وليد محمد حسني يكتب رحلة مع النبي
حلقات رمضانية
هيا يا صديقي سنبدأ من هنا … من هذا البيت الذي تسمع فيه بكاء طفل مرت على ولادته دقائق قليلا .
هنا بيت ( آمنة بنت وهب ) اليتيمة التي كبرت في حجر عمها ( وهيب بن عبد مناف ) ها نحن ذا نقف على الباب نتأمل في تلك الوجوه التي اختلط الفرح بالحزن قسمات وجوههم. فها هو الطفل الصغير أتى إلي الدنيا يتيما فقد توفى والده ( عبد الله ) الذي مات بعد ٦ أشهر فقط من زواجه …. مات العريس ذو ال ١٨ عاما تاركاً خلفه أرملة وطفل وحلم لم يكتمل .
وتمر الأيام وتأتي المرضعات كي تأخذ الأطفال ويكون هو من نصيب ( حليمة السعدية) ويترك الطفل الصغير حضن أمه التي لم يجف دمعها على رحيل زوجها ليرحل أيضا ولدها إلي بني سعد التي تبعد عن مكة ٧٥ كم . ليعود إليها بعد ٤ سنوات .
٤ سنوات نشأ فيهم مع أم ليست أمه ومع أب ليس أبوه
وحانت لحظة الرحيل حيث عليه العودة إلي حضن أمه ( آمنة) في مكة .
هيا يا صديقي نقف هنا لنرى هذا المشهد العظيم مشهد الوداع واللقاء .
ها هو الطفل يبكي .. الطفل الذي فجأة عليه أن يترك أمه ( حليمة السعدية) وأبوه وإخوته الذي لم يعرف سواهم .. ها هو ذا يتشبث بها لا يريد الذهاب لتلك السيدة التي يقولون أنها أمه.
وها هي ذا ( حليمة ) تبكي بكاءا شديداً … إنها لحظة الفراق التي لابد منها . وها هي ( آمنة) تبكي لبكاء طفلها لتعلقه بغيرها وتبكي فرحا لعودة وليدها الذي كبر لعله يعوض غياب زوجها .
نظر لي صديقي والدموع بعينيه موقف صعب على طفل عمره ٤سنوات .
ربت على كتفه قائلا : الأصعب حقا هو جرح فراق أبيه من الرضاعة فجرح فراق حليمة السعدية المرضعه عوضته أمه آمنة أما فراق الأب من يعوضه بل لقد تمزق قلبه مرتين مرة بوفاة أبيه عبد الله الذي مات قبل أن يراه ومرة برحيل ( الحارث بن عبد العزى ) زوج حليمة السعدية… لقد كان ألم الفراق مضاعفا كما لو أن أباه مات مرتين مرة عندما غادر بني سعد ومرة عندما عرف حقيقة وفاة والده عبد الله . لا معرفته أن جده سيد مكة ولا كثرة الاعمام حوله لا شيء يعوض غياب الأب.
هل تعرف يا صديقي كلمة بابا … أبي .. تلك الكلمة التي تشعرك بالأمان لم يقلها رسول الله . ؟ !!!
أنت يا صديقي تشتكي أن والدك رحل وترك لك هموم أسرة ولكن لديك ذكريات مع والدك … تأثرت به .. رأيته وتعاملت معه حتى ولو كان قاسيا أو سيء الطباع ولكن وجوده يعطيك إحساس بالأمان.
ويمكث الطفل الصغير مع أمه لمدة عامان … نعم عامان فقط وتأتي لحظة الفراق .
هيا يا صديقي نتابع هذا الطفل الذي خرج مع والدته لزيارة أخواله في يثرب وأيضا ليزور قبر أبيه وتمت الزيارتين وفي طريق العودة إلي مكة تتوفى الأم وتترك طفلها الوحيد ذو الست سنوات وحيدا يتقلب بين صدمة المفاجأة و صدمة الرحيل والموت .
أي طفل يتحمل كل هذا
كان يسمع عن الموت الذي خطف أباه أما اليوم فقد رأى أمام عينيه يأخذ منه أمه وهو لا يملك شيء يصرخ يبكي ينادي ولكن لا مجيب
ذهب مع أمه وعاد وحيداً بلا أب وبلا أم.
ويبقى السؤال هل تأثرت شخصية الطفل بكل هذا ولماذا لم يحكي عن تلك التفاصيل ؟
ولكن مهلا يا صديقي فالقصة لم تنتهي هناك مشهد هيا بسرعة نراه عن قرب .
وبعد أكثر من 50 عاما وقد بلغ الرسول وقتها سن الستين وقف أمام قبرها وأخذ يبكي بكاءا شديداً حتى أن هذا لفت انتباه سيدنا عمر بن الخطاب فقال له : (هذا قبر آمنة بنت وقد استأذنت ربي أن أزور قبرها فأذن لي …. أدركتني رقتها فبكيت)
هل تعتقد يا صديقي أنه تذكر كم كانت رقيقة معه كم كانت حنونة وعطوفة وكم كانت حياته قاسية بعد ذهابها فبكى .
إنه حتى لم يبك بكاءا عاديا لقد بكى وأبكى كل من حوله بل لقد ارتفع نحيبه… بعد أكثر من خمسين عاما بكى عليها كما لم يبك على أحد. كان يبكي نيابة عن كل تلك السنوات ونيابة عن كل طفل فقد أمه وعن كل دمعة محبوسة بدواعي
التصبر والرجولة واللياقة الإجتماعية.