ساحة الإبداع

أوبرا مصر تَنشُر القصة القصيرة “صلاة زوربا” للقاص أحمد شوقي

ظل سالم يحدث نفسه وهو بين الواقع والهلوسات، ويقول بصوت مرتفع: في أوقات المرض يتضاءل شعوري بالأمان، تزداد هلوساتي،يمضي عقلي في تمرده إلى حد أن أتخيل زوربا يصلي، أن أراه بأم عيني يقف أمام المذبح مشبكًا أصابعه كالشحاذين. أن أراه وقد أشعل شمعة وانتصب أمام الراهب يتناول… زوربا الذي تمرد على قانون الإيمان قد تمرد عليه عقلي الآن.
سمعت صوته الأجش الخشن وهو يناديني بالرئيس، نعم كما أقول لكم؛ بت من الآن وصاعدًا رئيس زوربا.
نظرت إليه بدهشة وأنا أشير إليه بسبابتي:
– ادنُ مني يا زوربا.
أشعل غليونه المُبتل ودنا مني قليلًا ولم يتغير صوته الأجش، إلا إن عينيه لم تعودا عينيه اللتين أعرفهما جيدًا؛ لقد باتتا أقل وهجًا، أقل هوسًا. لقد أصبح زوربا من الآن مدجنًا. سألته:”ما الذي حدث يا زوربا؟ ما الذي ألم بك يا صاحبي؟”
“الحب أيها الرئيس.” قالها زوربا بانفعال من يخاف أن يفقد شيئًا قد امتلأ به رغبة من بعد سنوات العيش بلا رغبة في شيء. من بعد العيش في نعيم اللاشيء واللارغبة.
“وهل الحب يجعلنا هكذا يا زوربا؟ يجعلنا شحاذين؟ جبناء؟ مدجنين؟”
“وأكثر من هذا أيها الرئيس، قد تراني أحمل حقيبة بها بازلاء وجزر، وأعواد سبانخ، وقد تراني في الكنيسة أتمتم بالصلوات، وقد تراني أجر عربة تحمل طفلتي الصغيرة التي أهدهدها كل ليلة كي تنام من أجل أن تفسح لي المجال أن ألتقى أمها، وفي الأخير أنام أنا من دون أن يهتز الفراش.”
“وهل مس الإيمان قلبك يا صديقي؟”
“لا، ولكنها مناسك وطقوس توارثناها من الطيبين الذين لم تُجدِ بهم نفعًا، ولكنها تبث في نفسي طمأنينة لا أعرف إن كانت حقيقية أو زائفة أيها الرئيس. لقد بت من بعد الحب شمعة تسيح في كل لحظة مخافة الانطفاء، ولكنها لا تعلم أنها تنطفئ وتموت.”
“هل تخشى الموت يا زوربا؟”
هرش رأسه بأظافره القذرة وهو ينظر بعيدًا إلى ما لا أتبينه، وبعد تفكير طويل، قال:
“نعم أخشى الموت أيها الرئيس، ولكني لا أعرف إن كنت أخشاه خشية الحب أو الكراهية. كل ما أعرفه أنني أحببت تلك المرأة، أحببتها كثيرًا، لكن شيئًا ما يحدث لا أجد له تفسيرًا.”
“ما هو يا زوربا؟”
“كلما أصبت منها شيئًا أشعر بالعطش والجوع،هي مثل ماء البحر؛ قد ننهل منه، ولكنه لا يروي ظمأ أنفسنا!”
“وماذا عن المعنى وراء كل شيء يا زوربا؟”
“أظن أننا نقف على شاطئ البحر أيها الرئيس ولم نُصب شيئًا من الماء. أظن أننا نقف على حافة البئر ولم نسقط فيه بعد، قد يلفحنا الوهج، ولكننا نقف بعيدًا عن النار، بعيدًا جدًا.”
“هل تحب كازانتزاكس يا صاحبي؟”
“هو الكابوس الذي صنع أسطورتي أيها الرئيس، وكيف لا أحبه؟ كنت أريده أن يجعلني أكثر تمردًا، أن يجعلني شيطانًا له ضمير، أن يضع في ذاتي الراحلة قدرًا من الشر.”
أكره تلك المثالية التي في شخصية زوربا، ولكني أحببت زوربا جدًا، أحببته مثلما أحببتها.
تركت زوربا ينفث دخان غليونه وغضبه وأخذتني غفوة. ورأيت فيما يرى النائم المرأة التي أحبها زوربا؛ كانت لتوها خارجة من البحر، تجفف جسدها العاري بمنشفة من القطيفة الحمراء. كان جسدها يتلألأ تحت ضوء القمر، يضوي كما تضوي النجوم. قطرات الماء فوقه مثل بيضات السمك. عيناها زرقاوان وشعرها أسود كثيف، وشامة صغيرة تعلو حاجبها الأيسر المقوس. كان ضوء القمر يجعل من وجهها شمسًا مضيئة.
فزعت لما رأتني، وتدثرت بالمنشفة، وكان وجهها شاحبًا قليلًا. ترجلت ناحيتها كالممسوس، تمنيت لو أتذوق شفتيها الشهيتين، أو أستلقى معها تحت ضوء القمر. تمنيت لو أضاجعها. لكن شيئًا من هذا لا يصح؛ إن زوربا صاحبي، صديقي الوحيد في الحياة، إنه فلسفة مستقلة بذاتها، دين قائم بذاته. زوربا ليس مجرد إنسان، زوربا نفخة شيطان، روح من غير جسد، زوربا رصيف تجلس عليه المومسات آخر الليالي كي يسترحن، رصيف للشحاذين، والمشردين، وكل من عاش في الهامش.
نظرت إليها وقلت لها:
“أنا صاحب زوربا، أنا زعيمه. هل حكى لكِ عني شيئًا؟ هل ذكرني عندك يومًا ما؟”
قالت لي بصوت حزين، بل بأكثر حزنًا مما يمكن أن أعبر عنه هنا:
“زوربا؟ مات زوربا مات قبل أن تولد أنت على ما أعتقد.”
انقبض قلبي بقوة، سالت دموعي على وجنتي ساخنة، لم أدرِ ما علي أن أقول، ما علي أن أفعل. أدرت لها ظهري وأنا أحمل وجيعتي مثل النار. كنت أرددها:”مات زوربا… زوربا مات قبل أن نصلي معًا صلاة أخيرة، قبل أن يعلمني كيف أنفث دخان الغليون من أنفي، قبل أن أجلس على ذلك الرصيف بجانب المومسات، قبل أن يخبرني أين نذهب بعد أن نموت.”

 

 

أوبرا مصر ، ساحة الإبداع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى