ساحة الإبداع

أحمد شوقي يكتب زوج من الأحذية

كانت هولندا هى البلد الرابع الذي أعيش فيه بعد براغ ولُبُنان ، أعمل فى النهار كالحمار وأتجول فى المساء بين البارات والنوادى الليلية والندوات ومعارض اللوحات ، وأشرب.. أشرب كثيرًا ولا أثمل ، فى تلك الليلة دخلت إلى متحف فان جوخ ، وقفت أمام لوحة زوج من الأحذية تفحصتها جيدًا أطلت النظر فى الحذائين ، خلتهما جثة تتحلل ، كدت أشم رائحة تحلل الحذاء من خلف إطارها ، الأربطة المتناثرة اعتباطيًا ، التجاعيد على وجه الحذاء الأرضية القذرة ، يا لبؤس هذا العالم حين نراه بعيون أرنست فان جوخ ، كنت شاردًا فى تفاصيل اللوحة وألوانها البائسة ، وجدت يدًا تربط على كتفي ، أعرف تلك اليد وتلك اللمسة ، قبل أن أستدير لأقبلها انهمرت دموعى كشلال بلا توقف ، هرولت دون أن أستدير إلى الحمام ، فتحت المرحاض..

تقيأت، عروقي في حالة تيبس تام ، كنت أخشي أن أنظر إليها أن يكون ما حدث هلوسات غير حقيقية ، فتحت صنبور المياه وجففت دموعي ومسدت شعري وشاربي وخرجت ، وجدت ظهرها الأبيض العاري المتلألأ من الدانتيلا السوداء ، هى فريدا كما عرفتها ، إزداد جسدها نحولًا ، عروقها أصبحت أكثر بروزًا، اقتربت منها احتضنتها وجهًا فى ظهر ، احتضنتها بقوة ، شعرت أن سنوات من العذاب والعتاب ذابت مثل نتدف الجليد فى أمعاء عليلة ، أنفاسها دافئة، مازالت قادرة على التوهج على التلألأ مازال شيئًا بداخلها عائش غير ميت ، وأنا عيونى ذابلة ، أنظر حولى كطفل فقد ثدي أمه ، يداي ترتعشان ، أذنى قلبي يرفرفان ، الدم يتخثر داخل أوردتى ، همَست فى أذنُها أننى لأزال أحبها ، لم تنطق قبلت بطن كفي برفق … سحبتني معها كموج بحيرة هادئة وأنا مستسلم تمامًا …

فى شقتها كل شيء متناثر على الأرض صفائح البيرة ، أوراق الجرائد ، بقايا الطعام ، ملايسها التحتية ، عدسات الكاميرا ، إلا أن رائحة الشقة غير منفرة ، رائحة عطرها تعبىء المكان ، جلست على أحد الكراسي البلاستيكية فى ركن خافت ، ضممت قدماى من البرد ، نظرت إلى باسمة وقالت هل أصبحت كهلًا بهذه السرعة مازلت لم تتجاوز الأربعين يا مراد ….ابتسمت لها وبداخلي فوضى من الكلام محتقنة ، كنت أريد أن أقول أن العُمر لا يقاس بالسنوات ثقالًا أو خقاقآ نحن نكبر عندما يكُف القلب عن الضحك عن الصخب عن اللهو عن المرح نحن نكبر إذا عشش الحزن داخل القلوب وفى محاجر العيون ، نحن نكبر عندما تتبدد الأحلام وتتبخر ، عندما نفقد الشغف ، ولكن وجدتنى أقول كبرت وغزى الشيب لحيتى ورأسي عندما رحلتى عني يا فريدا احترق فلبي كنت أستطيع أن أشم رائحة الدُخان بأنفي أصبحت كالنار التى تحمل وجيعتها معها أينما حلت !

وجدت ضوء خافت أحمر يخرج من أحد الأبواب ، استئذنتها فى الدخول إلى حيث ينبعث أشارة إلى بسبابتها أن لا مانع وجدته مكان صغير مليء بالصور ، استوقفتنى صورت فريدا وهى تقبل امرأة ، امرأة تشبه الغجريات ، مجعدة الشعر لها حاجبان طويلان كثان ، وعيون سوداء وذقن مدبب وأنف مسحوب طويل قليلًا ، كانت تقبلها بشغف بحب حقيقي ، سألتها هل هذه عشيقتك ، سحبت الصورة من يدى وهى تضحك ولم تحدثنى عنها ، نبشت بين الصور وأصابنى ذهول عندما رأيت طفل إفريقي يحنى رأسه فى حقل جاف وضلوعه بارزة وصقر فاردًا باعه فى الفضاء فى وضع انقضاض على الطفل الذى سيكون فريسته بعد لحظات ، احتقن وجهى بالدماء ، سألتها ، هل مات هذا الطفل ولكنها صمتت لم تقُل شيئًا وبعد لحظات سألتنى عما إذا كنت أريد أن أتناول معها حساء الفاصوليا وشريحة من لحم البقر ، أومئت إليها برأسي أن لا مانع ، دخلت إلى المطبخ وبدأت فى إعداد العشاء ، وأنا شارد فى مصير هذا الطفل المسكين ، فى بؤس هذا العالم ، فى اللاشيء …

أكلنا وشربنا النبيذ وتعاركنا وتصالحنا ومارسنا الحب وكأن السنوات لم تمر وكأن كل ما كان حُلم وكأنها سنوات ابتلعها ثقب أسود كنستها جوارًا كُنس .. فريدا هى المرآة التى أري فيها النصر والهزيمة الكبرياء والخيبة ، أري فيها نفسي عارية مجردة ، نقطة فى دائرة ، فريدا هى نقطة التحمل واللاتحمل معًا…

بعد ثلاثة أيام افتتحت معرضها ، ونالت صورة الطفل الأسود جائزة هولندا فى الصحافة التحقيقية ، انتشرت الصورة فى العالم انتشارًا واسعآ ليس فقط لدقة صنعتها ولكن الصورة كشفت عُري الحضارة وفضحت مدى تخنثها ، الحضارة الأوربية كتمثال مخنث ، ليس له هوية ، صعدت فريدا إلى المنصة للتحدث عن أسفارها وعن المآسي والمهازل وعن وعن …

المسرح مُكتظ بالبشر أنفاسهم متداخلة همهماتهم رائحة التبغ ، ضباب الضوء ، اختنقت هرولت مسرعآ فتحت المرحاض كالعادة وتقيأت ، إتختلطت رائحة القيء برائحة العرق ، أطرافي باردة ، نبضي متسارع ، شيء ما أخبرنى أن فريدا لم تعد كما كانت أن فريدا الراحلة مازالت راحلة ، أن العائد دائمًا عائد من الموت وإلى الموت ، خرجت إلى حديقة المسرح أشم الهواء ، مسدت شعري المتناثر فى الهواء بيدى وأشعلت سيجارا وقررت أن لا أراها مرة أخري ، شيئا ما فيها أصبح غير حقيقي ، لا أعرفه علي وجه اليقين ولكنه ظن كاليقين ، تعودت كما قالت لى أمى أن أصدق قلبي فالقلوب لا تكذب مهما حدث …

ساحة الإبداعأوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى