
في مسرح الوجود، لا يقاس الإنسان فقط بما يقوله أو يفعله، بل أيضا بما يخفيه ويتركه معلقا في فضاء الغموض. فالمسافة بين ما يرى وما يستتر هي التي تصنع الهيبة، وتجعل للذات عمقا أكبر من حدودها المرئية. ومن هنا كان الغموض جزءا من معادلة القوة، لا خصما لها.
الغموض في منطق ميكافيلي ليس ضعفا في الوضوح ولا عجزا عن التعبير، بل هو أداة للسلطة ووسيلة للهيبة. فحين يظل الإنسان محاطا بالالتباس يكتسب هالة تتجاوز حقيقته، لأن الآخرين لا يتعاملون مع واقعه المكشوف بل مع تصوراتهم عنه. إنهم يملأون فراغ الغموض بخيالهم، فيرونه أعظم وأقوى مما هو عليه بالفعل.
أما الصدق الشفاف، رغم ما يحمله من طهارة للضمير ونقاء للنفس، فإنه يعري الإنسان من سلاح الهيبة. يكشفه في صورته العادية، فيتآلف معه الآخرون حد الابتذال، فلا يعود مهابًا ولا غامضا، بل مجرد حضور مألوف يمكن استيعابه بسهولة.
هنا تتجلى فلسفة السلطة، أن ترى أكثر مما تمسك، وأن تفهم أقل مما تفسر. فالمعرفة الكاملة تفقد السحر، بينما المسافة تولد الاحترام. في علم الاجتماع يعرف ذلك بآلية الغموض الجاذب، حيث الغموض لا يضعف العلاقة بل يقويها عبر إشعال خيال الآخر.
ولا يقتصر أثر الغموض على السلطة السياسية أو الاجتماعية، بل يمتد إلى أعمق الروابط الإنسانية. ففي الحب مثلا لا يزدهر الشغف إلا بقدر ما يبقى هناك سر لم يكشف بعد، ولغز يثير الفضول. إن المسافة العاطفية الدقيقة بين الحضور والغياب تصنع التعلق أكثر مما يصنعه الإفصاح الكامل. حين يعري أحد الطرفين ذاته تماما يتحول الحضور إلى عادة، والعادة تفقد بريق الاندهاش، في حين أن بقاء بعض الأبواب مغلقة يبقي للعلاقة روح المغامرة وسحر الاكتشاف.
وهكذا فإن الغموض ليس جدارا يشيد بين الناس، بل جسرا يمر عبر الخيال. هو الذي يحفظ للآخرين لذة التوقع، ويمنح للذات حصانة من الابتذال. ومن هنا يمكن القول إن الإنسان لا يحب بصدق إلا إذا ظل محتفظا بجزء من ذاته بعيدا عن الأعين، ولا يهاب بحق إلا إذا بقي عصيا على الفهم الكامل .
الغموض ليس عيبا في الإنسان ولا علامة ضعف، بل هو ثروة خفية تحفظ له مكانته بين العيون والقلوب. فكلما احتفظ بجزء من ذاته بعيدا عن الانكشاف، ظل أكبر من أن يبتذل، وأعمق من أن يستوعب بسهولة. إن ما يبقي الاحترام حيا هو المسافة، وما يحفظ الشغف متجددا هو السر، وما يمنح الإنسان هيبته هو أن يبقى دائما لغزا لا يفسر حتى النهاية. ومن يملك أن يبقى سرا، يظل دائما أوسع من المعنى وأكبر من أن يختصر.
د. هبة العطار