دراسات ومقالات

فولاذ عبدالله الأنور يَكتُب: “ويزيدنا العقاد من شجواه وأساه”

ويزيدنا العقاد من شجواه وأساه فيستأنف قائلاً:
( وكأنما كانت كلمة الموعد “القديم” وحدها طلسماً ساحراً نقله من حالةٍ إلىٰ حالة، وأخرجه من الحذر والتردّد إلى الراحة والاستبشار، فاحتجبت عنه صفحة الشكوك والآلام والمنغّصات، ولم ير أمامه إلا “الموعد القديم” بل “المواعيد القديمة” وما كانت تحتويه من سرور ومتعة وصفاء، وذكريات لا تزال مرتسمةً في الذهن، ساريةً في الجوارح كأنها وظيفةٌ من وظائف الأعضاء.)

ويبدو من هٰذا السياق ـ للوهلة الأولىٰ ـ أن العقاد حسم الأمر لصالح وِصالِ حبيبته، لا لقطيعتها، غير أنه لا يلبث أن يشدنا معه في دوامة التمزّق بين الوصل والقطيعة في مشاهد يبلغ فيها الحزن والألم حدَّ الأمواج المتلاطمة التي لا تصمد لها حوافّ اليابسة فضلاً عن رهافة الوجدان.

صور
صور

ويجيءُ اليوم المرتقب ويلتزم العقاد بيته والرغبةُ العارمة في استقبال حبيبته تستبقيه، والرغبة المغايرة في عدم استقباله لها تناديه،!

فلا هو يركن إلى البقاء في انتظارها ولا هو ينشط للإفلات من هٰذا الانتطار، وتهجم عليه ذكرياته الهنيّة معها في مواعيدها “القديمة” وتحاصره مَشاهدُ الحب معها والحُنوّ والعاطفة الماثلة أمامه في كل ركنٍ من أركان البيت، فيقول مخاطباً نفسه:
( كيف لا تنتظرها ؟ أتعطي سيدةً موعداً ولا تنتظرها فيه؟ أهٰذا يليق برجل؟)

صور
صور

ثم لا يلبث أن تداهمه صورُ التكدير ومَشاهدُ المغاضبة والتنغيص، فيعود إلىٰ العزم علىٰ عدم استقبالها، والوقت يتقدم نحو الخامسة، فيعود وينكص عن هٰذه العزيمة، فلا إرادة تستبقيه لانتظارها ولا قرار يدفعه إلى عدم انتظارها، فأين عزيمته التي ملأ بها الدنيا وشغل الناس؟
يقول:
(عزيمتي؟ وأين هي عزيمتي إن كانت لا تنجدني في هٰذا النزاع العنيف؟)

ويظل علىٰ هٰذه الحال والوقت يتقدم نحو الخامسة، حتىٰ أزفت النهاية التي كان لابد منها وإن جاءت علىٰ غير حسبان، يقول:

(وتعاقبتِ الساعات ولا قرار، وتناول صاحبنا غداءه ولا قرار، وجاءت الساعة الرابعة ولا قرار، غير أن الذي حدث بعد ذلك يدلّ دلالة لا شك فيها علىٰ أن الإنسان يقرر ما ينويه وهو لا يشعر ولا يعترف بشعوره، ففي الساعة الرابعة وبضع دقائق وجد صاحبُنا أنه يلبس ملابس الخروج ويفتح باب حجرته، وينحدر على الدَرج إلىٰ حيث لا يعلم إلا أنه خارجٌ من المنزل . . . . فماذا عساه أن يصنع، لا تسل فكرَهُ، ولا تسل قلبه ولا تسل ضميره، بل سل كلَّ وشيجةٍ من وشائج لحمه ودمه وأعصابه التي عزمَت عزمها بغير اكتراثٍ لفكرِهِ أو لقلبه أو لضميره، واستقلت بإرادتها . . . . فطلبت النجاة بالبداهة المرتجلة وهي لا تعي ولا تفقه إلىٰ أين تسير، ولا لوم على من يطلب النجاة، فإنما هٰكذاٰ تُطلب النجاة)

صور
صور

هٰذهِ إضاءة أدبية لفصلين اثنين من الفصول الستة عشر التي اشتملت عليها تجرِبة العقاد الأسيفة مع “إليس داغر” فأثمرت لنا هٰذهِ الرواية الطويلة الخالدة “سارة”، لنجنيَ نحن منها دُرراً من الفكر الناصع في ماهيّة الحب ولآليءَ من الجوهر النادر في دوافع الهوىٰ، تُعجز صيارفةَ الجواهر ودهاقنةَ الأحجار الكريمة عن الوقوف عليها إلا في صهاريج العقاد نفسه وفي مختبراته العامرة بالدوارق الذهبية والبُوتقات، لتحليل فكرِه وشعره وأدبه وتراجمه الخالدة علىٰ مر الزمان.

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى