ساحة الإبداع

د. أحمد الباسوسي يكتب ارتباك

قصة قصيرة

“كأن الأرض ضاقت بالناس”، هذا ما اخبرني به صديقي الذي يتفسلف دائما، تابع “نذر الفناء اصبحت مكشوفة للجميع،”، هكذا اتسعت عيناه وهو يحدق لتبيان تأثير عباراته الساخنة على وجهي الذي انشغل بتتبع ميل عامل المقهى بجذعه قليلا وطفق يسكب القهوة في الأكواب. اومأت بابتسامة شكر للصبي الذي فرد طوله وترك كتفاه تهتزان من الخلف كأنما تسخران من كلام صديقي. تابع من دون اكتراث ما جرى من الصبي ” عايزين يخفضوا عدد سكان الأرض، الناس كترت أوي وهاتموت بعض عشان الأكل؟. انتبهت الى عبارة الأكل بينما ادفئ كفي بكوب القهوة الساخن اللذيذ، كنت أشعر بالجوع فعلا ونفسي في ساندوتش طعمية. قبل ان اصعد بكوب القهوة الى شفتي انفلتت مني عبارة تعجب من دون قصد ” همه مين دولم اللي عايزين بخفضوا سكان الأرض”؟. الرد كان جاهزا وسريعا ” اللي مسيطرين على الأرض وبيحكموا العالم”. سكبت رشفة في حلقي، وتابعت مطاردته ” انت عارفهم كويس؟”، لم يتردد، اخبرني انه يعرفهم جيدا الماسونيين الملعونين، هؤلاء شياطين الأرض عايزين يسيطروا عليها ويقللوا من اعداد البشر عشان موارد الأرض تكفيهم، ويفرضوا سيطرتهم وحكمهم على جميع سكان الأرض”. كوب القهوة المقبوض في كفي تداعت حرارته، لم يعد بالدفئ المطلوب، اضطررت الى سكبه دفعة واحدة في حلقي. صديقي المتفلسف لايزال شغوف بان يدخلني في تفاصيل عالمه السحري المعجون بالقلق والرعب، ونظرية المؤامرة على الكون. تابع ” اخترعوا فيروس الكورونا، صنعوه في معاملهم عشان الناس تترعب، يموت اللي يموت، وبعدين يعملوا لقاح يموتوا بيه الناس الباقيين!”. لم اتردد في ابلاغه اني حصلت على جرعات اللقاح التي اعلنوا عنها!، يعني انا كده في حكم الأموات”؟. غابت دهشته عن الظهور قليلا قبل أن تخرج أسنانه الصدئة من فرط تدخين السجاير، تلفت حواليه، مال بجذعه نحوي بغرابة، اهتزت احباله الصوتية من فرط الارتباك، باح بصوت منخفض مبعثر باللجلجة ” همة بيقولوا كده على الانترنيت”. سندت جذعي بالكامل على ظهر الكرسي البلاستيكي الأبيض، حاولت التشبث بالثبات ” همة مين دولم؟.

تابعني والخوف يطل من عينيه، شفت فيديوهات كتير على اليوتيوب بتقول كده، وجات لي رسائل كثير مصحوبة بقيديوهات ايضا بتقول هذا الكلام، عشان كده انا رافض التطعيم، يقولون عنه انه أحد عناصر المؤامرة الكبرى لفناء البشرية، وأنا موش عايز اموت دلوقتي!”. حاولت المروق من فخ القلق والاضطراب الذي نصبه لي. ارتفع صوتي نحوه دهشة وانفلات عن السيطرة “لكن شعوبهم كلها تقريبا اخذته، يعني همه كده بيموتوا نفسهم الأول!”. كأنما استفاق واسترد مزاجه المفعم بالثقة بعد ان كان قد فقده للحظات، قال وانفاسه تتوازن ” لا انت كده موش متابع، الدنيا مولعة عندهم، طالعين في مظاهرات كبيرة لرفض التطعيم الاجباري واجراءات الاغلاق ووقف حال الناس”. قررت حصاره واعادته الى مزاجه المرتبك بعد ان فرغ كوب القهوة أمامي ولا أمل في مرور حسناوات من الطريق يسرقن انتباهي من هذا الجدل المزعج ” لا أنا متابع وكل حاجة، دي مظاهرات محدودة للغاية ولا يهتم بها أحد”.

الهدوء يلف المكان الذي تحتله المقهى وينتشر في محيطه بضعة أشخاص صدروا ظهورهم لشاشة التلفاز التي تعرض فيلما اجنبيا اجتذب اهتمام نفر أو اثنين. تفرست وجه صديقي العائد إلى نضارته وابتسامته الخفيفية الساخرة وقد القاني بجحر، تحسست رأسي جيدا بعد ارتطامه بجبهتي الضيقة، كان الحجر بمثابة عبارة توقعتها ودائما يرددها كلما انسدت سكة الحوار بيننا ” انت لاتصدق اي شيء الآن، لكن هاتيجي بعد شوية تقول لي انك كنت على حق!”. اكتشفت انني لا املك في تلك اللحظة سوى ابتسامة فاترة تعكس عمق الغموض والارتباك المحيطين بنا، وضآلة حدود تفكيرنا العقلاني الذي تضيق مساحته كلما اتسعت جنبات الكون وعوالمه وغرائبه، تمدد بصري في فضاء الشارع الخالي تقريبا من دبيب الحركة، ذابت ابتسامتي الفاترة في فراغ كوب القهوة امامي، وما يزال صديقي يسكب رشفات كوبه داخل حلقه في تلذذ كأنه يتباهي باتساع فضاء الخيال داخل رأسه، وبمقدرته الهائلة على احتمال الغموض والقفز برشاقة ومرونة يحسد عليها من فوق حواجز العقل والمنطق والتفكير العقلاني المنطقي المرتبط بتجارب محدودة وبتعميم محدود. والقدرة لدرجة التهور على سبر غور الاحداث والمواقف في سلاسة ومن دون عناء.

نظرت نحوه بعد ان وثقت من فراغ الشارع والعالم من نذر أو مؤشرات الاجابة على الاستفهامات التي تملأ فضاء الدنيا بخصوص الكوفيد19، زارنا عامل المقهى الصبي مصحوبا بنسمة هواء باردة جدا، حمل الصينية بالاكواب في تلكؤ ملحوظ، عيناه تستجديان منا طلبات اضافية أخرى، كتفاه ثابتتان مكانهما من دون اهتزاز، صديقي تجاهله بالالتفات الى الخلف والتحديق في التلفاز والفيلم الأجنبي، طلبت منه كوب من الشاي الأخضر من دون سكر، استدار الصبي مطوحا الهواء بذراعه الخالي ماسحا ببصره الزبائن القليلين المبعثرين في محيط المقهى قبل ان يختفي من على رادار عيني. دقيقتان أو ثلاثة من الصمت فروا من المشهد قبل ان استدير بكامل جذعي الى شاشة التلفاز وكانت الفتاة ساكنة في حضن الفتى وقد غابا سويا في غمار قبلة ساخنة، صديقي الفيلسوف لم يتنبه لصوتي عندما حاولت مرتين، في الثالثة استفاق واعتدل، اعتذر باسما، ” اللقطة شدتني اوي”، احتويته بضحكة صارخة، اقتربت من اذنه لعله لايغضب، روح بسرعة اتدفى في بيتكم، هاتلاقي حضن أكثر دفأ وسخونة”، اتسعت ابتسامته، تحرر لسانه من التحفظ على غير العادة، ” اللي ميعرفشي يقول عدس، مراتي عندها برد جامد واحتمال يكون كورونا، مسكينة قاعدة متململة معزولة في البيت”.

سرت موجة سريعة من التوجس داخلي لم اتحسبها، تراجعت مشاعر الراحة والابتهاج فجأة، ضبطني وقد انخفض صوتي، كأن ملامحي اختنقت، طنين من الافكار السوداء متربص للتهيج واشعال رأسي ” انك تجلس الآن مع شخص مخالط لمريض كورونا، مؤكد سلمك المرض”، انقذني من شتاتي وصول الصبي عامل المقهى حاملا الصينية فوقها كوب الشاي الأخضر والماء، كتفاه كانتا تهتزان بطريقة آلية، والفاظ غير واضحة يطردها فمه في هذا الفضاء البارد الذي تتزايد شدته. عدت الى موقعي على الكرة الأرضية، عاجلت الصبي بسؤال بينما كان يميل بجزعة يثبت الصينية فوق الطاولة ” اخبار الكورونا عندك ايه؟”، كأنه كان جاهزا بالرد ” ياباشا الناس كلها عندها كورونا خليها على الله”. لم افهم بالضبط الذي يقصده، لكن صديقي الفيلسوف المخالط لزوجته المريضة بالكورونا اشار نحوه قبل ان يستدير استدارة العودة الكاملة باشارة “اوك” الشهيرة . ووجدتني مثل آلة دارت من دون قدرة على السيطرة علي حركتها. انتصبت واقفا ومنسحبا بحركة سريعة من المكان وقد رميت كل شيء خلفى، صديقي الفيلسوف المندهش، وكوب الشاي الأخضر الذي هيأت نفسي لأن اتلذذ بدفئه، وذلك الصبي عامل المقهى النحيل الأبله، وشاشة التلفاز الغائمة في الخلف، وكل هؤلاء الاشباح المبعثرين في محيط المكان لايصدر عنهم صوت أو حركة، لم يعد امامي فقط سوى شقتي الصغيرة بالطابق الثالث في تلك البناية القديمة، والوحدة القاتلة التي تنهشني كل مساء، والخوف من الموت وحيدا بالكورونا.
يناير 2022

ساحة الإبداعأوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى