Uncategorizedدراسات ومقالات

د. محمود بكري يكتب أيام في الزنزانة

د. محمود بكري يكتب أيام في الزنزانة

 

نواصل، في هذه الحلقة، رحلة “أيام في الزنزانة” التي توقفنا، في المقالة الماضية، عند كيفية “التحايل” للخروج من قريتنا (المعنَّى) الكائنة على مقربة من مدينة “قنا” دون لفت انتباه رجال “أمن الدولة” وقوات الشرطة التي كانت حتى ساعات فجر يوم 14 أكتوبر 1981 تواصل بحثها لاعتقالي وشقيقي “مصطفى بكري” بسبب مواقفنا الرافضة لمحاولات الرئيس الأسبق “أنور السادات” توصيل مياه النيل إلى الكيان الصهيوني، ومعارضتنا للعديد من السياسات التي اتخذها النظام في هذا الوقت، وسببت احتقانا شعبيا واسعا، خاصة بعد أن اتخذ “السادات” قرارات باعتقال 1536 من خيرة رجالات مصر، وإيداعهم المعتقلات، فيما أُطلق عليه حينذاك “ثورة الخامس من سبتمبر”.

كنت قد وصلت إلى محطة قطارات “قنا” وانتظرت في آخر رصيف القطار لأستقله من آخر عربة ركاب في مؤخرة الرصيف.. كان هدفي من ذلك استخدام كل السبل للوصول للقاهرة، حيث يتخفى الأستاذ “مصطفى بكري” دون أن يلحظني أحد المخبرين، أو عملاء الأمن.. وفور وصول القطار، وركوب العربة الأخيرة “بالعافية” وسط الحشود الهائلة من الركاب، رحت أنتقل لمرحلة جديدة من عالم “ركاب الدرجة الثالثة”.. أكوام من البشر تتكدس على الكراسي، وبين المقاعد، وفي الطرقات التي امتلأت عن آخرها، ولم يتبقَّ فيها موطئ قدم لشخص، حتى إن أماكن وضع الحقائب، وما بين عربتيِ القطار، وأماكن خارج الحمامات، كانت تغص كلها بالركاب.

وسط هذا العالم، رحت أحمل حقيبتي الصغيرة طوال الطريق على كتفي، وظللت واقفا على قدم واحدة في مكاني، لا أستطيع أن أتزحزح، بسبب الزحام الرهيب، من الساعة الرابعة والنصف مساء، موعد انطلاق القطار من محطة “قنا” في طريقه إلى القاهرة، حتى الساعة السادسة من صباح اليوم التالي، وقت مغادرتي القطار في محطة سكك حديد “الجيزة” حيث ظللت على هذا الحال لمدة ثلاث عشرة ساعة ونصف الساعة.

 

عشت في تلك الليلة التي لن تُمحى من ذاكرتي ما حييت كل تفاصيل حياة المصريين البسطاء.. الذين يتدفقون كسيل لا يتوقف إلى العاصمة، التي تبهر بأضوائها الخلابة، وميادينها، ومبانيها، وطبيعة الحياة فيها، كل مَن لديهم مصلحة، يأتون لإنجازها.. كنت أسمع في ساعات الليل الطويل حكايات البسطاء، من الركاب، إذ سرعان ما يأتلف الجميع في جو إنساني، ليروي كل مَن يريد، مقصده، وهدفه من رحلة السفر للعاصمة، فهناك مَنِ استقل القطار للعلاج، وهناك مَن جاء لزيارة قريب، أو حضور مناسبة، أو إنجاز أوراق في جهات حكومية رسمية، أو التقديم للعمل في جهة ما.. كافة ألوان الطيف المصري جمعتها عربة القطار، التي سرعان ما تحولت إلى منتدى، يشبه “سوق عكاظ”.

 

كان أكثر ما أثار انتباهي، خلال الرحلة الطويلة، هم “الباعة الجائلون” كل منهم يحمل صندوقا من “الساندوتشات” أو “السجائر” و “المشروبات”.. أبهرني أداؤهم، وقدرتهم على العبور وسط أمواج البشر، في احترافية غريبة، وقدرتهم الهائلة على إرضاء كل مَن يتعرض للدهس على قدمه، أو الاحتكاك بجسده وسط هذا التكدس الكبير.. رحت في هذه الأجواء أرقب سلوك البشر، وقدرتهم على التعايش معا، رغم كل هذا الاضطراب الذي يسيطر على تحركاتهم العجيبة.. وعند منتصف الليل تقريبا شعرت بالجوع وخواء معدتي، فاشتريت ساندوتشين من الجبن الأبيض، أسد بهما رمقي حتى أصل إلى مبتغاي، وسط شعور بالإرهاق الشديد راح يسيطر عليَّ، غير أنني رحت أقاوم هذا الشعور، رافضا الاستسلام للنوم، منتظرا لحظة وصولي لمحطة “الجيزة “بفارغ الصبر، حتى أطمئن على شقيقي “مصطفى بكري” وأحيطه علما بكل ما حدث من تطورات في اليومين السابقين.

 

خلال رحلة سفري الطويل، رحت أتذكر أيامًا شبيهة بتلك الأيام.. فخلال أحداث 18و19يناير من العام 1977، وهي ما عُرفت بـ “انتفاضة يناير” كنت لا أزال طالبا في مدرسة الشهيد عبد المنعم رياض الثانوية العسكرية بقنا، وكان شقيقي “مصطفى بكري” قد تم القبض عليه إثر هذه المظاهرات من منزلنا بقرية “المعنَّى” حيث أودع سجن “قنا الغربي” لمدة ثلاثة أشهر بتهمة قيادة المظاهرات التي اندلعت احتجاجا على رفع الأسعار في تلك الفترة، والتي حصل فيها على البراءة فيما بعد، بعد أن تكفل عدد من المحامين الكبار بالدفاع عنه، وعلى رأسهم الأستاذان الكبيران: “أحمد نبيل الهلالي وعبد الله الزغبي” اللذان جاءا خصيصا من القاهرة، والأستاذ “حلمي الشريف” الذي جاء من “سوهاج” وهو والد المستشار “محمود حلمي الشريف” والنائب السابق “أحمد حلمي الشريف” للدفاع عنه أمام محكمة قنا.

 

كنت صغير السن، ولم أتجاوز الثامنة عشرة من عمري، ومع ذلك أخذت على عاتقي مسئولية تحمُّل قضية شقيقي، سواء مع هيئة الدفاع عنه القادمين من خارج قنا، أو داخل قنا، وكذلك رحت أتواصل مع قيادات ورموز “حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي” الذي كان “مصطفى بكري” عضوا بأمانته العامة، وأمينًا عاما لمحافظة قنا، حيث تقلد هذا المنصب وعمره لم يتجاوز تسعة عشر عاما منذ عام 1976، ورحت أتذكر ما حدث في عام 1980، حين كانت مدينة قنا هي الوحيدة على مستوى الجمهورية، التي نظمت مظاهرة احتجاج على رفع العلم الصهيوني على السفارة الإسرائيلية بعد افتتاحها رسميا، وما تلى ذلك من محاولات للقبض عليه بعد هروبه لعدة أشهر، ثم قام بتسليم نفسه مع قرب موعد امتحاناته في كلية التربية بقنا، حيث أدى الامتحانات وهو رهن السجن، فقد كان يتم نقله يوميا، خلال فترة الامتحانات من موقع سجن قنا الغربي إلى مقر كلية التربية لأداء الامتحانات.

 

راحت ذاكرتي تسترجع تلك الأيام والشهور الصعبة، التي مرت علينا كدهر من الزمان، وتحملنا فيها عنت وقسوة سلطة الحكم في هذه الفترة، وكانت والدتي (رحمها الله) هي أكثر مَن تدفع الثمن، من جراء تلك الممارسات القاسية، فقد كان ابنها “البكري” كما يُعرف المولود الأول في بلادنا هو “نور عينيها” الذي كان عُرضة للملاحقة والحبس والضرب في فترات متتابعة، مما أثر في أعصابها، وقدراتها، وأمرضها، فراحت تدفع الثمن من صحتها التي راحت تتدهور بشكل متواصل، وهو ما دفع بي للتخطيط لكي تقابل “والدتي” شقيقي “مصطفى” بعد أن أدركت أن ساعة اعتقاله باتت أقرب مما كنا أتصور.

د. محمود بكري

أوبرا مصر –  دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى