دراسات ومقالات

إبراهيم عبدالمجيد يَكتُب : رائحة الفراغ .. فوتوغرافيا للقاهرة في زمن الكورونا

منذ صدر هذا الكتاب أضعه أمامي على مكتبي، وفي أكثر الليالي آخذه جواري وأنا نائم اتصفح فيه قليلا قبل أن أغفو في نوم عميق . الكتاب للفنان عادل واسيلي ومن إصدار دار ميريت .
عادل واسيلى مهندس ومعماري عرفناه دائما مشغول بقضايا الوطن . أحب التصوير الفوتوغرافي فلم يفارق البسطاء من الشعب كاميرته وصوره فيما عرضه في الصحافة، أو في معارضه الفنية في مصر وخارجها، ويمكن لك أن تدخل صفحته على الفيسبوك فترى روائع الصور للبسطاء.
تحدث المفكر نبيل عبد الفتاح في المقدمة عن كيف كانت المباني يوما ما لها الطابع والروح الكوزموبوليتي، الذي انحسر وتوارى خلف العشوائيات التي حدثت في المباني الجديدة، وترحال أهل الريف إلى المدن وترييفها، والفساد الإداري الذي أعطى الفرصة لذلك كله. كيف كانت الكورونا والفراغ فرصة للفنان عادل واسيلي، أن يقدم لنا في تصويره لشوارع القاهرة القديمة، صورة لكتابة بصرية ترصد روح المدينة. ولأني كثيرا ما رأيت ما صوره عادل من قبل من الحياة ، قلت فرصة أن يكون معرضا جديدا مختلفا كاملا بين يدي. والأهم لأني قارئ نهم لتاريخ العمارة قرأت بها عشرات الكتب وكتبت عنها، قلت لنفسي أن أرى الكتاب، وكان أن أرسله لي الصديق العزيز عادل واسيلي . عادل لا يعرف أني أردت الكتاب ليس لأرى حضور الصورة في زمن الكورونا فقط ، وسحر كاميرته. لكن لأرى حضور الصورة في وقت ضاقت فيه عليّ صحتي فلم أعد قادرا على التوجه إلى هذه الشوارع ليلا لأراها في صمت بعد أن تختفي المحلات ومعظم البشر. كنت أفعل ذلك أيام شبابي وأطوف بالقاهرة ومعي صديقى المرحوم المخرج المسرحي سامي صلاح، الذي كنا معا بعد أن نشاهد فيلما في أي من سينمات وسط البلد ، أو مسرحية في المسرح القومي، نعود عند الفجر بعد أن نطوف فى شوارع الحسين والجمالية وبالطبع العتبة، ثم صرت أفعل ذلك بعد أن باعدت الأيام بيني وبين سامي صلاح فصار يسكن في الهرم، ثم سافر في بعثة دراسية إلي أميركا ، وأنا صرت في امبابة، وكنا تزوجنا ولم تعد لنا مساحة السهر كل يوم، فصرت أفعل ذلك مع الفنان صلاح عناني والفنان عادل جيلاني، ولكن طبعا ليس كل يوم . صارت القاهرة الخالية هي متعتي حتي ازدحمت ولم يعد الليل يتميز عن النهار، فآثرت البقاء في البيت إلا من جلسات الأدباء يوم الثلاثاء في الجريون، ثم جعلني المرض منذ أربع سنوات حبيس البيت بالنهار والليل إلا نادرا. لم أعد أرفع رأسي إلى البنايات الأوربية الطابع من فرط ما أتعثر به من زحام. جاء هذا الكتاب في هذا الوقت فصار هو رحلتي الغائبة. تقريبا في كل شارع كانت لي ذكرى تسللت إلى رواياتي عن القاهرة وأهلها وزمنها ، لكني لا أريد للذكريات كحقيقة أن تنهمر حتي لا أفسد جمال التصوير الذي لا تمشى فيه رائحة الفراغ فقط ، لكن تسكنك العمارة وربما تمزق قميصك لتفتح لها المجال للاستقرار في القلب. عادل لم يشرح تاريخ أي مبني لأنه معنيٌ بالتصوير الذي تشم منه رائحة الفراغ حقا، وأيضا رائحة الزمن الذي لن يتكرر، فالكورونا انتهت تقريبا وملأ الناس الشوارع . حين تري صورة لشارع رمسيس تجد نفسك تسأل كيف هو مطمئن هكذا ويتمدد خاليا مستقرا غير خائف من أقدام الزحام الوحشية. تبدو أحيانا بعض المباني بعيدة، ربما ذلك بسبب الطباعة، لكن بعدها يثير الحنين إليها في روحك. الأمر نفسه في ميدان طلعت حرب وتمثاله الذي يقف وحيدا لابد يسأل عن شيئ غاب من حوله. تري شارع طلعت حرب الذي تعرفه جيدا، لكنك تري راكب موتوسيكل وحيد لا تعرف من أين جاء وإلى أين يذهب. كان ممكنا لعادل أن يلتقط الصورة دونه لكن لوجوده معنى ، فهو يريد أن يخرج من النسيان. تري في شارع قصر النيل سيارة ميكروباص تقف وحيدة تبدو لك تنتظر ركابا من ألالف السنين. الصورتان للشارعين في صفحتين مواجهتين. يضع صورة شارع 26 يوليو أو شارع فؤاد، وصورة شارع طلعت حرب من جديد، مواجهتين لبعضهما فتكاد تطويك البنايات، وتتحق لك مقولة أن الإنسان زائل والجماد باقي. على كوبري الأزهر يعود راكب الموتوسيكل سواء كان هو أو غيره للظهور، فيحقق لك رحلة الإنسان مع الفراغ عبر الزمن . هناك دائما حلم الوصول لشيئ لا يراه غير صاحبه وقد لا يصل إليه. يتحقق الفراغ كاملا في شارع مثل محمد محمود، ولابد تتذكر كيف لكل هذا الجمال أن تنطلق منه رصاصات يوما ما إلي صدور الشهداء ابناء ثورة يناير . ميدان ابراهيم باشا في صمته. جمال البنايات القديمة لا يأخذ عينيك عن ابراهيم باشا الذي يشير إلى الأمام حين كان المجال الحيوي لمصر يمتد الي الشام والعراق والجزيرة العربية ومنابع النيل الذي تركناه لأثيويبيا. في الزمالك في الطريق إلي برج القاهرة صورة الشجرة التي أتي بها الخديوي اسماعيل من الهند . شجرة الهند البنغالي التي تتوسط الشارع حولها زفة صغير لعروسين يذكرانك مع حضو الشجرة الطاغي، بآلالف الشباب الذين مروا من هنا واختطفوا قبلات سريعة، أو جروا حول الشجرة ضاحكين، وصورة الزواج كأنها تكمل مامضي. وهكذا عشرات الشوارع والميادين عبر القاهرة القديمة والجديدة تطل عليك بعظمة البناء القديم، وتخشي أن يطلع النهار فيشوهها الزحام . اما الصور الأخيرة لسارع المعز وما حوله من شوارع فهي تاريخ أدبي يذكرك بنجيب محفوظ، وطبعا يذكرني بتاريخ خاص لي بسهراتي مع الأحباء زمان ندرس العمارة القديمة. من أجمل الصورة صورة لمنطقة الصاغة خالية، لكن فوق الأرض عدد كبير من القطط لم أرها في الفراغ إلا أرواح من ذهبوا عادوا يبحثون عن غيرهم، ولا يعترفون انهم غابوا عنهم كل هذا الوقت من العمر. لا أجد أفضل نهاية للمقال من حديث صديق العمر نبيل عبد الفتاح في مقدمة الكتاب ” كاميرا عادل واسيلي وعيونه اليقظة، عبرت عن استمرارية سلطة الصورة وثقافتها البصرية في التقاط لحظات من حياة وتاريخ القاهرة الساحرة ومقاهيها اليومية .هي كتابة بصرية وثَّقت المدينة في عزلتها وصمتها وفراغها الخارجي، ومن ثم فأنها تعد توثيقا لهذه اللحظ النادرة والاستثنائية في حياة القاهرة الصاخبة الجميلة الساحرة الفاتنة رغم كل همومها ومشاكلها “

غلاف العمل
غلاف العمل

شكرا ياعادل يافناننا الكبير. لقد جاء كتابك في وقت كم أحتاج فيه إلى الحركة، لذلك يطربني ويشجيني بالذكريات الجميلة والأحلام الضائعة، فضلا عن متعة الحس البصري الذي تآمروا عليه لنتعود على القبح في البلاد ، وشكرا لدار ميريت على هذا الإصدار المختلف والجميل.

 

https://www.youtube.com/@ElgemelyAhmed

 

 

https://operamisr.com/2023/03

 

 

 

أوبرا مصر ، دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى