دراسات ومقالات

ناهد الطحان تكتب : الهوية.. والإحتفاء بالماضي والمستقبل.. في قصة (صورة في الذاكرة) للأديب محمد جبريل

هناك من بين كل الصور والأحداث والأماكن والأسماء ، صورة واحدة لاصقة كمشهد دائم ، نحاول تغييرها دون جدوى، وكأنها كل ما نملك من ذكريات .
يستدرجنا الأديب الكبير محمد جبريل عبر السرد في قصته ( صورة في الذاكرة ) لنبحث معه من خلال كل تلك الثقوب الزمنية، عن تلك الصورة الثابتة التي علقت فأصبحت مشهدا لا يمكن نسيانه، ويتحول بنا بين صوره الذاتية القابعة هناك حيث الطفولة والشباب في عشقه ( بحري )، للمساجد والأضرحة والحارات والمقاهي والسحن يهيم بها ساكنا لا يبرح، فيطارده شبح النسيان ، الذي يزرف خوفا من الفقد والتيه في عالم نجهله ولم نعد جزءا منه بعد أن فقدنا ذاكرتنا .
اذ يعادل هذا العالم الخاص عالما لا نهائيا من الشعور بفقد الهوية والوجود والأصول والإمتداد، عبر صورة الشاب الذي يخفي وجهه بمنديل فلا يرى إلا عيناه وحجر في يده ، إنه خوف دفين أشد قسوة ، فالذات جزء من الكل جزء من الأرض، التي تمثل نقطة الإرتكاز في هذا العالم ، وكأن الراوي / الأديب شاهدا على التاريخ وحارسا له .
فدلالة المقاومة الفلسطينية الشابة ، تحمل معاني الصمود والقوة والإستبسال، أمام النسيان والخضوع ، فهي الأمان لنا كي نحمي إرثنا – ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا- الذي غاب عن ذاكرتنا وأصبحنا نبحث عن هوية جديدة لنا بدلا من محاولة استعادة هويتنا الأم .
إن براعة أديبنا الكبير الأستاذ محمد جبريل في الولوج بين هذه العوالم يعد تحذيرا قويا من محاولات تجريف العقل وطمس ذاكرته، ذاكرة الإنسان المصري العربي ذو التاريخ الإنساني المؤثر ، وإلا فسوف نفقد هذا التأثير إلى الأبد .
يقول الراوي / الأديب محمد جبريل :
( لماذا لا تبقى الذاكرة على ما كانت عليه ؟ لماذا تتحول إلى ذكرى ؟ لماذا لا تتجدد الأشياء الجميلة في زمن مضى؟ )
تساؤل يحمل معني الإدانة، لعالم يتسم بمحو مستمر لكل الرموز في حياتنا، فرغم تدفق الصور الضبابية، يجدها وقد تكتلت في شبكة عنكبوتية على وشك الإنهيار ، فيحاول الإستعانة بصديق ينشط ذاكرته ، لكنه بقدر ما ينعش ذاكرته بقدر تدافعها وتخبطها ، ليظل هناك حاجز بينه وبينها .
ورغم مطارده الأماكن له عبر ذاكرة بصرية حادة، فإنها لا تكشف عن نفسها إلا لتغادر الذاكرة مرة أخرى، ليظل الراوي حائرا باحثا عن كنهه ازاء هذه الإزاحة المستمرة ، فيستدعي مبررا لها من خلال حديث أمه في الطفولة – مبررا من الماضي أيضا – عندما أخبرته أن الملاك عند الميلاد يلمس جبهة الطفل وينسيه الحقيقة حتى لا يقع فريسة المعاناة .
هكذا يجد الراوي الحل في ماضيه الذي يمثل عالمه الآمن ازاء تقلب الحاضر ، ويتمنى لو لو كانت له ذاكرة شهرزاد التي تستدعي الأسماء والأحداث حية نابضة عبر الحكايات ، فتمنحهاوجودا وحياة ، مما يذكرنا بعوالمنا وتاريخناوأصولنا، التي سقطت منا ومن ذاكرة أمتنا لصالح كل ما هو وافد وغريب وليس له اسم في ذاكرتنا .
ويتحايل على الأمر بتسجيل وتدوين هذه الأسماء، تلك الأسماء التي كرم الله آدم عندما علمه إياها، كمنحة إلهية ميز بها الجنس البشري، وهو ما يذكرنا بما فعله خوسيه أركاديو بوينديا في رواية ( مائة عام من العزلة ) لماركيز حين أصاب قريته ماكوندو وباء النسيان، فأخذ يدون الأسماء في أوراق حتى يمنح القرية ذاكرة حية، كنوع من التحايل على الداء ، مما يؤكد معه الراوي / الأديب محمد جبريل على مزيد من المحاولة والتسجيل والمراجعة لهذا الماضي الثري بعد أن استشرى لدينا داء النسيان، ووجب علينا علاجه .

ويقول أيضا في نصه ( صورة من الذاكرة ) :
( حل الزحام فتلاصقت الأجسام وصعبت الحركة ، المارة والواقفون يتزاحمون حول عربات اليد والبضائع المكومة على الجانبين . اسأل باستدعاءات الذاكرة ، أعرف من ظل حيا من أصحاب الدكاكين )
الراوي هنا يقاوم التحلل والتصدع والتجاهل الذي أصاب هذه الذاكرة الفردية الجي معية ، والتي يحمل عبأها في قلوبهم من ينتصرون لذاكرة الأمة، ويشعرون بالغربة إزاء الإندثار والهجران والتشوش، وبالرغم من ذلك لا تتضح الصور بل تصبح ضبابية ليس لها ملامح ولا نعرف معانيها، بعد أن أصابها النسيان والإهمال ، وهي دعوة كي نعيد قراءة ماضينا وحاضرنا ونستحضر رموزنا، التي فقدناها مدفوعين بدعاوى التطوير والإحلال .
هكذا يتحمل الماضي كل شيء حتى مسؤولية مستقبلنا، فيلح علينا في كل وقت في نوستالجيا دائمة لا تنتهي منذ وطأ الإنسان الأرض ، ليخوض معركة تتزاحم فيها الذكريات ويصبح التذكر مغامرة كما يرى الراوي / الأديب الكبير محمد جبريل ، كي ينتصر الإنسان لإرادته لأنها معادل لوجوده ، فإما أن يتذكر فيستريح ، وإما أن ينسى فكأنه لم يكن .
هذا الحنين للذاكرة حنين لأصولنا وجذورنا الأولى، كي نرسخ هذا الوجود، علنا نستدرك الأمر، بعد شوشت كغيرها من الذكريات أو اندثرت معها الأمم، وعلينا استدعاءها بكل الطرق، عبر التدوين والبحث والتحدي الدائم، لأن وجودنا مرهون بها ، فلا انفصال بيننا وبينها كما يعتقد البعض .
إن الإحتفاء بالماضي هنا بالنسبة للأديب الكبير محمد جبريل – عبر مفرداته السمعية والبصرية – حنين دافق وركن دافيء ومتجدد ، وهو الطريق للنجاة من عالم عاصف ومتغير ومتزاحم يزعزع هويتنا الذاتية / الجمعية و
الواعية / أو اللاواعية ، لأنه يحمل مسؤولية الوجود والإمتداد والمستقبل .

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى