فتنة الموقف في رواية (كويت بغداد عمّان) للكاتب أُسَيْد الحوتري
بقلم: سليم النجار
( كويت بغداد عمّان) رواية من تأليف الكاتب أُسَيْد الحوتري٠ صدرت عن دار الآن ناشرون وموزعون – عمّان – قراءتي النقدية لهذه الرواية ستعتمد بشكل أساسي على التحليل الفلسفي، وذلك لاعتقادي بأن الأدب يحكي فلسفته الخاصة به، كما هو الحال التي عليه هذه الرواية، والتي تستدعي بقوة الاعتماد على التحليلات النفسية، حتى وإن كان بالطبع يستدعي توظيف باقي المناهج النقدية الأخرى٠
سأبدأ بالتنويه المذكور في بداية الرواية، حتى أوضح صورتها الأولية للقارئ بشكل جلي٠ جاء التنويه على الشكل الآتي:
“تنويه: هذا نص لا علاقة لها بالواقع، وأيّ تشابه في الأحداث أو الأسماء فهو محض صدفة، والصدفة خير من ألف ميعاد، وعلى ميعاد حنا، والفرح كنا…” (الحوتري ٩)، هذا الحضور اللازماني للحاضر، هو أكثر جذرية من التوالي الخالدة، كالصدفة التي وظفها الكاتب في التنويه، إنه الحاضر الذي ينطوي عليه اسم الوجود، والذي يلتقي عبره ما تّم وما لم يتم بعد، أو بالأحرى يستجيب أحدهما للآخر بكيفية تخالف ما نعنيه بالتوالي٠ إن الحاضر والماضي والمستقبل، إن هذه الأنماط، عوضاً أن يتلو أحدها الأخر، فهي تتعاصر، خارج بعضها البعض، في عالم لا يكون فيه الحاضر هو الآن الذي يمر، بل إنه يمتد بعيداً حتي يبلغ المستقبل الذي يستجيب للماضي٠
هو هو زمان العود الأبدي، حيث لا يحيل ما يحصل إلى أي حضور٠ فالعود الأبدي يعني ألا حاضر يستقر فيما يحصل، إذا ما رددنا ما يسرده الحوتري: “في سياق أزلي غامضٌ مبتداه، مجهولٌ منتهاه، عقارب صماء، بكماء، خرقاء لا تدري أين تسير ، ولا أين المصير، كم عدد ضحاياك أيتها العقارب الغادرة؟” (٢٣)٠
من نافلة القول أن نقول إن الرواية قد ولدت بين ضفاف “الواقعية “٠٠٠ ولا يلائمها في التصوير سوى الرؤية الواقعية، لأنها شديدة الالتصاق بالحياة اليومية وتفاصيلها الصغيرة والعادية المألوفة٠٠٠ التي تلتقطها- بتمكن- عين كاتب مثل عيني الصقر، اللتين تحلقان في السماء، لكنهما تبصران بقوة الهدف المراد اقتناصه على أرض الواقع: “استقيظتُ من النوم قبل قليل، ومازال الحلمُ طازجًا في الذاكرة التي لم تمنحني أيَّ ذكرى منذ وقت طويل٠ هل كان هذا الحلم حقيقة تذكرتُها في منامي، أم خيالاً يجود به لا وعيي عليّ رأفة منه بحالي وشفقة، أم خليطًا من هذا وذاك؟” (٩١)٠
فكأن لسان الحلم يقول: أعرف أنك، أيها القارئ، سوف تفطن إلى افتعال هذا الحلم، ولذلك دعني أخبرك قد فبركته ربما٠
حين ندقق في تحليل النص، هناك علاقة بين الحلم وفكرة الرواية التي قام بها السارد على بابها بعد أن كاد ينفذ صبره٠
ثم يقول بعد ذلك:
“-وماذا عن العين التي جعلتها في أعلى شعار الكويت بين طرفي جناحي الصقر؟ إلام ترمز هذه العين؟
-هنا ابتلعت ريقي، وبدت على علي علاماتُ الامتعاض، فلقد وقع ما كنت أخشاه! أخذت أفكِّر بطريقة أتهرب فيها من الإجابة على هذا السؤال” (٧٧)٠
وهكذا سيكف الحاضر عن أن يكون قطعة من الديمومة المستمرة، وسيتحرر من ثقل الماضي الجاثم أو على الأصح، إن الماضي هو الذي سيتحرر من الحضور لنصبح أمام “سؤال” لا زماني للحاضر، حضور لحظة منسوجة على ارضية من النسيان والنسيان كما يقول نيتشيه ” قدرة إيجابية بالمعنى الدقيق للكلمة” ممكن، وقد تغلق أو تتخفى ،الإجابة على أبواب الوعي٠
كل حاضر ما دام الكائن لن يحضر سواء فيما تم أو فيما سيجئ٠ لن يتبقى من الزمان، والحالة هذه إلا خط ما يفتأ يتجاوز خط لا بد من تجاوزه كما فعل السارد: ” وهكذا انتهت المسرحية التي عَرَضَتْ على ذلك الغلام المغوار الواقف بخط النار مشاهدَ من حياةٍ غامضة غاب عنها اليقين” (٢٤٣)٠
لذا فنحن نعجز، من هذا المنظور، عن تحديد إيجابي للخط الذي انتهجه الروائي الحوتري عن حصره وسجنه في لفظ محدد إحادي المعنى، سجنه داخل منطق الميتافيزيقا٠
ذلك أن الخط يفترض أبعاد كثيرة، يفترض أعماقاً ومسافات يعجز القارئ عن إخضاعها وقهرها٠ وبما أنه لا يقهرها، فإن الأمر يشتبه عليه كما مارس الحوتري هذه اللعبة السردية مع المتلقي: “خبيث هو صاحب اللّعبة! أَلقى بي في كهف مغلق، وترك لي كشكولا وقلمًا تبًّا لك سائر الحياة، أيُها العتلُّ الزّنيم! تربدني أن اكتب ذكرياتي أيها الحقير أليس كذلك؟ وماذا ستجني منها؟” (١١٥)٠
إن “البيئة” الإجتماعية – أو الواقع المحلي… أو الشعبي – تظهر عند الكاتب كواقع باعتباره قوة فعالة مؤثرة في حياة الشخصيات٠ ولا شك أن هذا الوصف للحوار والسؤال يمنح القارئ قدراً من الإحساس بصدق التصوير وواقعية الحدث٠ وعلى هذا يمكن القول بأن: السؤال- في عمل واقعي – يشارك في صنع الحدث أو الفعل الروائي٠
يرى الحوتري في روايته (كويت بغداد عمّان) أن الحقيقة تخفي خداعها بإظهاره في المجاز٠ ويتندب نفسه للوقوف على “مجازية الوجود” فالوجود هو دوماً مجرد مؤشر لخداع مجازي يتم عبره خلق القيم وتوايدها٠ إنه مجموعة ألوان وكتلة من الأسماء والنعوت، وما المعنى إلا بؤرة تناحر إرادات القوة٠ إذ الدليل ليس سوى الفضاء التفاضلي الذي تتصارع فيه التأويلات والقراءات: “وقت طويل مضى وانقصى، ومازلت لا أذكر عن نفسي إلا ما وَثَّقْتُه سابقًا في كشكول الذكريات٠ الذكريات منقطعة، والظلام سيد الموقف، ما زلت معزولاً عن العالم، ولا أدري أين أنا، ولا أدري ما الذي جاء بي إلى هنا فقدت الإحساس بالزّمن” (٥٧)٠
يمكن القول “اعتقد” أن مادية الرؤية للحوتري في روايته هي إداة لتبيلغ المعاني وتمثيلها، ومناسبة لحضور المعنى ومثوله٠ وهي أيضاً تعبير الدال مجرّد مظهر للمدلول، فتعطي زمانية ومنطقية- بل وإخلاقية نوعاً ما – للمعنى على الدليل، للمدلول على الدال، ومادامت الرواية مجالاً لإنتاج المعاني، وجسم تقطنه روح النص، ومادامت قنطرة وتعبير، فلا يصح الدليل إلا مناسبة لا ستحضار المعنى الأصلي المستقل عن كل عملية إنتاج٠ أكان ذلك المعنى قد وجد في عالم مفارق، أو كان محتوى ذهنياً أو مقصد ذات تعطي للموضوعات معانيها، كما فعل أُسَيْد الحوتري في كتابة عنوان روايته (كويت بغداد عمّان)، ذلك أن العنوان لا ينحسر فحسب، في كونه وسيلة تعبير وتمثيل وتبليغ، وإنما في كونه أساساً أداة حفظ المعاني وحمايتها ضد عبث الأقدار وفعل الزمن٠
إن رواية ( كويت بغداد عمّان) لكاتبها أُسَيْد الحوتري لا ترى النص نسقاً يفيض بالمعاني ولا الدليل تكثيفاً لعدة تأويلات، فضاء تفاضلياً، وإنما رؤية وكلمة ولفظ لتوليد المواقف، التي تبدو لي إنها فتنة مواقف، لكن في نفس الوقت لا تسجن هذه الفتنة في جسم النص وتلطخ المعاني بمادتها، إنها فعل حدس يستمد يقينه بما يريد استنباطه وإستدلاله من رؤى أراد طرحها على القارئ٠