أخبار عاجلةدراسات ومقالات

قراءات عن فارس الرومانسية يوسف السباعي ملف خاص لموقع أوبرا مصر

يوسف السباعي بين مبكى العشاق، وحديث الإبداع.. 

الملف اعداد الكاتبة: منال رضوان

سيرة غنية لفارس عاشق وأديب لم ينل الحظ الوفير من الاحتفاء بمسيرته، مَثَّل السباعي ولم يزل القلب الصلب للدفاع عن هوية هذا البلد الثقافية.. يوسف السباعي الذي أسس اتحاد كتاب مصر في السبعينيات من القرن الماضي، كما أسس نادي القصة وكتب عشرات الروايات والقصص القصيرة، وكان إنتاجه يتصف بالزخم والتنوع، فهذا المبدع الذي كتب في عامين ثلاث مسرحيات أم رتيبة ووراء الستار ثم جمعية قتل الزوجات على سبيل المثال، كان مثالا في الوفاء للحرف.. هذا الثراء والتنبؤ بمستقبل البلد الذي أحب، ودافع عنه كضابط ثم أديب فوزير للثقافة، ولعله سجل هذا الوفاء في مجموعة من المقالات عقب هزيمة يونيو ضمها كتابه “من وراء الغيم” وعد فيه أبناء الوطن بأن الانتصار آت لا محالة.. وقد كان.
ولكن يظل القدر صاحب كلمة النهاية، ومؤلف حبكتها فكما كانت حياته قصة إلهام، كانت النهاية درامية لم يستحقها صاحب أكثر الروايات التي انتهت بالرحيل المأساوي.. وفي ذكراه التي تتزامن كل عام والاحتفال بعيد الحب، اختار قسم المقالات والدراسات النقدية بموقع أوبرا مصر أن يكون ملفه الأدبي لهذا الشهر عن الأديب الراحل يوسف السباعي فارس الرومانسية الذي نثر بكلماته الورد في طريق العشاق الملآنة بالدموع.

الكاتبة منال رضوان
الكاتبة منال رضوان

بالفانتازيا والكوميديا والاستشراف يوسف السباعي يتفوق علي رومانسيته

ماهر حسن

كان يوسف السباعي علي علاقة وثيقة بعائلتنا منذ حياة جدي وكان دائم التردد علي بيت العائلة في 5أ شارع طور سينا بحي الظاهر وأيضا إحسان عبد القدوس وأنيس منصور الذي تخرج في نفس الدفعة من كلية الآداب جامعة القاهرة مع عمتي كما كان يتردد علي هذا البيت أيضا الفنان شكري سرحان والمطرب محمد رشدي ابن بلدنا الأصلي دسوق بمحافظة كفر الشيخ وكان من أسباب تردد يوسف السباعي علي بيت العائلة أنه كان علي علاقة وثيقة بعمي الذي كان طبيبا جراحا لكنه أيضا كان رساما وفنانا تشكيليا متفردا وهو الدكتور حسن محمد حسن والذي رسم كل أغلفة الأعمال الأدبية ليوسف السباعي حتي أن جدي الذي كان يعمل في سلك القضاء كان يري في ذلك تعطيلا لعمي عن التحصيل الدراسي بكلية الطب كما احترف عمي رسم أغلفة ورسومات مجلة صباح الخير لكنه ظلم فنيا لتشابه اسمه ثلاثيا مع أستاذ في كلية الفنون الجميلة وهو حسن محمد حسن لكن يذكر للفنان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق أنه أقام معرضا استعاديا لعمي الجراح والرسام بمتحف محمود مختار كما استضافته مني الشاذلي في برنامجها ولعل العلاقة الوثيقة ليوسف السباعي بعائلتي وخاصة عمي، جعلني أقبل في صباي علي قراءة أعماله وخصوصا الرومانسية بين ما أقرأه من كتب وأعمال أدبية
لعل هذا المفتتح يدفعني لأقدم إطلالة سريعة علي بعض المحطات الإبداعية المختلفة في مسيرة السباعي خارج الأعمال السردية التي تعتمد الدراما والحكي كمقوم أساسي رومانسي أو وطني ومن هذه الأعمال العمر لحظة ورد قلبي وبين الأطلال ومن جانبي أري أنه لابد أن يكون المبدع صاحب خيال مجنح، وأن تكون مساحة الإبداع والاختلاق لديه أعلي من قيمة الحكي والسرد المتتابع الواقف علي حدود القالب السردي المتنامي والنمطي وما لم يكن هناك خيال في الإبداع فهو ليس إبداعا
وقبل أن نتوقف إزاء أعمال فارقة ومغايرة لما تقدم ذكره من أعمال نستعيد سيرة هذا المبدع أما اسمه كاملا فهو يوسف محمد محمد عبدالوهاب السباعى ونعرفه اختصارا باسم (يوسف السباعى) ومازلنا نذكره برواياته الرومانسية الطابع التي تحولت إلى أفلام ومنها السقا مات ونادية غير مسرحية أم رتيبة والتي كتبها ثم كتب مسرحية ثانية بعنوان وراء الستار فمسرحية جمعية قتل الزوجات في العام ذاته، كما أنه مؤسس اتحاد الكتاب وهو مولود بالدرب الأحمر، بالقاهرة في يونيو ١٩١٧ووالده محمد السباعى كان متخصصا في الأدب والترجمة وكان يرسل ولده «يوسف» بأصول المقالات للمطابع ليتم جمعها، ثم يعود بها ليتم تصحيحها ثم يعود بها مجددا بعد تصحيحها، وفى أخريات حياته كتب قصة (الفيلسوف)، ولكن الموت لم يمهله، فتوفى وترك القصة التي لم تكتمل، وأكمل القصة ابنه يوسف السباعي وطبعت عام ١٩٥٧ بتقديم للدكتور «طه حسين»، وحين توفي أبوه كان يوسف في الرابعة عشرة من عمره وقد تنقل بين مدارس كثيرة مثل وادى النيل، ومدرسة الكمال، ومدرسة محمد على، ومدرسة الخديو إسماعيل حتى حصل على البكالوريا من مدرسة شبرا الثانوية عام ١٩٣٥وكان يجيد الرسم وبدأ يعد مجلة يكتبها ويرسمها وتحولت المجلة لمجلة للمدرسة بعد أن أعجبت إدارة المدرسة بمجلة التلميذ يوسف وأصبحت تصدر باسم (مجلة مدرسة شبرا الثانوية) ونشر بها أول قصة يكتبها بعنوان (فوق الأنواء) عام ١٩٣٤، وكان عمره ١٧ عاما ولإعجابه بها أعاد نشرها فيما بعد في مجموعته القصصية (أطياف) ١٩٤٦،أما قصته الثانية (تبت يدا أبى لهب وتب) فقد نشرها له أحمد الصاوى محمد في (مجلتى) عام ١٩٣٥، التحق السباعى بالكلية الحربية وتخرج فيها عام ١٩٣٧و فى١٩٤٠ بدأ بالتدريس لطلبة الكلية الحربية وأصبح مدرسا للتاريخ العسكرى فيها عام ١٩٤٣واختير مديرا للمتحف الحربى عام ١٩٤٩، وعام ١٩٥٦ عين سكرتيرا عاما للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وفى ١٩٥٧ صار سكرتيرا عاما لمنظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية،وفى ١٩٦٠عين عضوا بمجلس إدارة روزاليوسف، ورئيسا لمجلس إدارة دار الهلال ورئيسا للتحريرعام ١٩٧١، ورئيسا لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام ورئيسا للتحرير، واختير في ١٩٧٣ وزيرا للثقافة، وظل يشغل منصبه هذا إلى أن اغتيل في قبرص فى١٨ فبراير ١٩٧٨، نال السباعى جائزة الدولة التقديرية عام ١٩٧٣ وعددا كبيرا من الأوسمة.
أما الأعمال التي نود إعادة تأملها لكونها أعمالا مغايرة في مسيرته ومنها ما هي اجتماعية وساخرة ومنها ماهو فانتازي ومن هذه الأعمال مسرحية “أم رتيبة” ومسرحية “جمعية قتل الزوجات”، ورواية أرض النفاق ونائب عزرائيل
وتتوقف أولا عند مسرحية “أم رتيبة”والتي تحولت إلى فيلم كوميدى ناجح بطولة مارى منيب وعن هذا العمل قال السباعي :” لقد أمتعتنى كتابتها، إذ كنت أشعر وأنا أغلق باب الحجرة لأخلو بنفسى للكتابة، أنى لم أخل بها ولم أكن فردا، بل كنت محوطا بمجموعة أبطالها المضحكين الهازلين. كنت أضحك و أنا أكتب… و أرجو بعد كل هذا ألا تخذلنى “أم رتيبة” فتضحك القارئ كما أضحكتنى.. فإذا فشلت فليعذرنى.. لأن إبكائه قد يكون يسيرا.. أما إضحاكه فهو أمر جد عسير”، والمسرحيته مكتوبة باللغة العامية،” فلم يكن من المنطقي ألا يتحدث أبطالها بالعربية وتقوم المسرحية على قصة أخوين رجل وامرأة، أما الرجل فقد كان يشتغل مدرساً للخط العربي ثم أحيل على المعاش، فاشتغل بتحضير (الأرواح) وانهمك فيه وجمع حوله بطانة من محبيه ومريديه يعقدون بين الفينة والفينة (جلسة) لتحضير الأرواح والتذاكر فى أحوال الدنيا والآخرة، ولتبادل الآراء فى فلسفة الحياة وما بعد الحياة. واسم هذا الرجل (عبد الصبور) وقد قطع حياته عازبا، وكان يرى أن الزواج هو سبب الشقاء والبلاء وسبب خراب البلاد والعباد !وأما المرأة فهى (أم رتيبة) التى كان أخوها هذا عائقا دائما لها دون الزواج، فقد خطبها الكثيرون وتم رفضهم جميعا لما كان يراه فى أمر الزواج حتى بلغت الخامسة والأربعين وهى بين الحسرة والأسف واللهفة على الزوج الحبيب، والولد النجيب!، وكان لها جار اسمه (سيد أفندى) يشتغل خبيرا فنيا فى معمل (طرشى)! جاء يخطبها من أخيها (عبد الصبور) الذى ما كاد يعلم صناعته حتى طرده شر طرد لما كان بينه وبين (الطرشى) – كما يقول – من عداء قديم مستحكم! ثم مات أخوها فانكشفت الغمة وزال العائق الثقيل وتزوجت (أم رتيبة).
ويمكن وصف هذه المسرحية بالكوميديا الاجتماعية وفيه تجلت الروح التلقائية والطبيعية ليوسف السباعي ومصريته التي فاضت عليه بخفة الظل والتي فاضت بدورها علي شخصيات العمل حيث يتطلع الشباب والفتيات للزواج وكهم لايدرون أن يدفعون بأنفسهم إلي مشاكل حياتية لاتنتهي كما يستعرض بعضا من القناعات الاجتماعية المتضادة كما جاء هذا العمل من حيث البناء الفني والفكرة واللغة مغايرا تماما للروايات التي اشتهر بها يوسف السباعي حتي أنه علي نحو فكاهي إعتذر في مقدمتها للغوين بسبب اضطراره لاتخاذ اللغة العامية رغم منطقية هذا

يوسف السباعي
يوسف السباعي
الشاعر والصحفي ماهر حسن
الشاعر والصحفي ماهر حسن

أما الرواية الأخري فهي رواية فانتازية تعيد فرز القيم المجتمعية ويتجسد فيها الإبداع بكامل أوصافه لنقد ومراجعة المنظومة الأخلاقية وهي رواية “أرض النفاق “والتي يمكن أن نصفها بالاقتراب من الواقعية السحرية تَمكّن يوسف السباعي في روايته هذه ومن خلال مجرياتها السردية تسليط الضوء على واقع مجتمعاتنا،من خلال طرحه لإشكالية الأخلاق، والتي تثير العديد من التساؤلات، ذلك أن وجود الأخلاق في مجتمعاتنا يبدو ممكنا في ظل العديد من الشروط، لكن الواقع يقول العكس، هذا الواقع يشهد غياب الأخلاق في صورتها المناسبة، وفي المقابل نلاحظ حضورها في صورة نقيضها، وقد يكون ذلك سببا في هذا الأزمة الإنسانية التي باتت تفرض نفسها بقوة في واقع مجتمعاتنا مع الأسف، فأصبحت الأخلاق شبه غائبة إلى درجة أن وجودها يتأتى في المظاهر فقط. كما أبرز مكامن الخلل في قضية الأخلاق، وذلك بمقارنتها بالنفاق من أجل توضيح الفرق بينهما، وبين إمكانية وجودها في الواقع والخيال، بالإضافة إلى محاولته تجريب الأخلاق في واقع يُعشش في النفاق والتصنّع والنصب والاحتيال، وبذلك قام بتصوير واقعٍ تُحاول الأخلاق أن تجد مكانا لها فيه، لكن الاعتياد على النفاق لم يَسمح بذلك. لأن مجتمعاتنا تعاني من مرض اسمه النفاق، والذي يَصعب الشفاء منه، نظرًا لتفشيه في كل الميادين، ونظرًا لتجذره في غالبية الأفراد ذلك لأنهم يظهرون الأخلاق علنا فقط من أجل إبراز مثاليتهم الزائفة ومن أجل الحصول على مصالحهم، وفي السّر يُبطنون عكسها، وهناك تختبئ حقيقتهم، وهنا يَبرزُ النفاق في أبرز تجلياته. وقد شبّه الكاتب الأخلاق بِسِلعة مَعروضة للبيع، إذ أنه رغم وجود الأخلاق في ثقافة ومعتقدات هذه المجتمعات إلا أنهم لا يعيرونها أدنى اهتمام ولا يمارسونها كما ينبغي، اللهم في الحالات التي يمكنها أن تسعفهم في الحصول على مصالحهم. وهذه السلعة يَقل الإقبال عليها، وفي المقابل يصبح الإقبال على النفاق ممكنا، وبعد أن تصادف البطل مع محل خاص بِبَيع الأخلاق، دفعه فضوله إلى اقتناء البعض منها، فاختار تجريب الشجاعة بدايةً، ولكنه وجد صعوبة في الاندماج بها وسط مجتمع يحكمه النفاق، ذلك أن الشجاعة أجبرته على مصارحة الناس، ومواجهتهم بكل جرأة، وقد أدى به ذلك إلى الوقوع في مشاكل لا تحمد عقباها واتهامه بالجنون. ذلك أن الواقع ليس قادرا على تحمل كل ذلك، فقرر اِستبدال الشجاعة بالمروءة، هذه الأخيرة علمته العديد من الدروس بخصوص مجتمعه، من نصب واحتيال ومكر وخداع. وهكذا وجد أن كل تلك الأخلاق لن تُجدِي نفعًا وسط مجتمع اعتاد العيش في ظل النفاق، لكنه قَرّر في الأخير سرقة خليط الأخلاق، والقيام بإفراغه في نهر النيل، مُعتقدًا بذلك أن تلك هي الطريقة التي سيتغير بها الوضع، لكن ذلك جرّ عليه تهمة نشر الأخلاق، باعتبار أن ممارسة الأخلاق بمثابة أمر يُخالف عادات المجتمع، ذلك أن المسائل المندرجة ضمن الأخلاق لا تناسب واقع المجتمع الذي يعاني من مرض اسمه النفاق، والذي يَصعب الشفاء منه، نظرًا لتفشيه في كل الميادين، ونظرًا لتجذره في غالبية الأفراد، حتى فقدوا بذلك شخصياتهم الحقيقية، وباتوا يَظهرون فقط من خلال شخصياتهم المصطنعة، والتي يهدفون من وراءها إلى الحصول على مصلحة ما، أو الظهور بالشكل المقبول في المجتمع.

وهناك عمل آخر ليوسف السباعي يعتمد الفانتازيا وهو رواية “نائب عزرائيل” والتي تتحدث عن شخص أخذ بالخطأ إلى الدار الاخرة وتولى منصب نائب عزرائيل ـوهو في اعتقاد الكاتب ملك الموت،وتتوالى الأحداث علي نحوجمع بين الفانتازيا والكوميديا فارق الكثير من الأعمال الأدبية العربية وفيها نري عزرائيل ليس كما تخيله العالم من شكل مخيف ومرعب بل ملاك جميل وذو حسن حتي أنه يقع بالحب،وقد كتب السباعي هذه الرواية في عام ١٩٤٧وقد صدرت في كتاب واحد مع رواية ” البحث عن جسد” في عام ١٩٥٣ لكن تحكي الرواياتان عن نفس الشخص. وكانت رواية ” نائب عزرائيل وهي المؤلف الأدبي الثاني له بعد مجموعته القصصية ” أطياف” التي كتبها في نفس العام، ومن ثم تعتبر” نائب عزرائيل ” هي الرواية المطولة الأولى للسباعي ..وتدور أحداث الرواية بين عالمين هو عالم البرزخ الذي صعد فيه البطل عن طريق الخطأ والعالم الدنيوي الذي هبط فيه البطل بإحدى المدن الساحلية بمصر ثم اصطحبنا إلى منطقة زينهم وحي السيدة زينب بالقاهرة، لم يحدد الكاتب زمن الرواية ربما لأنها تصنف ضمن قصص الفانتازيا و الروايات الخيالية التي كان ينتقل فيها البطل بين جسده وروحه وبين الحياة والموت، وبالرغم أن الحوار الذي كتبت به الرواية غلب عليه أسلوب المرح والفكاهة الا أن الرواية فلسفية من الدرجة الأولى شرحت معنى الموت ومفارقة الحياة بأسلوب بلاغي ونعتته بانه مجرد انتقال لحياة أرقى وأسعد كما ذكر الراوي حين صعدت روحه

ونائب عزرائيل تتألف من احدى عشر فصلا تبدأ مع ” عودة من الآخرة” لأحد الأرواح لكن ” في الطريق” يطلب ” عزرائيل العاشق” من البطل طلبًا عجيباً تحوله الى ” نائب عزرائيل” الذي لا يرضى بقبض ” الروح الأولى” ويغادرها سائرا ” في سيدي زينهم” ثم يغادر المكان متجها نحو ” وليمة” ، ثم يقابل ” محمود أفندي الفنط” ، و ” أبو السعد” الذي لم يكن له نصيباً من اسمه، ثم يعود في ” في عربة ( بويك) ” متجها لرحلة ” في السجن السفلي رحلة بين السماء والأرض يحاول فيها إنقاذ عدد من الأرواح ويتكلم فيها عن فلسفة الموت ثم يرى في النهاية مقعده في النار من خلال كابوس مرعب قد يتحقق أولا…
أما رواية ” البحث عن جسد” فكانت الأدبي السادس والعشرون للسباعي، والرواية السادسة له وتدور الأحداث حول رحلة البحث عن جسد لروح تريد أن تعود إلى الدنيا ثانياً تنتابها الحيرة حين تعرض عليها الشخصيات المختلفة لتختار من بينها وبالتالي تعتبر هي الجزء الثاني من رواية ” نائب عزرائيل” تلك الروح التي صعدت وأرادت العودة ثانيا للحياة، والرواية تصنف من روايات الفانتازيا الخيالية الفكاهية ولذلك لم يحدد ” السباعي” لها الزمان أو المكان وبالرغم من الأسلوب الساخر الذي كتب به الرواية إلا أنها رواية سياسية رمزية من الدرجة الأولى، أشارت شخصية البطل فيها الى شخصية الملك فاروق، وحاول “جبرتي العصر” إيصال رسالته من خلالها التي تكمن في أن الشعوب هي التي تصنع الحاكم وليس الحاكم الذي يصنع الشعوب كما ذكر في آخر صفحاتها على لسان بطله :-“أأخذ الشعب كله وأتركك يا صاحب الجلالة بلا شعب ؟ أظن لن يكون لك ملكا اذا كنت ملكا بلا شعب، ان ملكك مستمد من وجوده، وسلطانك مستمد من كيانه، مهلا يا صاحب الجلالة اذ أخذتك أنت فليس أسهل من أن يصنع غيرك…صنع الملوك سهل وصنع الشعوب مستحيل “وقد كُتبت بلغة سهلة ممتعه ساخرة تلتهمها في جلسة واحدة. ونجد البطل (يوسف) في أول مشهد ينتظر دوره في طابور طويل ولا يسمع الا ما يشابهه فيفضل الإنتظار وعدم الدخول حتى يفرغ الجمع، فيسأله الحاجب عن سبب بقائه دون دخول وهنا نكتشف المفاجأة أنه ليس المطلوب!للوهلة الأولى نرى الأمر عادياً كثيراً ما يحدث أما حينما يتعلق الأمر بالموت فتلك كارثة!
نعم بطلنا مات البطل بالخطأ نتيجة تشابه أسماء وهو الأن معلق الروح في حياة البرزخ بين السماء والأرض، ولتدارك الخطأ يقوم عزرائيل شخصياً بالإعتذار والتعهد بإعادته للأرض، وحينما تقع عين البطل على عزرائيل لأول وهلة لا يصدق عينه بل ويظنه أحد مساعديه لشد ما رأه وسيماً مهندماً بعكس ما نتخيله من هيئه منفره مخيفه. وأثناء رحلة العودة يتناقش البطل مع عزرائيل الجميل كما أسماه حول ماهية الموت والحياة، وأن الموت ليس بذلك السوء الذي يعتقده البعض وأنه غير مؤلم بل هو انتقال لمنزلة أعلى وروح حرة طليقه من أعباء الجسد، بل ويصل به الأمر أن يعرض عليه ألا يعيده إلى الأرض كمساعدة منه لعزرائيل لأنه يفضل الموت بعدما عرفه عن الحياة، فيتوجس منه عزرائيل الخوف بعدما عرف حقيقة الأمر ولكنه يرفض طلبه بالبقاء في حياة البرزخ ويوضح له انه لا يجب أن ينشر رأيه للناس عن الموت بعد عودته، لأن لرهبة الموت سبب فهو بمثابة الرادع الزاجر للناس عن شرورهم كما أنه سبب للبقاء على الحياة فلولا رهبته لما بقي على الأرض أحد.
تبدأ رحلة العودة إلى الأرض ولكن عزرائيل يتذكر موعد هام تأخر عنه لولا خطأ التبادل هذا ولكنه حتى لو حاول اللحاق بموعده لن يستطيع فلديه مهام لم ينجزها، وهنا تبدأ المهمه العجيبه فيصبح البطل نائب لعزرائيل بعد إتفاق بينهما بأن يذهب هو ليقبض الأرواح ويذهب عزرائيل ليلحق بموعده.
أما في مسرحيته “جمعية قتل الزوجات” فنقف علي قراءة مدققة للقيم المجتمعية انطلق منها إلي ضفاف الاستشراف وكأنما يسأل إذا كان واقعنا يفيض بالمشكلات الأسرية بين الأزواج والزوجات حتي أننا نسمع بتنا نسمع عن بعض الجرائم الأسرية ولكنها نادرة للغاية فكيف سيكون الوضع مع تقدم الزمن وتعاظم المشاكل والمعاناة بالتأكيد ستتزايد مثل هذه الجرائم وتتكرر، يوسف السباعي في مسرحيته هذه تخيل فيها إنشاء جمعيه سرية للأزواج لقتل زوجاتهن على خلفية الخلافات المستمرة بينهم، وهذه الجمعية أسسها نوح أفندى ليتخلص من طغيان زوجته أم عبده، واقنع أصحابه بالانضمام إليها لـ«إنقاذ الرجل من برثن المرأة». كان نوح غاضبا من أم عبده، لأنها استدعت الشيخ عجايب، ليعمل حجابا يعطل نوح أفندى عن ” الشقاوة” ويكتفى بها. وكتب يوسف السباعى إهداء ساخرا من النقاد الذين انتقدوا مسرحيته الأولى «أم رتيبة» بقسوة بالغة، وقال: إلى النقاد الذين اتهمونى بالإسفاف والتهريج أهدى مزيدا من الإسفاف والتهريج! وحين نتأمل واقعنا الذي صار حافلا بالمفارقات والجرائم نجد أن هذا التهريج تجاوز الواقع و خيال نوح أفندى، فالآن يمكن للمرأة أن ترفع دعوى على زوجها، وأن تقوم بتطليقه أو تقطيعه أيضا يبدو أن السباعي تنبأ بأن هذا النوع من العنف ستواجهه النساء في مصر لاحقا، حيث شهدت مصر في الأعوام الأخيرة ارتفاعا في ظاهرة قتل النساء والفتيات على خلفية النوع الاجتماعي، وصولا إلي عام 2021 حتي يومنا هذا ولعلنا لاننسي أنه في مطلع عام 2023 كانت هناك جريمة قتل لامرأة في مصر حين قام حمادة العجوز من قرية نبروه بالمنصورة، سائق،نشر علي صفحته في الفيس بوك فيديو مدته 23 ثانية ظهر فيه جالسا بجانب جثة زوجته التي ذبحها وفصل رأسها عن باقي الجسد، مخاطبا بكل هدوء المسئولين داخل المؤسسات الأمنية والإعلامية لمعرفة الدوافع الشخصية وراء ارتكابه لهذه الجريمة.هذا غير الجرائم الأخيرة على مدارالأعوام الأخيرة حيث التشهير بالضحية لخلق حالة تعاطف مجتمعي معه، فضلا عن النساء والرجال الذين قُتلوا على يد شركائهم، تُظهر الأدلة أيضًا أن النساء اللواتي يقتلن أزواجهن وغالبًا ما يتصرفن دفاعًا عن النفس بعد العنف والترهيب المستمر.

((يوسف السباعي بين رومانسيات الإبداع وسُلُطات الثقافة))

دكتور: نجيب أيوب استاذ الادب العربي 

يُعد الأديب المصري يوسف السباعي أنموذجًا تحققت فيه حالةُ الازدواج والتأثير المتبادل بين موتيفات الإبداع الأدبي ودلالات الاندماج السياسي، لتُظهر لنا هذه الحالة نتاجًا أدبيًا من طرازٍ خاص، تجلَّى هذا واضحا في أعماله الروائية ليلمسها القارئ بين سطور كتاباته والمُتلقي العادي لدراما رواياته بعد تحويلها إلى سيناريوهات مسموعة أو مرئية دراميًا؛ حيث امتزجت تجلياتُ حُلمه الرومانسي وإشراقاتُه الموحية، مع قناعاته السياسية وانتماءاته الحزبية في هذه الأعمال، لتخرج لنا في بؤر مضيئةٍ، تترجم لحظاتِ تنويرٍ يستشعرها من يتلمس أعمال السباعي السردية الحالمة وحواراته وملاحمه الساخنة، سواء في أعماله القصصية أو مقالاته الصحافية، في مباريات ومسجالات تَخَفَّت خلالها قناعاتُه الأيدلوجية خلف جماليات أعماله الإبداعية، يُدركها أيضًا الناقدُ البصير والباحث المتريِّث بين سطوره وفي ثنايا كلماته، بأنساق مضمرةٍ تحوي توجُّهاته الأيديولوجة، في رداء بلاغي يُضفي جمالا أخَّاذًا لكل من تلقى أعماله أو كتاباته.

دكتور نجيب أيوب
دكتور نجيب أيوب

لقد كان يوسف السباعي انعكاسًا فنيًا للرومانسية العربية في هذه المرحلة التاريخية المهمة، من أطوار الانتقال الآلي للرومانسية الغربية في مجال السرديات الحديثة والوافدة من جهة الغرب والغربيين إلى البيئة العربية،
بينما تترجم هذه الأعمال توجهًا عامًا شملُ العقل المصري الجمعي في هذه الفترة الفاصلة من تاريخ مصر الوطني، منذ ولادته عام ١٩١٧ م الذي سبق انتهاء الحرب العالمية الألى بعام واحد، حيث وضعت هذه الحربُ أوزارها عام ١٩١٨ م، وما تلى ذلك من ثورة مصر الشعبية عام ١٩١٩ م، وما تلا هذه الثورة من أحداث كانت منعطفاتٍ مهمةً في مسيرة حياة مصر، من وضع (دستور ٢٣ المشهود) وما شاع في حياة المصريين منن شغف بالليبرالية سياسية على المستوى الحزبي والثقافي العام لمصر وللمصريين من قلق عام اختلط فيه حُلم التطور مع حُلم الاستقلال، إبان معاهدة ١٩٣٦ م، ومرورًا بحركة من صغار ضباط الجيش المصري في يوليو ١٩٥٢ م وكان واحدا منهم وحركة التغيير المتسارعة والمُزاحَمة بعدوان ١٩٥٦ م، وانهيار المشروع النهضوي العربي في الخامس من يونيو ١٩٦٧ م ووفات عبدالناصر المُباغتة في ١٩٧٠ م، وحرب أكتوبر ١٩٧٣ م، ومسيرة السلام ١٩٧٧ م، وإلى وفاته مغتالا عام ١٩٧٨ م في قبرص. لقد شهدت حياة يوسف السباعي حالةً من القلق والتوتر المرتبك والمتقلب، التي سادت حياة مصر منذ قدوم المحتل البغيض والمشئوم منذ عام ١٩٨٢ م، وإلى اليوم.

يوسف السباعي
يوسف السباعي

وُليد يوسف محمد السباعي عام ١٩١٧ م لوالده الأديب الذي ترك إرثا أدبيا ليس بالهين وكان أشهره ترجمة محمد السباعي، لرباعيات الخيام من الإنجليزية إلى العربية، كذا نقله لأعمال الأديب الإنجليزي ويليام شكيسبير إلى الساحة العربية، وكان عمُه طه السباعي الذي ترجم أعمال الأديب العالمي جون ستيوارت ميل وجمعها في كتاب عنونه ب(عن الحرية)، هذه هي بيئته الأسرية، التي كانت مهدا أدبيا موائما لما صار له هذا الأديب من براعة وتميُّز، هذا من حيث الواقع الأسري (أسرة السباعي). أما من حيث البيئة المصرية العامة، فقد تَغَشَّت مصر حالة حالمة بالتطور والنمو العام على المستوى الثقافي والحضاري الشامل، بعد انتفاضة الشعب المصري عام ١٩١٩ م كان رمزها المناضل سعد زغلول وما تلاها من دستور ١٩٢٣ م ليبرالي التوجه، لتتحقق هويتهم الأصيلة بالبحث عن جواهرهم الموروثة، مع التطلع الدؤوب نحو التحديث على كافة المستويات، عِوضا لما أصابهم من تواري دورهم الحضاري، منذ أن جاء الاستعمار الإنجليزي عام ١٨٨٢ م. كان يوسف السباعى صدىً حقيقيًا لواقعه الأسري والوطني، حيث يُلمس في أعماله العمق الرومانسي الوافد مع رياح الغرب المبهرة، مع أخذه لهموم بلاده وقضاياها على عاتقه، إذ ألف عدداً من المجموعات القصصية تعكس هذه الروح النابضة بين سطورها، وأصدر عشرات الروايات التي كان آخرها “العمر لحظة” في عام 1973م.
فهو الابن المتحمس للجيش المصري الذي خرج وأخذ معه مصر في 1952م ليُسمع نفسه أولا ومن حوله هذه القاعدة المنطقية الحتمية: “أنا أثور على واقع بلادي المظلم؛ إذن أنا موجود..” ولم تكن ثورة السباعي عسكرية قتالية فحسب، بل كانت كتاباتُه القصصيةُ والروائية انعكاساً –إلى حد كبير– لانتفاضة في حقل الإبداع الأدبي وإثراء الساحة الفكرية المصرية؛ وهو ما يقودنا إلى الإشارة إلى عدد من أعماله القصصية والروائية المُعَبِّرة بقوةٍ عن عاطفته وعن توجُّهاته الوطنية في: (نائب عزرائيل) : 1947م، (أرض النفاق) : مجموعة قصصية 1949م، (رُدَّ قلبي) : رواية من جزأين 1954م، (ليل له آخر): 1963م، (نحن لا نزرع الشوك) : 1969م، و(العمر لحظة): 1973م. ولو تناولنا على سبيل المثال روايته (رُدَّ قلبي) بالتأمل الفاحص، سنُلاحظ الآتي:
إن من الجاذب للانتباه في تاريخ إصدار هذه الرواية ١٩٥٤ م، أي في أعقاب حركة يوليو ١٩٥٢ م، وبعد تأكد نجاحها وثقة الضباط في اطمئنان الأوساط الشعبية لهم وثقتها فيهم، واعتزامهم استكمال المسيرة من موقعهم المُهيمن على السُلطة دون غيرهم، فكان لطبيعة الزمن الذي خرجت فيه دلالة روائية فنية، تعكس بعدا سياسيًا يمالئ شريحة فئوية معينة، في نسق جمالي ظاهر يتوارى خلفَه نسقْ ثقافيْ مضمر. يتمثل ذلك في التلميح المقصود لفئة محددة، وهي طبقة الضباط ومن حالفهم من جُمُوع الشعب المواكب لحركتهم، على المستويات كافة: (الشعبوي الجماهيري، والإعلامي والتثقيفي، والتربوي التعليمي)، لقد كانت حركة الضباط الأحرار التي لاقت مساندةً شعبيةً في تلك الفترة، لكونها غضة طرية تتسم بخصوبة الأفكار وصدق المشاعر وتَوَقُّد الحماس الوطني الذي اصطبغ به الجو المصري العام، فتَجَمَّع حولها، وهو ما منحها أسباب الحياة والديمومة المستمرة في بالداخل المصري وخارجه، وهذا ما يدعونا ويُشجعنا على فحص هذا هذا العمل: _ إن أول ما يُلفت النظر نحو هذه الرواية، لهو زمن خروجها للنور ونشرها في ذلك التاريخ الفارق في حياة المصريين، بمضمونها الذي لخَّص الواقع الاجتماعي المصري بتلميحات فنية أُسقطت عليه، في توظيف دقيق، يحمل في طياته إرادة تغيير وحلم خروج من كابوس التمييز وتهميش الأغلبية، مع هيمنة فئة (النصف في المئة) على مقدرات الواقع المجتمعي في مصر وما حولها من دول المنطقة ومجتمعاتها. وهذا يتماشى ومنطق التغيير المواكب لثورة يوليو على الاستبداد والفساد السائد بين الحاكم والمستعمر، وشلل المنتفعين من حولهم من جماعات الوصولية المنتهزة للفرص كافة. وكانت الشخصيتان المحوريتان (أبطال الرواية) خير تمثيل لهذا الواقع الاجتماعي المعلول، (علي / إنجي) بداية من رموزية تسميتهما، وانتهاءً بمصير علاقتهما وما لابسها من أحداث معقدة شاقة، مرورا بتفاصيل المجتمع الطبقي وقيمه التهميشية في اتجاه، والتمييزية في اتجاه مضاد، دون ما أدنى معايير موضوعية عادلة. فنجد شخصية علي المحورية (البطل) قد جاءت لتمثل الطبقة الكادحة من المصريين وأبنائهم، الذين كُتب عليهم الكد والجهد مع الفقر والعَوَز والتهميش، رغم قدراتهم وتميزهم، وتقديم غيرهم في الواجهة، ودون جريرة اجترحوها؛ ليعكس غُبنا مضمرا وحقدا طبقيا دفينا، تجلى في حديث (على) الداخلي/ الخارجي، الخفي / المُعلن، في أداء فني جسَّد هذه المشكلة الطبقية، بالتلميح المُضمِر، وبالمباشرة الفجة، بداية من تسمية البطلين: (علي) وهو اسم ذو دلالة روحية بين العرب والمسلمين في معناه وتاريخه، معناه الذي يدل على العلُو والقيمة والترفُع، وتاريخه المرتبط بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وما يحوي من حُمولات عاطفية وشحنات روحية جاءت عبر تاريخ المنطقة الموثق، ليرمز به عن سواد المصريين المتمثل في الطبقة الكادحة المُهملة. أما اسم (إنجي): وما يحمل من دلالة أجنبية صوتا ومعنىً، حيث تمت إلى طبقة الأورستوقراطيين من الأتراك والأسرة المالكة من أبناء محمد علي باشا من الهوانم والأغوات والبكوات، وأتباع الاستعمار الغربي، ومع ما يسعه ذلك من حمولات ثقافية ونفسية لدى المصريين تجاه هذه الفئة المتسلطة عليهم .. لقد حبك راوي يوسف السباعي حبكة القصة ومشكلتها في ذروة العلاقة العاطفية بين (علي وإنجي) وكانت القمة في الحاجز الطبقي المهيمن على ثقافة المركز المتعالية على من هم دونهم من طبقات الشعب الأخرى. كان لهذه الفجوة الثقاقية الدور الرئيس في دينامية الحراك الدرامي للأحدلث والملابسات التي توجه بوصلة العمل الروائي ليُبلِّغ رسالةً مبتغاه من ورائه، تكون بمثابة منشورٍ سياسي لطبقة في مواجهة طبقة أخرى. لقد وظَّف يوسف إلسباعي رومانسيته في نسق جمالي ماتع ومخاتل على نغمات العاطفة الجياشة بين شاب يعاني أفعوان العاطفة، وفتات اشتعلت فيها مشاعر الأنوثة الفياضة في أشواقها لدفء الزوجية الحالمة والأمومة الحانية مع من تُحب وتعشق، في تصعيد درامي بلغ قمته في شكل عقدة صنعتها الطبقية المجحفة، ليضمر بحرفية الفنان رسالته الحزبية السياسية والاجتماعية في نسق ثقافي مضمر خلف هذا النسق الجمالي الحاذق. كان هذا التلميح الفني بمثابة تصريح بدعوة سياسية اجتماعية للعدالة الاجتماعية والسياسية بين (علي وإنجي) لتنتقل بين اسرتيهما، فإلى جموع المصريين، ثم إلى النطاق الإنساني كافة، ليصبح الناس سواسيةً كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، حيث وُلِدوا كلهم لأب واحد، وهو آدم وآدم من تراب، وكأنه يُصرح بآية سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى….. } الآية:13، لكن في نسق مضمر من وراء أنساق جمالية تصنعها عبقرية النص والنَّاصّ معًا. فالرواية في جملتها ومنذ عنوانها لهي صرخة حلم مصري طالما نازع المصريون به وجاهدوا من أجله بعقليتهم الجمعية، شعوريا ولاشعوريا بوعي وبلا وعي؛ حيث حاجتهم الفطرية للمساواة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية والكرامة الإنسانية، لقد كان يوسف السباعي موفقًا حينما وضع العنوان (رُدَّ قلبي) بزمنه الماضوي الذي يفيد رجوع القلب_ وما أدراك ما القلب؟! بالنسبة لحياة الإنسان،_ ليفيد بأن قلب المصريين قد رُدَّ لهم بعد الثورة، في إشارة سياسية تاريخية، وظَّف فيها القاصُّ زمنية الفعل الماضي، وبناه للمجهول، ليثبت يقينية أكيدة، حيث يفيد هذا البناء، لتأكد وقوع حدث استعادة هذا القلب المسلوب، على يد أبنائها الظاهرين ظهور الشمس في رابعة النهار، ولا يعني مجهولية الفاعل في هذا البناء بالتحديد، على غرار قوله تعالى عن يوم القيامة: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ…. (13)”. كل هذه الأفعال الماضية المبنية للمجهول: (كُوِّرت.. عُطِّلت.. سُيِّرت.. حُشِرت………) إنما أُسندت يقينا لفاعل معلوم بالضرورة، وهو (الله) جل وعلا، والبناء هنا كان لمعلومٍ أكيد بالضرورة الواقعة دون شك أو لَبس، ويوسف السباعي هنا، يُشير إلى قلب المصريين الذي استُردَّ في يوليو ١٩٥٢ م، على غِرار إيزيس وأوزوريس وابنهما حورس منذ قُدامى المصريين، وعلى غرار عودة الروح لتوفيق الحكيم حديثًا ١٩٣٣م، والقاهرة الجديدة للروائي العالمي، نجيب محفوظ في عامه نفسه ١٩٥٤ م. هذه قراءة متعجلة لتلك الرواية، دون خوض في تفاصيل مضمراتها الثقافية المتوارية خلف جمالياتها الفنية، والذي يؤكد بقوة ما ذكرناه من خضوع الراوي لنير السياسة وفعل ثقافة الثائر الذي لا يهدأ له بال حتى يُحقق أهدافه. لقد نازعت السياسة الإبداع عند صاحبنا لتجعل من أعماله _ فيما يتجلى من عناوينها: (أرض النفاق… نحن لا نزرع الشوك… رُدَّ قلبي… الرصاصة لا تزال في جيبي…..) _ منشورات سياسية بامتياز، تقترب مضمراتها إلى أن تكون أنساقا سياسية متجليةً بكل وضوح وصراحة، رغم براعة السباعي الروائية وحبكته الفنية التى تعودها القارئ في أنساق روايات السباعي الجمالية، فما بالنا لو تابعنا مقالاته الصحافية؟؟! إننا أمام حالة مصرية بامتياز تدثرت بالأدب وفنيات أنساقه الجمالية الحالمة، لكن ما فتئت السياسة تغالبها بأنساقها الثقافية الطاغية، لتفضح تَوَجُّهات الكاتب رغم جماليات قلمه المرهفة وتشكيلاته المُلهمة للمتلقين.. إننا بصدد حالة إبداعية تستدعي التأمل المتأني. لقد خرجت أعمال يوسف السباعي الروائية جُلُّها في صورة وثائق حزبية تعكس توجها اجتماعيًا ذا أبعاد سياسية، لقد هيمنت الثقافة بسلطاتها المستبدة، على حس السباعي الفني، فتَجلَّت صارخةً في إبداعاته، مما جعله يتعرض له الساسة، فهو في عين المعارضين من يساريين وناصريين واشتراكيين، أو إسلاميين أو القوميين…… ٍ، أو غيرهم ممن عارض سياسات القادة العسكريين وانفرادهم بالسلطة، متهمين الرئيس السادات ومن حوله، ممن واكب مسيرة السلام والتطبيع مع الكيان الصهيوني المُغتصِب للأرض العربية الأسيرة بالرِدَّة السياسية عن مبادئ ٢٣ يوليو ١٩٥٢ م، ومسيرة الوعي التي أسس لها جمال عبدالناصر، متأثرين بالخطابية العاطفية الموروثة منذ الثورة في أداء عبدالناصر القومي العروبي، المُتسم بالخطابية التأثيرية وبلاغة الحماسة والتجييش. لقد وقع يوسف السباعي وإبداعه، بين وحي الرومانسية الحالمة ومقصلة السياسة حتى بات ضحيةً لأتون المعركة الضاري، فقُتل غيلة في قبرص عام ١٩٧٨ م، ليغلق ملف أديب لا يقل جدارةً عن غيره ممن منحوا الأدب مجردا فمنحهم صيتًا، ومكانةً يتناسبان مع ما قدم للساحة الأدبية. *****

الهوامش
1. انظر عبدالله الغذامي النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية. المركز الثقافي العربي. ٢ . يوسف عليمات، جماليات التحليل الثقافي، نشر وزارة الثقافة، عَمَّان الأردن، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ٣. حفيظة الخالدة، الرواية وسلطة النسق الثقافي، قراءة في رواية (اكتشاف الشهوة) لفضيلة فاروق.
٤. انظر: رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة: د. محمد مندور، عدد فبراير، 1987م، سلسلة عالم المعرفة، الكويت.
٥. انظر: عماد الدين عيسى، يوسف السباعي: فلسفة حياة وقلم، الطبعة الأولى، 1987م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
* صفحة لـ يوسف السباعي على الفيسبوك  https://www.facebook.com/youssef.elsebaai

الكاتب المصري يوسف السباعي : عراب سينما الثورة المصرية

بقلم الناقد والمترجم عبدالله الحيمر

إنّ السّينما جزء لا يتجزّأ من الذّاكرة المصرية ، ذاكرة عبرت في الزمان والمكان المصري ، عبر الصورة ، تأريخ لتاريخ ثورة غيرت مجرى التاريخ العربي المعاصر. وكانت السينما بالنسبة للكاتب يوسف السباعي إحدى الوسائل المهمّة في إظهار ملحمة ثورة مصر الخالدة ، ونقل كذلك الرؤية الانسانية لهذه الثورة للرّأي العام العربي و العالمي. والكشف عن اهدافها في اعادة الكرامة للإنسان المصري ومحاربة التخلف الاقتصادي والمعرفي ،واعادته لدوره القيادي باعتبار مصر قلب الوطن العربي. ومن هنا كان الوعي المبكر للكاتب السباعي بأهمّية ودورها في أيّ مشروع ثقافي حضاري. فلابد من إدماج هذه المعرفة السينمائية، وقد ارتبط دوره السينما ككاتب وسيناريست بفترة النهضة الثقافية في مصر في الستينات من القرن العشرين، وكانت اعماله الاعلى توزيعا. التي تراكمت عبر إنتاج أفلامه من رواياته:: “رد قلبي”، “أقوى من الزمن”، “العمر لحظة”، “ليل له آخر”، “جفت روحي”. وكانت رائدة بتقديم الادب المصري على شاشتها، خاصة تلك النوعية التي تساند الثورة. وظهرت روايته تباعا في أفلام هي من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية والعربية.
فيلم “رد قلبي “

بقلم الناقد والمترجم عبدالله الحيمر
بقلم الناقد والمترجم عبدالله الحيمر

في نظري تبقى الدراما التاريخية ايقونة إبداع الكاتب يوسف السباعي لاختراقها لثنائية الحب والثورة في الجسد المصري المعاصر، ويبقى فيلم “رد قلبي ” عراب ملحمة الثورة في مخاضها وصراعها الأبدي مع النظام السابق وحلمها بمجتمع مصري ديمقراطي حداثي .لفد شكل هذا الفيلم وعي المصريين وايمانهم لأهداف ومرامي ثورة الضباط الأحرار. حيث غرس الفيلم بذور الأمل في الجيش المصري العربي بعد ان القى الضوء على حرب 48 وقضية الأسلحة الفاسدة ، وكذلك كدور ضباط الجيش الأحرار في الحياة المصرية قبل قيام ثورة يوليو ، فقد عبر عن حال المصريين وكيف قامت الثورة والأسباب المباشرة لقيامها واستقبال المصريين لها. حيث عرض مشاهد لحرب 1948 وكذلك مشاهد بداية الثورة وخروج الجيش إلى الشارع. ومن المشاهد القوية في الفيلم مشهد رجوع «علي» من الكلية الحربية واستقبال أبيه وأمه له بفرح كبير ورفضهم احتضانه كيلا يعبثوا بمظهره في البدلة العسكرية، ويحكي شكري سرحان إن هذا المشهد كان صعبًا عليه وإنه بكى فيه من صعوبة الموقف و فاز الفيلم بجائزة وزارة الثقافة والإرشاد القومي عن أحسن قصة وعلى جائزة أحسن حوار.
وبذلك اصبحت سينما يوسف السباعي نوع من الذخيرة الارشيفية للأحداث الكبرى للثورة ، حيث عمل سينمائيا على رصد كيف تم التخطيط لها ونتائجها الإيجابية ، سواء على مستوى النظم السياسية والاجتماعية والمعرفية فى أذهان وقلوب المصريين على مر الأجيال. ومن المواقف المهمة التي تسجل للزعيم التاريخي جمال عبد الناصر ودعمه للسينما الملتزمة بقضايا الأمة ، ذهابه لدار سينما ستوديو مصر بعماد الدين وشاهد الفيلم جالساً في الصالة بين الجماهير التي لم تنتبه لحضوره. ولقد صنف فيلم ” رد قلبي ” بأنه أحد أهم أفلام السينما المصرية، وقد تم اختياره في المركز الثالث عشر ضمن أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية في استفتاء النقاد..
ومن منا سواء كان مصري أو عربي المشهد الاخير من فيلم “ردي قلبي ” الذي يسمع فيه الريس عبد الواحد الهتافات ويشاهد جموع الجماهير من شرفة منزله وقد خرجت تهتف لمصر وللجيش تأييداً للثورة ويهتف ابنائه فيحاول أن يهتف معهما وينجح في الهتاف تحيا مصر ويعود إليه صوته ويشفى من الشلل الذي أصابه .
فيلم “صلاح الدين”
بقول الكاتب الروائي الجزائري واسيني الأعرج: ” من الذي جعلنا نحب صلاح الدين الأيوبي غير السينما، منحتهم حياة جديدة “. بالفعل، تبقى السينما وسيلتنا لنكون أكثر إنسانيّة، في خطاباتنا الهوياتية أو الدينية أو السّياسية بشكل أفضل. لقد مكن الفن السّابع الإنسان في العالم، لأول مرة من العثور على أسلوب في تسجيل الزمن والقبض عليه، وتشكيله وعرض تدفقاته مرات عديدة أمام الأجيال، باعتبار لغة الصورة عن طريق السينما يلتقي فيها المشاهد العادي والمهني والمثقف، لأنها ببساطة لغة الوجدان الإنساني، هوية متحركة في الزمن السردي المصحوب بالفنون المكانية والزمانية، كونية الطابع، تخترق اختلافاتنا الفكرية والحضارية، سريعة الانتشار وتتجاوز كل الحدود للتعبير عن قضايا محلية أو عالمية بإبداع إنساني متميز.
يقول الناقد السينمائي إبراهيم العويس في كتابه: “من الصعب، طبعاً، إدراك كل الأسباب، التي تشد المتفرج إلى صالة السينما لمشاهدة فيلم تاريخي. فهناك من الدوافع هنا ما قد يوازي عدداً، عدد أفراد الجمهور المتفرج. ولكن بشكل عام يمكن اختصار بعض الدوافع الرئيسة في ثلاثة: الفضول، الرغبة في الهرب من الحاضر، واستخلاص دروس التاريخ التي يمكن أن يحملها الفيلم في طياته”. مضيفا:” تتشكّل السينما التاريخية من مجموعة الشرائط التي تعيد إلى الشاشة الكبيرة أحداثاً وقعت في الماضي، القريب أو البعيد، سواء استخدمت في ذلك مجموعات من الشرائط الوثائقية التي سجلت الحدث بالفعل، في القرن العشرين وحده طالما أن السينما لم تكن اخترعت قبل ذلك، أو بنت ديكورات وأتت بممثلين أوقفتهم أمام الكاميرا ليلعبوا أدوار شخصيات تاريخية.” باعتبار السينما التاريخية وعاء التواجد على الشاشة الكبيرة للتاريخ البشري، فاستلهام التاريخ العربي المشرف بالسينما العربية، لا يعني إعادة سرده او تبسيطه، وإنما تمثل جوهره ودلالاته التاريخية واسقاطاته المعاصرة، وتشكيل مادة سينمائية جديدة بإسقاط معاصر. فلقد كان المحاولة الأولى للسينما العربية والتاريخ، بمصر، عندما كانت مؤسسة السينما المصرية القطاع العام لإحياء أمجاد التاريخ العربي. باعتبار السينما التاريخية وعاء التواجد على الشاشة الكبيرة للتاريخ البشري.

بوستر الناصر صلاح الدين
بوستر الناصر صلاح الدين

فلقد كان المحاولة الأولى للسينما العربية والتاريخ، بمصر، في الفترة الزمنية ما بين سنة 1960 وسنة 1965. أنتج الفيلم العربي التاريخي الكبير” وإسلاماه ” عن انتصار العرب والمسلمون في معركة عين جالوت، من بطولة أحمد مظهر ولبنى عبد العزيز ورشدي اباظة وحسين رياض وتحية كاريوكا وعماد حمدي ومحمود المليجي. وبعد انتصار العرب في عين جالوت سنة 1260 ظهرت دولة المماليك، وتفشى طغيانهم وعميت أبصارهم فكان للسينما العربية، موقفا من الأحداث التاريخية لدولة المماليك في فيلم باسم ” المماليك “، من بطولة عمر الشريف وحسين رياض ونبيلة عبيد من إنتاج المؤسسة العامة للسينما المصرية القطاع العام ايضا. وبخلاف هذه المجموعة من الأفلام التاريخية، كان الإنتاج الضخم لفيلم ” الناصر صلاح الدين ” سنة 1963،. جاء فيلم “الناصر صلاح الدين ” في سياق تاريخي آخر، تصاعد مشاعر القومية العربية في القرن العشرين. ولا سيما تطور الصراع العربي الإسرائيلي، كانت رمزية وقيادته صلاح الدين الأيوبي في الوعي العربي، كقائد عربي حرر القدس من الصليبيين ووحد كلمته و وحدته. بالإضافة كان ينظر إليه في إطار بداية الوحدة العربية بين سوريا ومصر، كرمز الرئيس جمال عبد الناصر. فيلم “الناصر صلاح الدين” واحد من أهم أعمال شاهين، بل إنه واحد من كلاسيكيات السينما المصرية، يحكى المخرج يوسف شاهين عن كواليس هذا الفيلم، من خلال مقطع نادر له، من حوار للتليفزيون المصري، يعود للثمانينات تمت إعادة إذاعته خلال الأيام الماضية على قناة ماسبيرو زمان. يقول شاهين عن الفيلم:” إنه استغرق سنوات طويلة في تحضيره، وشارك في كتابته 3 من أعظم الكتاب في مصر والوطن العربي وقتها في السيناريو وهم، عبد الرحمن الشرقاوي، ونجيب محفوظ، ويوسف السباعي”. وهكذا تحول الكاتب الكبير يوسف السباعي من كاتب الى سيناريست ليساهم بدوره بشكل واضح في أفلام تتناول حقبًا تاريخية في احداثها، ومنها على سبيل المثال فيلم “جميلة الجزائرية ” ليوسف شاهين 1958. الذي فاز بجائزة وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1976 عن أحسن قصة لفيلمي “رد قلبي ” و”جميلة الجزائرية”.
يبقى للتاريخ الحكم على الأعمال السينمائية ليوسف السباعي، بعد ان فرض عليها نقد سينمائي و إعلامي من بعض الأقلام بعض التساقط الزمني ، بعد صعود أعمال نجيب محفوظ السينمائية. الا انه يبقى في نظري عراب موجة سينمائية شكلت ابجدية الوعي السينمائي المصري و العربي ،في منتصف الخمسينات والستينات ،وكانت إرهاصا للسينما العربية القادمة كالواقعية والرمزية.

 

قراءة في قصة الكاتب الكبير يوسف السباعي  ” ملهمة العمر”

إنعام القرشي – الأردن
” إن أحببت شخصين في نفس الوقت قم باختيار الثاني لأنك إن كنت حقا تحب الأول لما وقعت في حب الثاني”
هذه مقولة احد الفنانين المشاهير “جوني ديب”، جاءت كنتيجة مثلث الحب من وجهة نظره الخاصة،
أما بطل قصة “ملهمة العمر” فيقول: ” إن حياتي كلها وهم، فلِم لا اجعلها وهماً جميلاً؟”
دعونا نبدأ من نقطة التقاء الصديق بصديقه الآخر ليتمشيا على شاطىء البحر، هناك عرّفه على صاحبته التي تمدد جسدها في استقامة باهرة، وتهدل شعرها كشلال على كتفيها وتناثر فوق التراب…… واحباها بعد ذلك سوياً كلاً بطريقته.
تأخذنا هذه الواقعة الى نظرية مثلث الحب التي تتضمن فيها العلاقة العاطفية عادة ثلاثة أشخاص،” فالمحب الأول” في قصة السباعي كانت طريقة حبه لصديقته تختلف تماماً عن طريقة الآخر:

إنعام القرشي – الأردن
إنعام القرشي – الأردن

“هذه كانت طريقتي في حبها! وتلك كانت طريقته! كنت واهما وكان جاداً، كنت اتطلع اليها وكان يريدها، ولم يستطع حبنا المشترك ان يوقع بيننا”
كان يحبها باندفاع ورغبة ولهفة، ويتوق الى وصلها وتقبيلها، اما الآخر فقد كان يكفيه ان تكون الحبيبة موجوده في اي مكان من حوله او يشعر انها قريبة ، او حتى إن غابت عن بصره فإنه لا يشعر بالضيق بتاتاً لأنها تحتل مكانة في ذهنه، لا يمكن أن يؤثر عليها شيء, ويبقى حالماً سعيداً بها، :
أما أنا “الآخر” فما كنت اريد شيئاً من هذا كله! اراه كثيراً علىّ اكثر مما احتاج، كنت في حبي لها اشبه بالفقير الزاهد المتعّبد، الذي لا يرى من ربه سوى الستر”
ويستمر السباعي يتحفنا ويحملنا بأسلوبه البسيط الخالي من التعقيد، وبكلماته الجميلة الرقيقة الى التحليق خارج واقعنا الذي نعيشه ويعطي للحياة بهجة في حضرة هذا العشق في قصة قد يكون موضوعها ليس من المواضيع المألوفة كثيراً.
تدور الأيام وكل منهما يستمتع بما اصابه من هذا الحب وتمناه الى ان يشعر الآخر وجوما من صاحبه، وعلى وجهه مساحات الهم ولم يعد مرحاً، بل صامتاً معظم الوقت، وبعد محاولات كثيرة يعترف للآخر أن صديقته لم تعد كما كانت وان هنالك فتوراً من ناحيتها اتجاهه ولم تعد تخرج وحيدة معه، وقد حاول مرات عدة أن يتواصل معها ولكنها كانت تتعذر بأسباب غير مقنعة،
طمأن صديقه وحاول أن يسري عنه ويمازحه وطلب منه أن لا يحزن ، وان الحب مد وجزر وفيه الكثير من الزعل والصلح وان الأيام ستتبدل الى فرج قريب.
يسافر صديقه الى القاهرة فجأة لظروف عمله، ويفرح له فلعل هذا البعد يقرّب كل منهما اكثر ويعيد لهما الأيام الجميلة ، ولكنه تسلم رسالة بعد يومين من سفره فقط وبداخلها رسالة اخرى يطلب منه ان يسلمها الى صديقته….! ويضحك، من هذا الطلب الغريب بالنسبة له:
“وضحكت. فقد كان كثيراً علي، أن اعمل حامل رسائل العشاق ورسولاً بين المحبين”
وبدأ في صراع مع نفسه، يفكر، فقد كانت المشكلة عسيرة كونه انساناً خجولاً، وبعد تفكير قرر ان ينهي هذه المهمة الصعبة لأن صاحبها قلق ينتظر، ولم يسلم الرساله في اليوم الأول لأنها لم تحضر، وفي اليوم التالي كانت موجودة ولكنها مع شلة من الصديقات:
“وفي اليوم التالي حضرت، ولكني وجدتها كما قال لي صاحبي في رسالته “محشورة” داخل الكابينة وسط ثلة من النساء والصبية”
حاول أن يبتدع الكثير من الحركات وهو يدور حول الكابينة وهي تلتفت باندهاش اليه حتى اضطر الى رفع الرسالة في الهواء حتى تراها، وفعلاً خرجت من الكابينة ومد اليها بالرسالة التي فتحتها على عجل واخذت تقرأ ما بها وهو يراقب حركات وجهها وانعكاس المشاعر عليها والتي كانت تبدو فرحة مسرورة حتى انتهت منها، ثم نظرت اليه وقالت له انها ايضاً تحبه كما يحبها، وتفاجأ! وادرك ان الموضوع التبس عليها فاخبرها انه ليس صاحب الرساله بل انها من صديقه، وإن اسم صديقه الأول هو نفس اسمه، فما كان منها الا أن ضغطت اصابعها على الرسالة تمزقها وهي تقول له:
“قل لصاحبك، ان ما بيننا لم يكن سوى افتنان عابر انصحه بأن ينسى كل ما كان بيننا”
يحاول أن يسكت ذلك البكاء الذي سيفر من عينيه، وقبل أن تنصرف استطاع أن يهمس لها:
– “اني حقا لست صاحب الرسالة، ولكن كل ما جاء بها صحيح بالنسبة الي الا الزواج بك لأنني لا استطيع لأنه يحبك، اني احببتك ايضا كما لم احب انساناً بل احببتك اكثر مما يحب الإنسان الإنسان….”
وافترق عنها ولم يراها الا لماما، ولم يشعر بالندم يوماً بالتضحية، ولم يخسر صديقه ولم يخسر حبه، وإن حبها باق ولن يتكفل الزمن بأن يمحيه من قلبه، وكلما دارت به الأيام او اسودت كان يتذكرها ويستعين بها على الحزن ويستلهمها الوحي اذا ما نضب الوحي وعز الالهام.
اذن فقد اكتفى بطل قصتنا بأن يطلق العنان لمشاعره دون اية ضوابط، بل ولم يحاسب نفسه على ما يشعر به تجاه الحبيبة المشتركة طالما انه في الجانب الآمن وهو عدم ايذاء صديقه بالزواج منها، وقدرته على تفهمه إن كان يعلم او لا يعلم. فهو قد اعترف لها بأن كل ما جاء في الرسالة صحيح رغم انه لم يكتبها…! الا في موضوع الزواج فقد توقف بحزم واعلن بكل جرأة انه لا يستطيع ان يفعل هذا الأمر خوفاً على مشاعر صديقه، ويقبل بالتضحية حتى مع اعترافها بحبها له هو بالذات.
والسؤال هنا – هل نُحاسَب على مشاعرنا؟ هل اخطأ بطل قصة الكاتب يوسف السباعي ؟ هل بإمكانه أن يعود لحياته الماضية قبل ان يعشق بطلة القصة؟ بل السؤال الأكبر، هل يجوز لنا أن نمارس الديكتاتورية على الخيال والإحساس؟؟
لعلنا سنُبقى على ما نحن بحاجة اليه في قلوبنا سراً، وعلينا أن نتحمل احيانا نزق الآخرين او طيبتهم او احاسيسهم..
لن نخشى المحب مهما تمادى في حبه، فهو لن يقتحم القلوب الموصدة، وكل ما يريده هو أن يعيش في بيئة نظيفة ليكون لحياته طعماً آخر فيها.

• من المجموعة القصصية “مبكى العشاق”

قراءة نقدية في رواية ارض النفاق للكاتب الكبير يوسف السباعي

بقلم زكريا صبح
_____
عندما تكون فى حضرة مبدع كبير بحجم الكاتب الكبير يوسف السباعي المولود فى السابع عشر من يونيو لسنة الف وتسعمائة وسبعة عشر فى القاهرة والذى تخرج فى الكلية الحربية وسرعان ما عمل مدرسا بها ثم تنقل فى عدة مناصب مهمة مثل ادارته للمتحف الحربى فى عام الف وتسعمائة واثنين وخمسين كما انه ترأس تحرير مجلة اخر ساعة سنة الف وتسعمائة وخمسة وستين ثم رئيسا لدار الهلال عام الف وتسعمائة وواحد وسبعين ثم وزيرا للثقافة عام الف وتسعمائة وثلاثة وسبعين ثم عضوا بمجلس إدارة الأهرام سنة الف وتسعمائة وستة وسبعين ونقيبا للصحفيين عام الف وتسعمائة وسبعة وسبعين هذا فضلا عن إنتاجه الأدبى الغزير المتمثل فى اثنين وعشرون مجموعة قصصية وست عشرة رواية من بينهم الرواية التى بين أيدينا محل الدراسة والمقاربة النقدية

الناقد والكاتب زكريا صبح
الناقد والكاتب زكريا صبح

يقول لوسيان جوردان :أقصر تعريف للرواية انها البحث عن قيم أصيلة فى مجتمع متدهور
ربما كان هذا التعريف الجامع المانع للرواية يكون مدخلا مناسبا للدخول إلى ارض النفاق باعتبارها مجتمعا متدهورا وكيف لا يكون النفاق سببا فى تدهور المجتمعات حيث يلبس جميع أفراده اقنعة يختفون ورائها ويسلكون فيه على غير حقيقتهم وهنا لابد ان ننحنى احتراما للكاتب فى اختياره العنوان وكذا فى اختياره الداء و العلة الداء الذى يمثل راس الداءت والعلة التى تمثل اصل العلل .ولان الكاتب يفهم رسالة الأدب الأولى ويعرف رسالة الرواية الرئيسية باعتبارها تبحث عن قيم جديدة وأصيلة فى مجتمع متدهور فانه ذهب إلى الرواية باعتبارها القادرة على مناقشة أحوال المجتمع السلبية وتسليط الضوء على علله وكذلك محاولة ترسيخ القيم الأصيلة بدلا من تلك القيم السلبية التى من شأنها سقوط المجتمعات فى براثن التخلف و الانهيار الأخلاقي
فى سبعة عشر فصلا طرح الكاتب قضيته وراح يناقشها فى اسلوب ادبى بسيط بساطة المتمكن من ادواته وواضح وضوح المدرك أهدافه ، لم يشغله اختيار اسم بطله الذى جعله روايه المشارك ولم يعنه صفاته ولا رسمه ولا عمره وأيضا لم يهتم بوصف مكان الأحداث ولا مناخها وربما كان ذلك راجعا إلى اهتمامه بالفكرة ولذا فإننا لا نبعد عن الحقيقة إذا قلنا انها رواية الفكرة حيث يتضح منذ الوهلة الأولى أن الكاتب عبر صفحات الرواية التى تجاوزت مأتين وتسعين صفحة كان يحاول أن يبلور فكرته المتمثلة ببساطة فى عثور البطل على حانوت لبيع الأخلاق الإيجابية فقط مثل الشجاعة والمروءة والإخلاص وأن مفعول هذه الأخلاق يظهر على صاحبها فور تعاطيه المسحوق مذابا فى الماء وكان الحلم والخيال متمثلا فى هذا السؤال : ماذا لو شرب الناس جميعهم من هذه المياه المذاب فيها تلك الأخلاق، وعلى ذلك كان تركيز الكاتب منصبا على توضيح فكرته وبلورتها بحيث تكتمل الصورة المثالية التى يسعى الكاتب لتحقيقها وهى ان يرى مجتمعا خاليا من الآفات الأخلاقية من جبن وقلة مروءة وغياب الشهامة وانتشار النفاق راسما على الطرف الآخر صورة لبطله وقد تناول مساحيق الأخلاق واحدا تلو الآخر وراح الكاتب يرصد لنا فعل البطل ورد فعل المجتمع الذى استغرب حميد الأفعال ومحاسن الخصال لأنه تشبع من تقضيها واستمرأ الحياة بها بل وادمن تعاطيها وممارستها

بوستر ارض الخوف
بوستر ارض الخوف

فكرة راديكالية فى مجتمع ما قبل الثورة ، مجتمع استراح للنمطية و استعذب الركون للكسل والخلود إلى العبودية ،فكرة تبدو الآن فى زمننا هذا بسيطة ولكنها آنذاك كانت مبهرة ، فكرة سيطرت على الكاتب حتى أنه ضرب عرض الحائط بجماليات الفن الروائى متمثلا فى لغة مفارقة للغة اليومى والمعتاد والاكتفاء بلغة بسيطة أقرب ما تكون إلى لغة الجرائد السيارة ، اهتمام الكاتب بفكرته جعله غير مهتم برسم الشخوص أو عرض تاريخهم الاجتماعى أو النفسى ، لم يأبه الكاتب للصراع والدراما التى هى لب العمل الروائى والذى ظهر على استحياء فى بعض المواقف ، لم يكن مشغولا بتقنيات الرواية الراسخة المستقرة التى تعطى العمل زخما من التشويق والإثارة فلم نجده يلجأ إلى الفلاش باك أو الاقتباس أو المونولوج أو الأحلام أو الرسائل ، ظل يسير بنصه مثل مركب شراعى يسبح على صفحة النيل فى هدوء نراها امامنا ونعرف اين سترسو من غير ان تقول لنا السفينة وجهتها وكذلك سارت الرواية مع قارئها فلم تشأ أن تفجعه أو تكسر أفق توقعه ، لم يعنه اطلاقا سوى اكتمال فكرته التى تطرح سؤالا مهما ماذا لو وجد علاجا ناجعا للنفاق باعتباره أساسا ومحورا لأفات المجتمع
ربما كان منطلق الكاتب _وهو بعد لم يبلغ الثالثة والثلاثين من عمره _إصلاح المجتمع ومناقشة أوضاعه المزرية وأخلاقياته المتدنية لذا جعل من بطله أشبه ما يكون بصحفى غاص فى قاع المجتمع باحثا عن العلل الأولى لعلله رغبا فى تلمس سبيل النجاة والرفعة لذا نراه جعل من روايته مرآة وجعل الناس ينظرون فيها ليروا خبث طبائعهم التى دفعتهم فى نهاية الرواية لمطاردة البطل الذى اذاب كمية لا بأس بها فى نهر مدينتهم فلما شربوا منها ( مرضوا) بداء الأخلاق، اى انقلاب هذا الذى يعيشه المجتمع لكنه اى الكاتب ارجع ذلك للروتين والعادة التى ساروا عليهما فلم يعد فى مقدور المجتمع ان يتقبل نفسه بغير نفاق ولا رياء ولا جبن ولا موالسة ، كأنى بالكاتب يعيش بين ظهرانينا اليوم ، كأنه استبق عصره ورأى بعيني زرقاء اليمامة ما صرنا اليه ،
لقد استطاع بسرده البسيط السهل الممتنع ان يصل الى حقيقة مؤداها ان المجتمع انذاك يعيش وهما كبيرا وكل من يدعى الفضيلة ليس الا مدعيا كاذبا وانهم متى اتيحت لهم فرص الخيانة والنفاق والموالسة والكذب لن يتوانوا عن ممارستها وان الذى يمنعهم ليس سوى الخوف فقط ، فان الجار لا يغازل حليلة جاره لانه فاضل ويخشى الله وإنما لأنه يخاف الفضيحة ويخاف زوجته ، ربما اتفقنا مع الكاتب أو اختلفنا معه فى اعتبار تحليله منطقيا أو سليما أو يستند إلى ما يؤيده بقوة غير اننا نرى فيما وصل إليه مبالغة كبيرة اصطنعها من أجل حبك روايته والوصول بالقارئ ان يعمل عقله وفكره فى أخلاقه، هل الإنسان خلوق من أجل الأخلاق ذاتها أم أنه خلوق من أجل منفعته الشخصية وهذا ما يعرف فى الفلسفة بأخلاق الواجب وأخلاق المنفعة
لأن الرواية تنتج نهج الأدب الملتزم فان الكاتب لم يجد حرجا ان يكون مباشرا مباشرة نحت بالرواية نحو الوعظ والإرشاد تارة ونحو الخطابة الزراعية تارة أخرى انظر مثلا صفحة ١١٥ حتى يطمئن قلبك لما اقول وانظر صفحة ١٦٠ حتى تتاكد من ذلك
ربما وجدنا صعوبة فى الفصل بين الراوى والكاتب أثناء القراءة إذ اللغة تسير بمستوى واحد ولا تتغير بتغير الابطال حتى أنك لتشعر أحيانا باستحالة ان تنطق بعض الشخصيات لغة فصيحة انظر مثلا لام الفتى الذى لا يجد ما يلبسه فى ذهابه إلى الجامعة ، أم بسيطة تقول للبطل أو الراوى ( ولقد ضربنا صفحا عن عودته إلى الجامعة ) ص ١٦٦
وهناك أمثلة كثيرة على ذلك غير اننا نرجع ذلك للبس ما حدث من اختلاط الراوى بالكاتب الذى أخذ على عاتقه نقل الحكاية والحديث بلسان كل الابطال
وكأن الكاتب كان يربأ بنفسه عن استخدام اللهجة العامية الا فيما ندر فقد سار السرد هادئا بسيطا بلغة فصيحة بسيطة وابتعد عن اللهجة العامية الا نادرا عندما كان يتعلق الأمر والأمثلة الشعبية أو المقولات الدارجة مثل قوله ( أخده على قد عقله ) فى صفحة ٩٠
منذ اللحظة الأولى وبلا تمهيد انتقل بنا الكاتب إلى مسرح الأحداث وهو حانوت الرجل الطيب الذى يبيع ما يشبه التوابل أو المساحيق لكنها خاصة بالأخلاق وفى غمرة اهتمامه بالفكرة ربما تغافل عن عمد أو بغير عمد عن وصف الأماكن أو رصد المناخ المحيط أو وصف الشخصيات وصفا طبيعيا ،حتى الزمن لم يكن فى بؤرة اهتمامه من ليل أو نهار وإنما كنا نستبدل عليه بمشقة بالغة وربما لم نستدل عليه مما يؤكد اننا أمام رواية الفكرة من اللحظة الأولى حتى لحظة الانتهاء ،حتى الزمن الإجمالي للرواية ربما لا يكون مقنعا إذ الأحداث التى عايشها البطل كثيرة متتالية بحيث يصعب على القارئ أن يصدق ان كل هذه المغامرات الاجتماعية حدثت فى يومين اثنين ، قضايا كثيرة ناقشتها الرواية لأنها كانت تقصد إلى رصد سلبيات المجتمع على كافة المستويات بدء من الرجل البسيط كمتسول وشحاذ وانتهاء برئيس الحكومة ورئيس البرلمان والمرشحين لعضوية مجلس النواب ، القضايا التى طرقها الكاتب كانت من الكثرة بحيث كاد ينسى بعضها بعضا
يوسف السباعي الذى قال عنه نجيب محفوظ أنه جبرتى العصر أثبت ذلك فى روايته ارض النفاق التى اهتم فيها بتفاصيل المجتمع الدقيقة حتى لكأنك عشت العصر والمرحلة فى ادق تفاصيلها وكأنك ترى الشوارع والأزقة والناس والدواب ، حتى خطبة الجمعة وشيخها والمرشح لمجلس النواب وبائع العرقسوس والشحاذ ومجتمع الشحاذين بما يدور فيه من مهازل ورجال الشرطة والموظفين وغيرهم وغيرهم
الرواية التزمت قضايا الأمة المصرية آنذاك بقلم رشيق وفكر كاتب فلسفى استطاع أن يغوص بعمق فى قاعه لذا لم يجد الكاتب فى معرض سرده ان يتقمص دور خطيب المسجد أو مدرس الفصل فى أمره ونهيه واحيانا كان يلجأ بعد الشرح إلى الإجمال والتلخيص رغبة منه فى إيصال رسالته واضحة خالية من اللبس والالغاز انظر مثلا ص ١٦٦و ص ١٦٧كى تستبين ما نقول وربما لم يجد الكاتب غضاضة فى التعليق على بعض الأحداث فى محاولة منه لإبراز فلسفته الشخصية تجاه بعض الأمور كفلسفته عن الملابس والزينة ص ١٦٧ وص ١٦٨ نموذجا كما لم يجد الكاتب حرجا فى ان يكون التعليق طويلا دون أن يشعر بأى حساسية كونه اسهب أسهابا يضير فن السر الحديث
ربما لفت نظر القارئ إلى محدودية القاموس اللغوى للكاتب والا لماذ كان يكرر كلمات بعينها على طول صفحات الرواية كأن القاموس قد فرغ من مقابلات أو مترادفات لبعض الكلمات مثل تكأكأ وجمعها ومثناها التى وردت بكثرة فى جنبات الرواية انظر مثلا ص ٢٠٣، ٢٠٧،٢٤٠،٢٤٧ كل ذلك على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر
اننى فى نهاية كلمتى عن كاتب كبير ورواية من علامات الرواية العربية لا يسعني إلا أن الانحناء شكرا للكاتب على فرادة الفكرة وبساطة الأسلوب ووضع المجتمع على طاولة التشريح فى محاولة منه لانتزاع أسوأ مافيه حسبما رأى الكاتب ( النفاق) وانحنائة اخرى على الجرأة فى التناول ومواجهة المجتمع أنه يعيش فى ارض النفاق

ليالي ودموع ليوسف السباعي التأرجح بين الشعر والحب
قراءة أليسار عمران – سوريا

_رواية راااااائعة بها الكثير من الصدق والحكمة
إياك أن تعتقد أنك ستنجو من خطاياك ستتبعك وستواجهك مع ذاتك ذات صدفةٍ عابرةٍ نثمل ونسكر بدموع قصائد لشعراء لايشعرون بسهامهم التي رموها في صدور القارئين لاتحبيني لأنني شاعراً
لاتحبيني لأنني ذكياً،مفكراً،موهوباَ،دعي كل هذا وتعالي أحبيني لأنني أنا

قراءة أليسار عمران - سوريا
قراءة أليسار عمران – سوريا

لا أريد أن أؤلف بسببك عشرات الكتب أريد أن أنجب منك عائلة سعيدة إلى تلك النجمة التي فصلت هذياني ثوباً لها وصفعت وجهها ومزّقت ثوب الزّفاف لتلبس ثوب هذياني وجنوني ويصفق لها الجمهور على المسرح
لقد صدقتِ وأنا أكبر الكاذبين
كل ما كنت أريده هو أحضر قطعة من الشوكولا وباقة من الورد الى ذاك الطفل المقيم في أعماقي…لقد حصل عليهم عندما عرجت روحه إلى السماء

 

الرومانسية الواقعية في “اثنتا عشرة امرأة ” ليوسف السباعي

د. سلوى جودة

يرتبط اسم الأديب يوسف السباعي (1917-1978) في ذاكرتي بصباح يوم 18 فبراير 1978 عندما صدرت صرخة مكتومة من جدتي وهي تتابع الأخبار بالراديو الذي أذاع خبر اغتياله أثناء حضوره مؤتمراً بقبرص، وعشت متأثره بمشاعر الحزن والغضب التي سادت من جراء الحادث، وظل الاسم وهذه الحالة بضميري حتى بدأت رحلتي المعرفية بعد الحادث بسنوات، وطلبت من أسرتي شراء رواياته والاطلاع على عالمه الذي حصره النقاد في الرومانسية حتى اعتبروه فارسها، هذا وقد استثمرت السنيما إقبال جمهور القراء على أعماله فتحولت الروايات إلى أفلام وظهر اسمه على أفيشات السنيما أكثر من ثلاثة وثلاثون مرة، و فازت عدة أفلام من أعماله في اختيار أهم مئة فيلم في تاريخ السنيما منها “الناصر صلاح الدين” و “رد قلبي” و “السقا مات” وإسلاماه وبين الأطلال”، وتعددت الرؤى النقدية لأعماله بين المؤيد والمعارض لمحاولته تشريح المجتمع في تلك الفترة والكشف عن الفجوات التي تحتاج إلى دعم وترميم وإعادة نظر وربما اعتبار، وكانت المرأة وقضاياها ومخاوفها هي البوتقة التي ساعدته في هذا الكشف، فالظروف التاريخية والإجتماعية التي مر بها المجتمع المصري في حقبة الخمسينات والستينات جعلت حركة المرأة وتحررها مواكبة لحركة الوطن وانفتاحه على الآخر وعلى الحريات العامة والخاصة.

د. سلوى جودة
د. سلوى جودة

واستطاع يوسف السباعي أن “يكتب المرأة” على حسب تعبير الناشطة النسوية الفرنسية إيلين سيكسو (1937) والتي طالبت الكاتبات أن يتناولن قضايا المرأة ومشاعرها وما تتعرض له من المجتمع الذي يهمشها ولا يستمع إليها، المجتمع الذي كان إنصاته أفلاطوني النزعة والذي رأى أن الإنسانية في عرف الرجل شيء مذكر، فهو يعتبر نفسه ممثلاً للجنس الإنساني الحقيقي أما المرأة فهي تمثل الجنس الآخر أي الأدنى فيقول صراحة أن الأنثى “هي أنثى بسبب نقص الصفات”، لكن السباعي “كتب المرأة” التي يعرفها ويقدرها و يقدسها أيضا فهو يتفهم دوافعها ومعاناتها في مجتمع أساء تصنيفها ونفيها والجحود لها ولدورها في رومانسية واقعية مريرة أصابتها ورَجُلها معاّ، وكتب السباعي مجموعات قصصية تناولت شخصيات نسائية ورجالية تجمعهم نفس الصفات، فلقد تعرضا لنفس الخبرات المجتمعية ونفس المعاناة التي شكلت وعيهما وإدراكهما، وفي مقدمة مجموعته القصصية “ست نساء وست رجال” كتب ما يدلل على رفضه التصنيف الجائر لأدوار مجتمعية تصلح للرجل وأخرى للمرأة وأنه لا يستطيع التوقف عن الكتابة عن المرأة أو إقصائها: “إن كتبت عن ست نساء فأنا أكتب ضمنا عن ستة رجال، وان كتبت عن ستة رجال فلا أظن أنني أمنع ست نساء من التسلل وحشر أنفسهن بين السطور”، فكيف للأدب أن يتجاهلها وهي حاضرة في المعاني، وهي الملهمة، و هي قلب الأحداث ومحورها، وقلب كاتبها لامحالة، وهي الكيان الذي يشغل الحيز الأهم في رؤيته العامة للحياة وللسعادة، فالسعادة في محورها أنثى وفي هذا يقول السباعي في مقدمة مجموعته القصصية “أثنتا عشرة امرأة”1948 :”فلا أظن أن الحياة يمكن أن تصبح حياة ..وأن الرجل يمكنه أن يكون لديه أمل أو مطمع. لو خلت الدنيا من النساء. وليس هناك من ينكر أنه ما من مطمح للرجل في هذه الحياة ،إلا كانت الرغبة الدافعة إليه هي إرضاء المرأة..مهما حاول الرجل انكار ذلك”، وذكر السباعي أن شيء آخر شجعه على الكتابة عن النساء، وهي أن الدكتورة عائشة عبدالرحمن-ابنة الشاطئ (1913-1998)- نفسها كتبت إليه رسالة خاصة بعد أن قرأت “إني راحلة” تقول “أنها كانت تنتقد فيما سابق كتابتي عن النساء، ولكن بعد قراءتها لهذا الكتاب وجدت أنني أستطيع أن أكتب عنهن كما أشاء” وفي موضع أخر أشار ثانية إلى الدكتورة ابنة الشاطئ في نقدها له كتابته عن المرأة في مجموعته القصصية ” اثنتا عشرة امرأة” عام ١٩٤٨ ووصفه مشاعرها وأحاسيسها كما لو كان يعيش بباطنها ويشعر بأحاسيسها وأنه كان من الأفضل له الكتابة عن الرجال لكونه رجل مثلهم” مع أن الكثير ممن أثار قضايا المرأة في الغرب والشرق كانوا رجال فهناك هنريك إبسن وبرنارد شو ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومئات من أصحاب الياقات البيضاء من الرجال حول العالم الذين فتحوا الأبواب للحركات النسوية وكانوا مناهضين لمحاولات التخلي عنها وقمعها وتاريخ الحركة النسوية حول العالم يشهد بذلك.
وفي مجموعته القصصية ” اثنتا عشرة امرأة” 1948 التي ترجمت إلى عدة لغات ولقت رواجاً في الأوساط الأدبية والثقافية ، قدم السباعي اثنى عشرة قصة لم تكن البطولة فيها للرجل أو المرأة ولم يكن لأحدهم السطوة والقوة على الآخر فهما معاً ابناء حقبة تاريخية وأعراف وقوانين صارمة وتحديات دفعتهما إلى نهايات متوقعة، فهذه القصص بطلاتها اثنتا عشرة امرأة مختلفون في الشخصيات والطباع فمنهن الخاسرة والمحرومة والصابرة والشريفة والثكلى والنائمة ، لينكشف عن هذه القصص الكثير من عورات المجتمع وخبايا المرأة وآلامها، والنماذج التي طرحتها المجموعة تنفي أي صفة مجتمعية متوارثة عبر الأساطير والخرافات عن المرأة كغاوية أو مصدر للشرور أوحتى كونها ملاك رحيم، فهي نتاج ثقافة شكلت وعيها ومشاعرها ونجاحاتها وربما أخفقت في حمايتها واحترامها ودعمها وأوقعتها في براثن الشر والرذيلة والحزن وهو في ذلك يدعم النظرة البوفارية -نسبة إلى سيمون دي بفوار (1908-1986) أحد الرموز الهامة في حركة تحرير المرأة- ” الأنثى تولد إنساناً ثم تصنع/تصبح امرأة” في تأكيد على الدور المجتمعي في الصياغة والصناعة، فالتحليق أو الخضوع للمرأة قرار مجتمعي وليس بنية بيولوجية أو فسيولوجية تسجنها في أدوارٍ هامشية لا تحقق فيها ذاتها ولا تستمتع بوجودها ولا تساهم بعد ذلك في حركة التاريخ.
وعلى الرغم من سيطرة الحس الرومانسي في أعمال السباعي إلا أن هذه المجموعة بها ملامح الرومانسية الواقعية من حيث جمعها بين المذهبين، على الرغم أن المدرسة الواقعية جاءت ردًا على المدرسة الرومانسية إلا أن هذا الجمع لا يمكن إغفاله في أعمال روائية لكتاب عالميين منهم على سبيل المثال لا الحصر رواية “المنبع” لآين راند (1905-1982) ، و “مدام بوفاري” لجوستاف فلوبير (1821-1880) ، و “وداعا للسلاح” لإرنست هيمنجواي (1899-1961)، وهذه المدرسة في الحقيقة تمثل قناعاتي الإنسانية فهي تجعل الحياة أكثر إثارة للاهتمام والدهشة والسؤال والتحقق مما هي عليه في الواقع، والأهم من ذلك أكثر مودةً و إنسانيةً، وفي القصة الأولى في “اثنتا عشرة امرأة” بعنوان “امرأة صابرة” يصف الراوي نموذجاً لتضحيات المرأة في سبيل أسرتها وكأن التضحية لابد وأن تكون “أنثى”، وماذا لو طبقت القوانين المجتمعية هذه على الرجل أيضا..!! وفي “امرأة نائمة” ينعتها كل من حولها بالجنون ،وهي لا تفعل شيء سوى أنها تنعس وتحلم، فحياة خاصة ولو في الغيب غير مسموح لها بها، السؤال لماذا تهرب إلى الغيب ؟ و من حرمها التفاعل الحقيقي والتحقق في الحياة؟، وفي “امرأة خاسرة” يقدم نموذج الفنانة التي بدأت حياتها خادمة وأحبت أحد أبناء سادتها فاستحقت الطرد، وبعدما خاضت غمار الحياة وأصبحت فنانة مشهورة وميسورة، قابلت سيدها الذي أحبته وتزوجته، ولكنه غادر الحياة بعد زواجه منها بأيام وتركها هذه المرة “لا خادمة ذليلة بل نفس بالية، وروحا ذارية ، وامرأة مخذولة خاسرة” مرصودة أنت يا سيدتي بالوحدة، وفي “امرأة محرومة” تعيش البطلة في بيتٍ على أطراف المدينة مسكونٍ بالأشباح، وقد استأنست بهم وانعزلت عن العالم في صحبة أب وابنه من الأشباح، ترى من خذلها وحرمها فحاولت أن تعوض نفسها عن ذلك الحرمان الذي أصابتها به الحياة، وحتى لو اتهموها بالجنون فهي راضية: “لوكنت حقاً مجنونه كما تقولون….فأنعم بالجنون وطوبى للمجانين”، وفي “امرأة ..ورماد” البطلة هي “الخياطة” التي ضحت بنفسها من أجل تربية أخواتها بعد فقدان أبويها، وقد تخلى عنها حبيبها ،وما زالت تحتفظ بابتسامتها ومازالت تخيط ثوب زفافها وربما ترتق ثوب العالم والثقوب التي احدثها في روحها، فهي ليست رماداً كما يحدثنا عنها الراوي ” هي كالجمرة التي يكسوها الرماد ومازال جوفها مضيئا مشتعلاً ،ومازال النور يضئ نفسها، والحرارة تدفئ قلبها” وبعد سنوات طويلة يظهر الحبيب وقد أصبح كهلاً وحيداً حزيناً ويصف نفسه بأنه الرماد: “الرماد هنا. الرماد هو ذلك الجسد الذي لم يستطع التضحية ..ومل الانتظار. فمل حبيبة العمر وأقبل على أخرى.. ماتت بعد فترة من الزمان.. ورأى نفسه يسير بعد ذلك وحيداً.. كالنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى..”، ويعلق الراوي :” أجل لقد كان هو الرماد” وفي “امرأة وظلال” يقدم الراوي سيرة امرأة تعيش على ذكريات حبها الأول الذي غادرها لغيرها، وعندما عاد إليها رفضت إلا أن تكمل ما تبقى من حياتها في عالمها فأمثالها كما يقول الراوي “هواة ظلال، وعشاق ذكريات ،فهم يعيشون دائما فيما مضى، لا يكادون يحسون بحاضرهم إلا إذا طوته الأيام فأصبح ماضياً، ولا يشعرون بالمتعة إلا بعد أن تصبح ذكرى…” وتتوالى الحكايات التي ترصد أنواع من المعاناة البشرية أصابت الرجل والمرأة فلم يكن هذا العالم دائماّ للرجل ،كما يعتقد السباعي، ولم تكن أي من الأسباب التي قدمت لتبرير معاناة المرأة مناسباً.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى