لم يملك مساحته الآمنة فيه.
هذه التركيبة النفسية المركبة تجعل من مسعد نموذجًا لضد البطل، فهو الضحية المتنكرة في هيئة جلاد، يتوهم السيطرة على الأمور كلها، لكنه في الحقيقة لا يملك حتى نفسه، يميّزه النمط السلوكي للشخصية الحدّية، يتضح ذلك في رفضه بدايةً سرقة عهدة الأدوية المخدرة، ثم تحوّله الواضح إلى ذلك الفعل مجرد تأكده من فقدان بسمة، وكأن انهياره ينتظر ذريعة، ويختبئ خلف وعي مثقل بالخسارات.
وبينما يتحرك مسعد في مناخ خانق منذ البداية، تظهر بسمة (أسماء أبو اليزيد) كصوت إنساني تربى في بيئة أكثر توازنًا، تحاول النجاة من دون ضجيج لكنها لا تنجح؛ فتقرر الانفصال عنه.
أسماء، أثبتت على مدار أعمالها وعيًا في اختيار الأدوار، تؤدي هنا شخصية امرأة مطلقة للمرة الثانية، تحاول ألا تنهار، وتتمسك بما تبقى من احترامها لذاتها رغم ترددها حد التخبط أحيانًا، ذروة براعتها تجلّت حين لم ترفض ضمّ مسعد عند عودتها لأخذ أغراضها، رغم كل ما بينهما؛ ترددها كان حقيقيًا، لا لأن حبًا باقٍ، بل لأن الأمان غاب عن عالمها فأدى إلى تشوشها، وهي تعلم أنها ستواجه المجتمع وحدها، لمرة ثانية، حتى سؤالها للأب عن مدى صواب قرارها بالطلاق يكشف هشاشة الداخل، رغم صلابة الموقف.
قدّمت أسماء تفاصيل الشخصية بجسدها، لا بحوارها فقط: طريقة مشيها عقب الولادة، وانحناءة ظهرها، واتساع البلوفر الذي ما زال يحتفظ بشكل البطن الممتلئ، كما لو أن الجسد يُعلن بلا مواربة أنه لم ينسَ بعد.. وبينما تحاول النجاة تقدم اعتذارات متتالية عن أوضاع لا يد لها فيها.
منعم، الدور الذي يجسّده ببراعة الفنان محمد علي رزق، شخصية الأخ الأكبر، هو المتواكل الفهلوي المحب لزوجته وطفلتيه، شخصية تُتقن إسقاط اللوم على الآخرين، وتلعب دور الضحية حينًا، والشاهد حينًا آخر، من دون أن تتورط فعليًا في فعل أخلاقي واضح، منعم لا يقود، لكنه يعلّق، يراقب من بعيد، ويمارس نوعًا من التواطؤ الصامت مع الخطأ؛ ما دام لن يُكلفه شيئًا وذريعته (أنا وأخويا على ابن عمي).
رزق أجاد رسم خطوط هذه الشخصية الرمادية ببراعة؛ فتارة تظنه متعاطفًا، وتارة تشكّ في دوافعه، لكنه أبدًا لا يواجه، ولا يختار أن يتصدر الصراع.
إن المقارنة بين هذا الدور ودور “مصطفى ضرغام” في صيد العقارب، حيث بدا شخصية تقيّة تقف إلى جوار الحق، هي مقارنة محيّرة؛ إذ تبرز مرونة محمد علي رزق في التنقل بين النقيضين، من دون افتعال أو أثر اصطناعي.
ففي شخصية مصطفى بدا رزق كأنه خرج من كتب التراث وحكايات الزهاد، بينما في “منعم” حافظ على روح ابن البلد الذي يبحث عن المصلحة؛ فجعل من فمه وعينيه ويديه قاموسًا حركيًّا، ينطق بلغة السوق، ويلعب على حافة الأخلاقي والبرجماتي في آن واحد.
فالحق لديه وجهة نظر، تتبدل بتبدل المصالح، ولأن محمد علي رزق فنان الوجوه المتعددة؛ فقد استطاع أن يمنح شخصياته نبضًا إنسانيًا يجعلنا نحزن معه وهو مصطفى، ونبتسم من تناقضاته الطفولية وهو منعم، كما يؤكد على أنه يجيد دراسة تفاصيل الشخصية ومراحل تقدمها العمرية؛ فمع نهاية الحلقات بدأ في استخدام يده بصورة أهدأ فضلا عن ظهور ملامح الإجهاد عليه عند الحركة، وهو ما يحسب له كفنان يمتلك أدواته ويجتهد في رسم أبعاد الشخصية.
أما الفنانة القديرة سلوى محمد علي، فقدّمت درسًا في الأداء النفسي المركّب، لم تلعب الأم الخيّرة، ولا القاسية الفجّة، بل الأم التي تحكم البيت بالإيعاز والتسلّط؛ نجدها في تفصيلات شعبية أصيلة: ترتدي الشراب الثقيل الرجالي، تنام بتقوّس يشبه الأفعى، وتحتفظ بأشرطة الدواء في علبة أدوات الحياكة.. التجديف في غمار التفاصيل هو ما قدمه لنا السيناريو المحبك لتلك الشخصية، تتحدث بلا نبرة حنون، لكنها هادئة مستفزة، تحمل في حضورها اليومي عبئًا تلقيه على من حولها، لا تصرخ، لكنها تحاصر، لا تُهين، لكنها تقمع بالرؤية والتآمر و(المسكَنة) وقت الحاجة.
أداؤها كان كاشفًا، نقيًا من أي مبالغة، وبلا شك، صنعت سلوى محمد علي، واحدة من أكثر الشخصيات إزعاجًا وأصالة؛ شخصية مألوفة لنا، لكنها نادرًا ما تُرصد في الدراما بهذا الإتقان وتلك الحرفية.
في المقابل، يجىء أحمد صفوت في دور “معتصم” كمسافة أخلاقية فاصلة بين الانهيار والنجاة، ابن صاحب المصنع، الشاب الجاد الذي لا يفقد أعصابه رغم المصائب التي لا تكف عن تتبعه، لا يصرخ، لا يحتد، لكنه يُفكر ويتريّث ويصمد أمام الظروف، يحاول بناء بيتا هادئا رغم التحديات.
صفوت يضفي مذاقًا خاصًا على أدواره، وفي “فات الميعاد”، كان حضوره كمذاق القرفة: واضحًا، مستساغا كما أن المقارنة بدوره في “الدالي” أو “الريان” تظهر تميزه، وتكشف عن ممثل لا يفرغ الانفعال، بل يديره بحذر، ولا يقدم الشخصية من سطح الحدث، بل من جوهرها؛ فسيناريو شخصية بهذا الهدوء، قد يُغري الممثل بالسكون والنمطية، لكنه منحه تأثيرًا ديناميكيا خالصًا شديد الإتقان.
في الخلفية، يتجلّى محمود البزاوي في واحد من أكثر أدواره نضجًا، الأب الذي ربّى أولاده على النزاهة يجد نفسه ممزقًا بين أخيه الذي يضغط باسم الدم، وابنه الذي خذل ابنته، والرجل الذي لن يمكنه عن مبادىء علمها لطلابه، خاض البزاوي هذا الصراع من دون إفراط، بنظرات وانكسارات متدرجة، ومثل حضوره الأساس الأخلاقي للمسلسل.
هذه الشخصيات كلها، وأبرزها أيضًا فدوى عابد في دور سماح، والفنان القدير محمد أبو داود، المسيري، لم تكن لتتجلى بهذا التماسك لولا توجيه المخرج سعد هنداوي؛ فقد لجأ إلى حركة كاميرا ذكية، قريبة، تراقب الملامح بوضوح، فكانت زاوية العدسة شريكًا في الحالة النفسية، فضلا عن اختيار الديكور الرمادي دائما في بيت معتصم وبسمة لترسيخ حالة التردد التي يعيشها أفراده، أو الاعتماد على اللقطات الضيقة في منزل عبلة، التي ساهمت في اختناق المساحة تمامًا كما يخنق ماضي هذه العائلة أفرادها وغيرها من تفاصيل لم تغب الدقة عنها .
السيناريو اتّسم بالدقة والاقتصاد، لم يفرّط في حوارات طويلة؛ بل استخدم الحوار كوسيلة للغوص في الطبقات، كل جملة امتداد صوتي للشخصية، لا صوت الكاتب المفسر الشارح للحدث في ترهل للسرد عانينا منه في بعض الأعمال الأخرى.
بهذا كله، تجاوز “فات الميعاد” النمطية في الدراما الاجتماعية، وقدّم الواقع المصري المعاصر دون السوقية أو المبالغة، لا خناقات مصطنعة، ولا ألفاظ مبتذلة؛ بل مواجهة مشحونة بالتوتر، بين شخصيات تشبهنا في تفاصيلنا الأشد خفاء، حتى وإن كرهنا ما تقول أو تفعل.
وذلك هو جوهر النجاح الحقيقي: أن نرى أنفسنا، بكل تناقضاتنا في دراما ليست بكائية تستدرّ الدموع، بل عمل يقول لنا ببساطة: شاهد، وافهم كيف أن هؤلاء جميعهم.. قد فاتهم الموعد أو (الميعاد ) ليتك لا تضيع موعدك.
في النهاية
لا يفوتنا، تأمل اختيار عنوان “فات الميعاد”، المحاكي للأغنية الشهيرة التي أدّتها السيدة أم كلثوم، والتي ارتبطت في الوعي الجمعي بانهيار سقف التوقعات، وضياع الأمل في عودة آمنة لما مضى.
لكن المسلسل لا يستسلم لهذا التأويل الكامل، بل يراوغ بين الانهيار والنجاة، بين الحسم والتردد؛ وتحديدًا في العلاقة بين بسمة ومسعد التي تشعبت وانحرفت لكنها لم تُغلق تمامًا.
فحتى حين قررا الانفصال، لم يُنهيا خيط العلاقة تمامًا، لأن ما بينهما – وفي مقدّمه ابنتهما الصغيرة – يظل عالقًا كندبة في الروح.
إن فات الميعاد في هذه القراءة لا يعني الفقد المطلق، بل يدق جرس التنبيه الأخير: ألا يفوت موعد الإنسانية، مهما كان الانفصال حتميًا، فالخلاص الفردي لا يكتمل إلا إذا عوفي الأبرياء من النتائج، وهنا تصبح الطفلة الصغيرة رمزًا لهذه الإنسانية الواجب إنقاذها، حتى لا يفوت موعدها هي أيضًا مع الحياة.
منال رضوان – ناقد أدبي
عضو لجنة الإعلام باتحاد كتاب مصر