دراسات ومقالات

نجلاء أحمد حسن تكتب تدريبات على القسوة تكشف زيف المجتمع

قراءة في فلسفة عزة سلطان

تطل علينا المبدعة عزة سلطان بكتابة روايتها الجريئة الصادمة تدريبات على القسوة في عنوان يحمل معاني فلسفية غاية في التميز. فلكي تصبح قاسيا، يلزمك أن تخضع للتدريب عليها لتكون بطلا في لعبة القسوة ،وتتبارى بين القساة لتصبح أحد الفائزين بلقب القسوة والقاسي، ولكن من هم المتدربون، ومن هو المدرب ، وما خبراته ، وما نوع تلك التدريبات؟ وما هدفها ؟ولمن توجه تلك القسوة؟ تلك تساؤلات تجيب عليها تلك الرواية ، التي تدهشك بألفاظها الجريئة تارة والخادشة للحياء مرات عديدة لتكشف لنا عن فلسفة ؛لا يتطرق لها إلا من كان متنورا جريئا ،في كشف حقائق ترسخت عبر عقود طويلة في عقول أفراد مجتمع ضد النوع، ونحو التمييز ضده ، فعل هو في حقيقة الأمر إحدى عجائب الله في خلقه

الجنس هو حيلة عظيمة للتواصل والعشق الإلهي لكن الناس لا يدركون ذلك يعدونه حاجة بيولوجية أو حتى شبقا ، أو مجرد متعة، لكن أحدهم لم يتوقف ليرى الله الخالق الذي يخلق مخلوقا جديدا مرورا بهذا الفعل الذي ننعته بالجنس ، هذا الجنس الذي يبدو كمعبر لتكوين الإنسان الجديد ،وحده قادر على عبور الإنسان من وحدته لوحدة أعمق ، يؤهل الآخرين للإلتحام بشريك جديد تختلط رائحتهما وعرقهما معا وتمتزج أجسادهم في أدق التفاصيل في لحظات قوة ، لكننا تربينا على كونه دنسا ، والطهر ينبع دوما من عمق الدنس ، ليراه الجميع. في النهاية مدنسا .

عندما أحبت العاهرة وكيف تكون النساء بغايا .وكيف يصنع المجتمع ، -عهر الفكر، عهر الضمير مرورا بعهر الجسد فكرة صدامية تصدم المجتمع بقوة
كيف كانت تجاربها لاختيار مهنة العهر بإرادتها؟ وكيف هو عالم العاهرات الخفي ،عزة سلطان اختارت كل ما هو محظور؛ وكل ما هو مسكوت عنه ؛وكل ما هو خادش للمجتمع، وكأنها تقوم بتعرية المجتمع الذي ظاهره الاتزان لتظهره باقتدار، بأنه مجتمع النار تحت الهشيم ومجتمع الزيف والقسوة والخداع ولكن تأتي الإشكالية

الكاتبة والباحثة نجلاء أحمد حسن
الكاتبة والباحثة نجلاء أحمد حسن

لمن كل هذا الزيف ؟ وماذا سيجني المزيفون ؟وكيف يصدق المزيفون بعضهم ويصدقون زيفهم ؟ بل ويصبح حقيقة عنوان حياتهم ، وأنهم طوال عمرهم يمارسون ما هو أقبح من العهر وماهو أشد حقارة من الرزيلة، وهو سلوك الكذب والزيف والخداع ويضعون عناوين لهم تتشدق بالعفة والمصداقية بل ومحاربة ومحاسبة من تظهر عليه تلك الحقائق، وهي كل ما يمارسونه في الخفاء ،الجميع يكذب ويتصنع ويخدع نفسه بالصدق والطهر والتدين ؟وهو في نفس اليوم يعيش ليال حمراء وينفق الفرد منهم تحت أقدام العاهرات ما يسد جوع أبناءه.
تقوم المبدعة عزة سلطان بتشريح الحالة باقتدار؟ وبمكاشفة جريئة أسباب تلك الظاهرة والتي تبرزها وتشير بأصابع الاتهام الى سلوكيات أهم وحدة في المجتمع وهي الأسرة.

فكل أحداث القصة تتمحور حول ماذا لو لم تستضيف الأم صديق أبيها الذي يصغره بسنوات ؟ماذا لو لم تتعرض البطلة لأول موقف صادم لأهم القيم الإنسانية في حياة الابنة وهي الأم وأهم عصب في حياة الأب وهو أخيه وعم البطلة، الذي يمارس حياة الزيف والعهر مستترا بسلطته كأحد محارم الأسرة والسند وهو العم . ماذا لو لم تلتقي بمقدمة البرامج الصديقة التي تعرضت للغدر منها وهنا نجد الصديق متحولا الى طعنة في صميم القلب .
تتحدث عزة سلطان عن نظرتها المبدئية للعالم وكيفية صناعة العاهرة منذ الصغر من نسج الأم ، وكأنها ترسخ لأفكار تناظر العالم ،على تحديد أدوار المرأة في الأسرة وفي مجتمعها، فرسالة الأم هي السلام وغرس الثقة بين الفرد و الأسرة ليواجه العالم بتلك التربية ،أما تجربة بطلة الرواية فهي تشير الى حالة الكراهية التي زرعتها الأم في قلب ابنتها نحو العالم ، فلم تكن مهتمة بها بل تركتها الى البيوت تتقاذفها عاداتهم وثقافاتهم وأفكارهم وسلوكياتهم ،حتى اصبحت نصف أمرأه ونصف إنسان، بلا أدنى حيلة. وفي موضع آخر قسوة الأب فنجد صفعة على وجهها لتحطيمها حلمه بأن تصبح طبيبة ودخولها كلية العلوم

بين ذلك الزخم يظهر عمها الذي يتحرش بها نائمة من الخلف وهي لا تعلم شيئا عن الجنس سوي
القبلة ( كان ينبغي لنا ياليلى أن نتعلم القسوة من أولئك الأمهات كان قلبي يتغير. لونه الى السواد ببطء وكنت تمسكين فرشاة حكاياتنا وسخطك على العالم تكونين بها قلبي تدرسين لي. يأسك وإحباطي كنا نتبادل الحب ياليلى ومعه تنبت الكراهية للعالم )
وتنقلنا الأديبة عزة سلطان الى البيئة الثانوية المؤثرة في حياة الفرد، وهي ماكينة الإعلام التي تسوق لحياة العهر بسرد حياة إحداهن التي تصبح إحدى نجوم المجتمع ،من كونها ممارسة للعهر، وحياتها البراقة المغازلة للصغيرات من الطبقات المهمشة لتصبح القدوة في حياة احداهن، وتطرح سؤالا غاية في القوة ، لماذا انتصرت السينما لفتاة الليل فتحولت من مومس لخضرة الشريفة،

الفكرة التي نقلتها الأديبة عزة سلطان، في إشكالية الصراع النفسي في ممارسة الجنس لدى العاهرة المثقفة القارئة ، وحالة التناطح بين العاهرة ومن يمارس معها الجنس ،في كونها هي التي تستخدمه وتخضعه هي لرغباتها وليس العكس وأن تكون النسوة فاعلات وليس مفعولا بهن.
ص٥٣ قامت المؤلفة بإلقاء الضوء على أدوار جسدت المثلية في الفن بالأفلام السينمائية ورصدت نماذج شتى لتلك الظاهرة المتفشية في المجتمع من خلال الدراما المرئية.

إحدى تلك القضايا الشائكة التي ناقشتها عزة سلطان، وهي نظرة المجتمع المحدودة لموقع ومكان الشرف ، لدي المجتمع وان تحمل المرأة طوال عقود طويلة شعلة الشرف والطهر والعفاف، لمجتمع بأكمله متخلصا ببقاء البكارة في مكانها دليلا قاطعا على العفة، رغم ممارسة العهر بمقابل سواء هدايا أو خدمات أو بمقابل مالي واضح وصريح متفق عليه لإتمام الصفقة بسلام
إن المجتمع الذي تخونه فكرة التقمش والتغطية والستر لجسد المرآة، أصبح نوعا رائجا لإخضاع تحولات الموضة الى محاكاة ألوان الجسد، تحت الملابس العارية، فأصبح العري للجميع والخداع للعيون أصبح سمة ،( تعجبنا الفتاة المنقبة ،ولا نرى كونها متلصصة علينا جميعا ، ترى في عري الجسد محاولة للإغواء ولا نرى في النظرات المتلصصة شرك الغواية، هكذا تربينا متسطحين لا نرى أبعد من أقدامنا .)

تبحر بنا عزة سلطان عبر روايتها الجريئة جدا تدريبات على القسوة الى قضية إن يصبح العنف والضغينة والكيد من المرأة الى المرأة ضمانا لمصلحتها، فهي تخطط لها الشر بشكل واضح تكيد لها تحت مفهوم خاطي للنصوص الدينية المقدسة الذي صرح بما لا يدع للشك بأن كيدهن عظيم يكفي ظهور رجل لقيام الحروب، ألقت الضوء بأن العهر للجميع اشترك فيه الرجال مع النساء سواء بسواء، فمثلما تمارس العاهرة العهر تواجد الرجل ممارسا لنفس الفكرة، ونفس المهنة بنفس التفاصيل بنفس الظروف ولكنه يحتفظ بحماية المجتمع الذكوري بأنه رجلا، وليفعل ما شاء ويتم غض الطرف عنه وصب اللعنات للمومس فقط لأنها إمرأة،
كما عبرت عزة سلطان بصفحة 296 (تحمل الدنس الوجود مخلوقة من ضلع أعوج سبب مقتل قابيل وخروج ادم من الجنة والمتسببة في حرب طروادة ، ومغوية يوسف وعيسى، ومن رحم ربي ، ونسينا نساء العالمين الطاهرات سقطت من ذاكرة الجمعية كل مميزات الأنثى وفي لحظة لم تعد سوى وعاء للدنس يأتي مدنسا بالدم ) ويعيش في ذاكرة المجتمع فكرة شيطانة المرأة وأن تكون الأنثى مومسا محتملة طوال الوقت.

وتسرد المؤلفة كيفية إيقاع البطلة بضحاياها تحت ضغط، حالة الملل وحوارات تدخلها بين طاولات المترددين على المقهى بعضهم يستضيفها بلا اي مزاولة جنس، بل كانت تسيطر عليه. ولا تسمح له إلا بإرادتها ( قصة شقة وسط البلد)
تتساءل لماذا نحن منفصلون؟ تحكي عزة سلطان عن إشكالية انتقال الثقافة عبر الكروموسومات، فالخوف انتقل وتسرب للوعي فهو يفعل شيء ويخفيه خوفا ، ويمرره ذلك السلوك من أحدهم ويشجبه ويستنكره رغم انه فعل نفس الفعل ولكن فالخفاء ،وهو أسوأ أنواع الثقافة.
مثل موقف المثقف من المرأة يقف متشدقا بحريتها في التعبير،وهو يمارس غير ذلك مع امرأته ولا يعنيه إلا تحرر الأخريات جسديا (قصة سائق التاكسي الذي يقدم بنت بلده وجبة سهلة بمقابل للثري الخليجي ) فقط لجني المال السريع ولا يهمه شيئا أنه، يمارس مهنة تسهيل الدعارة ،فقط للدعارة نفسها بل ويقنع نفسه بأنه لا يفعل شيئا فهي بطبيعة الحال مومسا متمرسة.
وموقف نوع آخر من الشخصيات وهو المثقف الباحث عن المتعة ولديه معرفة بتاريخ تلك المهنة الضاربة في جذور التاريخ ولديه منطق الحديث والفعل سواء بسواء

اشكالية وتساؤلات الرواية
كيف تكون المثقفة عاهرة؟ والعاهرة مثقفة ما قيمة التسامح إن لم تتعلم الخطأ وتستمر في تكراره
تحكي عن أنواع الرجال، منهم الذي يضن ومنهم من كان أميرا ومنهم من كان متصوفا ،عابدا مصليا سمحا ولكنه محبا للخمر والنبيذ ويدس لها أموالها في حقيبة يدها، وهو المفاجأة التي صنعتها الرواية في آخر مئة صفحة منها (خمسة أشهر بدون ممارسة جسديا.، هي المعرفة التي تنامي وتأثرت بشكل مذهل ،المعرفة شقاء الوعي يقتل كل متعة وينهي كل راحة تعتمد على الكسل والخمول دعائمها المعرفة . بتفاصيل الجوع الى إرضاء هذا الجسد الذي عرف احتياجاته وغايات يطلبها )
تظهر لنا عزة سلطان ماهو مصير المومس بعد أن تمر الأعوام تظهر الجانب القاسي لحياتها فقد انحسرت الأمنيات، ولم تجني زواجا أو حياة أسرية ولم تحتفظ بطفل، لا تعلم أي رجل عاشرته؟ لتنسب الطفل له ،وحتى هذا الطفل الذي قد فقدته كان من المفترض أن يكون سندا لها إن استقامت حياتها وإستطاعت التخلي عن تلك المهنة المشئومة، فباتت تعاني الوحدة وأصبحت مدمنة لممارسة الجنس، ولم تجد لها مسارا شرعيا يؤطر تلك العلاقة وأن تكون مدخلا مجتمعيا وعنوانا شرعيا للحياة السوية.
وفي صفحة 262 تسرد حوارا غاية في البؤس والشقاء وهو شعور الوحشة والوحدة القاتمة (عشت وحيدة لسنوات كانت الوحدة صديقتي ،أتحرك متنفسة هواء لم يمر برئة أحد غيري، ولن ينتزعه مني أحد أدخل الى المطبخ أعد قهوتي وأدشن صمتي بأحلام يقظة تمد من عمري ،وتحقق أحلامي الوقت ثقيل تعلم صوتي التمرد باتت حروفي تخرج بصعوبة فأول كلمة أنطقها بعد ساعات الوحدة)
اثناء القراءة لرواية تدريبات على القسوة نجد المؤلفة عزة سلطان ، لا تستطيع في كل صفحة إخفاء شغف قراءة الكتب لدى البطلة فنجد أنها استعانت بكتاب (إمرأة برتبة رجل لأندرية جيد ) مفسرا الشذوذ يفسر عادة بأنه عمل غير طبيعي ومن السهل بمكان فهم كلمة غير طبيعي ،عندما يحس الإنسان بميل غريزي قوي نحو ما هو طبيعي، ويأتي الفهم السيكولوجي للشذوذ هو حكم عملي مناسب لكنه لا يبدو مصيبا

وهو ما أسقطته المؤلفة عن علاقتها بصديقتها المثلية التي عاشت معها سنوات في شقتها مستضيفة لها ولم تحكي أنها تملك الشقة بالفعل وإنتهت تلك العلاقة العجيبة بطردها من حياتها بعد ان تنبهت لخطة الراوية الشريرة ، بالكيد لها وحرمانها من ممارسة العهر شهورا بإحداث جرحا لها في مثلثها الحساس أثناء إحدى تلك الجولات الشاذة بينهما فقط كيدا لها وضغينة
تحكي المؤلفة حالة الإدمان على الجنس سلوكا ومهنة وحالة الحيرة بعد أن قررت بطلة الرواية الإقلاع عن تلك المهنة ولكن بعد،ثمانية عشر عاما ساعدها ادخارها مبلغا ماليا لتعيش حياة كريمة ؛فنجدها رغم ذلك المال المدخر تحن دوما لممارسة اللعنة وان فكرة إيقاع الزبون، واختيار الفريسة وابتكار ألعاب جديدة معه، متعة لا تضاهيها متع أخرى ، تستسلم بطبيعة الحال الى حالة الاكتئاب بعد أن أقنعها نحول الجسد وظهور بصمات الرجال التي أحالت جسدها الى الحزن الشديد.
فلسفة الجنس عند عزة سلطان آخر الرواية

وفي خاتمة الرواية تظهر لنا عزة سلطان فكرة الرواية الجريئة والكاشفة لأدق تفاصيل مهنة اللعنة والشؤم ، وهي ظاهره المتعة والمال، وباطنه الفقر واللعنة والشؤم ، وهي أن المومس هي أكثر البشر وضوحا وصراحة تكشف للجميع عن وجهها بل وعن جسدها كله وإنها دوما في حاجة ملحة للحياة وفي ممارسة السعادة والتمتع بالدنيا ولكن في صيغة مغايرة ،وكيف ان الرجال يستمتعون با
اصطيادها كصيد ثمين يجزلون لها العطاء كزكاة لتطهير أنفسهم من دنس تلك العلاقة السامة، لتعاني هي واقعا محتوما بأنها في يوم ستموت وحيدة متعفة تدل الجميع عن وجودها بتلك الرائحة جراء حالة الوحدة التي تصل لها.
تلك الشخصية المتميزة بين العاهرات التي سردت تفاصيلها المبدعة عزة سلطان لتجد نفسها أقل من مومس وأقل من شريفة وأقل من مثقفة ،أصبحت كعروسة ماريونت خشبية بلا حياة تحركها عادات وتقاليد المجتمع ؛وعندما قررت التمرد على تلك الحياة لتهجر حياة مجتمعها بكل تناقضاته وعوراته ؛ فاحترقت ساقها واضطرت للرجوع لقيده مرة آخرى بتلك الخيوط التي تمردت عليها، وأصبحت مومس عرائس ماريونيت الجنس.

 أوبرا مصر  – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى