الأديب القدير إبراهيم عبد المجيد يكتب باب عشق.. رحلة الروح والمادة.. صراع لا ينتهي

إبراهيم عبد المجيد
تشجعت رغم صعوبة الخروج لرؤية مسرحية “باب عشق” في مسرح الطليعة . شجعني على ذلك أنها من تأليف إبراهيم الحسيني ولقد فازت عام 2021 بجائزة ساويرس في الكتابة المسرحية. ومن إخراج حسن الوزير صديق العمر في وزارة اثقافة والهيئة العامة لقصور الثقافة أو الثقافة الجماهيرية كما لا زلت أقول، والذي قدم لنا أعمالا جميلة. كذلك شجعني أنها في مسرح الطليعة وفرقته التى يشرف عليها المخرج عادل حسان كما يقدمها البيت الفنى للمسرح الذي يشرف عليه المخرج خالد جلال. إذن فأنا في رحلة مع التجريب الذي وراءه هذه الأسماء ووراءه تاريخ مسرح الطليعة. مسرح الطليعة تاريخ يطول الكلام فيه رأيت فيه عبر السنين عشرات المسرحيات منها مسرحيات المونودراما، وصار ممثلو المسرحيات نجوما في السينما والدراما التليفزيونية مثل محمود الجندي وأحمد راتب وأحمد عقل ومحمود الحديني وعبد العزيز مخيون ووفاء صادق وسهير المرشدي وصبري عبد المنعم وأسماء كثيرة. كما أن رحلة المخرجين الذين قدموا عروضهم عليه كبيرة وعظيمة مثل فهمي الخولي وسناء شافع وسمير العصفوري وناصر عبد المنعم وتامر كرم وانتصار عبد الفتاح وغيرهم. كنت أعرف أني سأتذكر صحبتي مع المخرج المسرحي الراحل سامي صلاح إلى مسرح الطليعة أو إلى المسرح القومي، التي بعدها كنا نسهر في مقهى متاتيا، ثم نعود سيرا على الأقدام إلى بيتنا حين كنا نسكن معا، أو إلى بيتينا بعد أن صار لكل منا بيت مستقل. وجدت كما توقعت زحاما من الجمهور، وهذا أسعدني جدا فلا يزال لدينا من يحب المسرح، وكانت معي زوجتي و الصديقة الكاتبة الروائية رباب كساب، وكان من محاسن الصدف لقائنا بالدكتور هشام السحار الطبيب والقاص وكاتب المسرح. وجدت المسرحية غنائية وتعد هذه هي الثانية التى رأيتها خلال الشهور الثلاثة الماضية. الأولى كانت “ولا في الأحلام” علي مسرح سينما قصر النيل وكتبت عنها وقتها.
مسرحية “باب عشق” تقوم علي حكاية من التراث العربي حول فتاة جميلة تسمي “دعد” ابنة أمير من أمراء نجد، كانت شاعرة وتحب الشعر. طلبت من أبيها أن لا تتزوج أيا من الأمراء، بل من شاعر يملأ قلبها وروحها. تسابق الشعراء ونظموا القصائد ومن بينهم شاعر من تهامة اسمه “دوقلة المنبجي” أخذ طريقه إليها فقابل في طريقه إعرابيا كان يتطلع إلي الوصول إلى الفتاة. أعجبته القصيدة وأغراه الشيطان أن يقتل دوقلة ويذهب بالقصيدة إلي أبي دعد الذي يقربه منها، لكن دعد تكتشف كذبه من لهجته فهو ليس من تهامة كما يقول في القصيدة، بينما الشعر به ما يشير إلي أن الشاعر من تهامة، وأهدتها فراستها أنه سرق القصيدة وقتل صاحبها فأمرت بقتله. الحكاية متواترة في كتب التراث وهناك دراسات عن القصيدة تقول أنها أصلا ليست لدوقلة المنبجي، بل لذي الرمة، وهناك دراسات تقول أنها ليست لهما. المهم أنها اشتهرت في التراث بالقصيدة اليتيمة فلم يعرف لصاحبها غيرها ولم يعرف صاحبها!. هذه حكاية القصيدة بإيجاز لكن المسرحية اتسعت وجعلت من الحادثة موضوعا عابرا للزمن، فأمامنا ابنة الأمير يكاد يتقاتل الأمراء عليها والوزراء، بينما هي تصر على الزواج من شاعر . نحن هنا أمام مسيرة الروح والمادة، فهل ستنجح “دعد” في الوصول إلي الروح بعيدا عن المادة التي يمثلها الأمراء والقيادات . يبدأ العمل الدرامي ويتطور من مشاهد في حانة وفتيات راقصات وأغاني، ويتنقل إلى الواقع حيث يوجد سادة وعبيد وما يرتبه أحدهم لقتل الشاعر عن طريق عبدِه بينما العبد يريد أن يكون ذلك طريقا لحريته. طبعا يفشل العبد في القتل ويسبقه قتل الشاعر عن طريق شخص آخر هو البدوي الذي قابله في الطريق واسمه ” غيلان” ورغم أن الشاعر طلب منه أن لا يقتله، وأعطاه القصيدة وحذره من قتله فسيطارده فعله، يقوم البدوي بقتله. سنرى كيف حين يقابل غيلان القاتل الأميرة، يشخص حالة المطاردة النفسية له من ضحيته وهو يتحدث، ويسقط أحيانا على الأرض ثم يستكمل الحديث. الحقيقة أن تجسيد المشاعر في الأداء الدرامي مذهل حتى أن السياف المبتسم دائما بشكل ينم عن روح سادية يضعف في لحظة ويهتف ” ماذا أنت فاعل بنا يا الله ” في مشهد مثير جدا لمشاعر المشاهدين يكاد يكون نقطة فاصلة في المسرحية ذات الفصل الواحد، يبشرهم أو ينذرهم بالقادم رغم أنه قد يكون سبب الهتاف عدم رضائه عما حوله. كل هذا وغيره يعطي الدراما إيقاعا قويا في الوقت الذي يتداعى الشعراء فتقابلهم “دعد” والسياف يفتح الباب لهم في حضور أبيها الأمير فيبدون سذج بلهاء لا توافق على أحد منهم بينما يتصارع الأمراء ومنهم من حاول خطبتها مرتين، ولا يقتنعون أبدا أنها ستتركهم، ويريدون قطع كل طريق على الشعر والشاعر. بين ذلك نعود إلى الغناء من بنات الحانة وشبابها وصبوات الراقصة والمغنية ، فيتسع الأمر ويبدو واقعيا يمكن حدوثه، وفي كل ذلك يقدم الفنانون أجمل مالديهم في الحركة والغناء، مثل ماهر محمود الذي قام بدور دوقلة أو أحمد حسن الذي قام بدور طاهر والذي كان يعد عبده بالحرية لو قتل الشاعر، واسلام البشبيشي الذي قام بدور العبد هارون بإتقان جميل فائق، والراقصة شهد التي قامت بدورها مي زويد والمغنية سلمي التي قامت بدورها شيماء يسري والوزراء والقادة مثل محمد صلاح وزير البلاد ومحمد جاد الذي قام بدور القائد جلال فأبدعا في الحركة والتعبير ، وبينهم خالد العيسوي الذي قام بدور راشد السياف وكان حضوره رائعا رغم قلته كذلك بسمته التي تشي بالقتل للقادة والوزراء. كذلك جذبنا غيرهم مثل دنيا عوني في دور مأمونة ومحمد دياب الخطيب الشاعر الضاحك المضحك أو محمود جمال الخطيب الشاعر الذي لا يسيطر على اهتزاز جسمه بشكل يضحكنا وينذر برفضه ، وغيرهم تفاوتت أدوراهم بإتقان جميل. تتغير المشاهد بشكل مقنع لا يبعث على الملل من الحانة إلي بيت الحاكم إلي الصحراء في ديكور أشبه بالتجريد، يعطي إشارة من بعيد للمكان وكأنه في كل زمان، وهو ما يعكس جهدا رائعا لمنفذي الديكور وواضع الموسيقى محمد حسني، والغناء والشعر للشاعر الكبير درويش الأسيوطي ومصمم الاستعراضات محمد بحيري وطبعا المؤلف ابراهيم الحسيني، ووراء الجميع المخرج حسن الوزير الذي جعل العرض يمضي كأنه في دقائق رغم أنه تسعين دقيقة ، حيث أخذنا الموضوع وتطوره الدرامي والأداء ووضعنا فى قلبه بلا مط أو تطويل. صارت المسرحية ليست حكاية أميرة وشاعر تم اغتياله، لكن صارت عن الروح التى تريد الأميرة ان تتسع للكون، في مواجهة المادة بما يمثلها من رجال السياسة والمنفعة. هكذا ابتعدنا عن الحادثة كما وردت في كتب التراث، ودخلنا في حياة البشر عبر التاريخ التي لا تزال الروح فيها مهزومة، رغم أن المسرحية تنتصر لها من باب التفاؤل والأمل.
المسرحية ناطقة باللغة العربية لا تبتعد عن قدرة المتلقي، فلغتها معجونة بالأحداث وليست قائمة بذاتها، ولا خطابية تجنح للمواعظ، ولا تبحث عن بلاغة مستقلة عن بلاغة المشهد والتعبير في الأداء . كثير جدا من الأداء الحركي والجسمي للراقصة مثلا أو المغنية أو للشاب القاتل للشاعر الذي لا يتوقف جسمه عن الارتعاش بشكل مثير وكذلك القادة، وتعبير الشخصيات عن قلقها أو فرحتها بجسمها يجعل اللغة طيعة تصل إلى القلب والعقل وهو جهد رائع للمخرج الرائع حسن الوزير.
عمل جدير بالزحام الذي يشهده من الجمهور وعمل جدير بالتليفزيون المصري أن ينقله عبر شاشته إلى الجمهور كما كان يحدث يوما مع مسرحنا.. تحية للمسرحية ولكل من ساهم فيها ولكل من ذكرت أو غيرهم من الأسماء تمثيلا وموسيقي وديكور وغناء واضاءة تبدو دائما قليلة النور كأنها تبحث في حلم أزلي.