ساحة الإبداع

أوبرا مصر تَنشُر “الوظيفة قارئ” قصة قصيرة لـ “زكريا صبح”

مترددًا أقول: قارئًا، كلما سألني أحدهم وماذا تعمل الآن؟
أفهم أن السؤال ينطوي على شفقة لا أحب أن أراها في عيون السائلين، وينطوي على حزن لا أحب سماعه في صوت المشفقين.
لم أجد بدًّا من اختلاق وظيفة جديدة تناسبني بعد أن احدودب الظهر، وتيبست المفاصل، وارتعشت الأطراف، هل أقول لهم أنا موظف في إحدى الشركات؟
وأي شركة تقبل برجل جاوز السبعين بقليل، لا يتحرك إلا ساحبًا قدمًا تلو أخرى؛ لأنه لا يستطيع رفعهما عن الأرض.
هل أقول لهم أنا مدقق لغوي؟
وكيف تنطلي عليهم الكذبة، وأنا لا أقوى على الضغط على قلمي، أو زر الكيبورد، حيث أصابعي استحالت إلى أصابع من زجاج يُرَى ظاهرها من باطنها، أتخيلها أحيانًا وقد تهشمت إلى قطع صغيرة، كما لو كانت كوبًا من الزجاج سقط.
أنا لا أستطيع أن أقول إنني بلا عمل، لا أطيق مَن يضع في يدي جنيهات مبعثرة ترقد في جيب أحدهم، ولا أن يترك لي آخر ظرفًا داخل كتاب يتعلل أني نسيتُه معه، فإذا ما فتحته وجدت الهدية ممددة في الظرف، ورقة فئة المئة أو المئتين، ترقد في سلام، أسحبها فلا أجد ما أرد به الجميل إلا قراءة الكتاب، ما إن أفرغ منه حتى أقبض على هاتفي بيد مرتعشة، وبعد محاولات كثيرة أنجح في الاتصال به، تخرج كلماتي من بين شفتين مرتعشتين، تتطاير منهما فيسمع المستمع بعضها ويتصنع سماع الأخرى.
مثلا أقول له: «اااانا م ت ش ك ر ج د ا ع ع ع لى الظرف وم وم ش عا رف اااقووول ك اايه، بس أنا قر اا ت الكتاااب وع جبن عجبني».
كنت أسمع صوته على الجانب الآخر فرحًا بما أقول في حقه،
ربما كانت المرة الأولى منذ شهر، أو شهرين، ربما منذ عام أو عامين، يااااااه حتى الذاكرة تلاشت، لم أعُد أذكر شيئًا بالمرة، لكني على يقين أنها كانت ومضة في رأسي تجلت كأنها طاقة من نور فُتِحَت أمامي، شعرت بأنني اهتديتُ للطريق بعد عناء طويل، عمر كبير ضاع في ملاحقة الأدباء والمبدعين، أجاورهم فوق المنصات ناقدًا، وأصاحبهم في الليالي مدققًا لغويًّا، عمر ضاع بلا عائد، أعرف أن حضوري الآن بينهم لا يعني شيئًا، أصبحت آخر المتحدثين، وأقل المتكلمين، أصبحت أشعر بالخجل من هندامي، وملابسي الرثة، حتى رائحتي أظنها مثار تأفُّف وامتعاض، لكن ماذا أفعل وأنا وحيد في منزلي؟ أبيت بين جدران أربعة، سودتها أنفاسي، ومصباح معلق فوق رأسي يبثني الشكوى كل ليلة، كأني سمعته ذات مرة يقول: أنت رجل طيب، وأعرف أنك لو وضعت قدمًا واحدة فوق مقعدك كي تحاول إصلاحي فسوف تسقط أرضًا، ولن يُسعفك أحد، ولن يسمع صرخاتك أحد؛ لذا أنا سأبقى سليمًا معافًى من أجلك، لن أعطب، لن أمنع عنك ضوئي الذي تقرأ به.
لمعت الفكرة في رأسي عندما سمعت أحدهم يقول لي: لقد أرهقت نفسك في قراءة العمل، ولست أدرى كيف أشكرك، وعندما قابلني في ندوة لاحقة منحني بعض الفئات الورقية.
صرت كلما قابلته أعيد عليه جملة مكررة «لقد قرأت كتابك، وكم أعجبني أسلوبك المتطور»، فيبتسم ابتسامة أعرفها جيدًا؛ لأن جيبي يبيت ليلتها يأتنس بورقاته المالية، أعجبتني الفكرة، ورحت أقرأ لغيره، وأعبر له عن سعادة زائفة بما كَتَب، وأظل به حتى يتيه بنفسه، فيجزل لي العطاء، حتى الذين لا تستقيم لهم جملة أصبحوا يتيهون بما أقول في حقِّ ما يكتبون، وأصبحت أسعد بما يتركون لي من مال.
الآن أقول لمَن يسألني عن عملي، قارئ، لم أعُد شاعرًا بالخجل، أصبحت أُفاخر بنفسي كلما أطل على أحد أبنائي، أو زارتني زوجتي، أفاخر بنفسي أمامهم، أفاخر بأناس فقدت لأجلهم أسرتي، يوم خيروني بين الحياة معهم أو الحياة بين الكتب، فلما اخترتُ الكتب وجدتني معهم في هذه الحجرة الحقيرة، حجرة صغيرة في الدور الأرضي من بيت بنيتُه أيام كنتُ قادرًا على الكسب من عمل يدي.
الآن أقول مفتخرًا كلما سألني أحدهم عن عملي: أنا قارئ، ولستُ أدرى لماذا تفيض عيناي بالدموع كلما قلتُ ذلك.

 

 

 

أوبرا مصر ، ساحة الإبداع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى