تغريد فياض تكتب احتفال
يستعدّون للاحتفال الكبير في هذا اليوم بالذات، كلّ عدّة أعوام بأجمل ما لديهم، فهو غير كلّ أيام هذه المدينة، وفي نهايته هناك جائزة كبرى، تلك الجائزة التى لا يرغبُ أيّ منهم فى الحصول عليها، ويتمنَّى ألا تكون من نصيبه.
تقبع المدينة حول بركان عجيب فوق قمة جبل منسيّ، منازلها صغيرة، دافئة، وحميمية، جميعها تتكون من طابق واحد، ملوَّنة بألوان قوس قزح، تتوزَّع فيها نوافذ صغيرة تُزيِّنُها أُصص الورد، ولكلّ بيت حديقة خلفيَّة، تتِّسع لتكون غابة من أشجار وأزهار نادرة، عجائبية، وتفوح منها روائح خلاّبة، تُعبئها الأمهات في زجاجات ويستخدمنها كعطور، وأحيانًا لإرسال أطفالهن إلى عوالم النوم، ولأشياء أخرى تعرفها فقط نساء المدينة.
واليوم: الاحتفال، والجائزة الكبرى، تضُجُّ المدينة بالحياة، الأمهات يلاحقن الأطفال ليُلبسنَهم ملابسهم الجديدة، والمُعَطَّرَة بالورد والياسمين والليلك, وأثناء ذلك يداعبنهم بالأغنيات والضحكات الرائقة. بعدها ترتدي كل واحدة أجمل أثوابها الحريرية، أغلى مجوهراتها، تسريحات للشعر، قُبعات للرأس من كل شكل ولون، مناديل ناعمة حريرية، عطور أنثوية فواحة، حتى الحذاء لا بد أن يكون جديدًا مميزا. فى هذا اليوم تريد كلّ امرأة أن تكون في أفضل تجليَّات سحرها.
يجتهد الرجال أيضًا في ارتداء أفضل ما لديهم، يُصفِّفون شعرهم، يُخرِجون زجاجات العطور المُعَتَّقة، التي لا تُستعمل إلا في هذا اليوم. رغم ذلك، فإن الجميع، حتى أصغر واحد منهم، يعرف السرّ، ويحتفظ بداخله بتلك الأمنية: ألا يحصل على الجائزة الكبرى.
يقوم الحالمون والحالمات في المدينة بتزيينها، وإعادة تشكيل ديكوراتها ومفرداتها في كل الاتجاهات والشوارع، حيث تتلوَّى طرقات المدينة في شكل هندسي رائع حول فوهة البركان العجائبي، الذي ينفثُ دخانه الملوَّن الجميل كل فترة في فضاء المدينة، ويُخفي معالم الطرقات والشوارع، ويضطر السكان حينها إلى البحث عن شوارعهم.
تُقدِّمُ مجموعات من الطواويس باقات من ريشها الفاخر لكلّ العابرين. يجمع بعض الأطفال أكوامًا من الأوراق الملقاة هنا وهناك في الطرقات ويلوّنوها ثم يحوِّلونها إلى قصاصات مزركشة يعلِّقونها في كل زاوية من مدينتهم المحبوبة، وفوق المبانى والأشجار، ثم يمدُّون أسلاك الأضواء الكهربائية الراقصة بين كل الشوارع والمباني. يتفاعل البركان معهم ليشارك في الاحتفال (تكفيرا عن ذنبه), فيقذف لهم بأحجار كريمة جميلة فاخرة، يوزِّعونها عليهم وفي كلّ مكان حولهم، فتتألَّق المدينة.
يشترك الطهاة من رجال ونساء في إعداد أنواع عديدة من الحلوى، وطبق عملاق من الفطائر الساخنة، برائحة شهيَّة تجتذب القسم الذي ما يزال هاربًا من أطفال المدينة.
يقوم قسم آخر من سكان المدينة بإعداد المشروبات والعصائر الطازجة، يسكبونها في كؤوس زجاجية مُذهبة ومُرصَّعة بأحجار كريمة أهداهم إياها البركان.
وأخيرًا يبدأ الاحتفال….
تتوافد الفرق الموسيقية، وتُعزف المقطوعات الراقصة، فيرقص الجميع حتى الأشجار والطيور والحيوانات. تتطاير البالونات، الأوراق، الريش، الأضواء، وأنفاس البركان، لتلوِّن سماء المدينة، وتُغطّيها.
يأكل الجميع، حتى لا يتبقى هناك طعام، يرقصون حتى لا يتبقى هناك رقص، يضحكون حتى لا يتبقى ضحك، كأنه آخر يوم في حياتهم (هم يعرفون أنه مع نهاية الاحتفال سيبدأ عهد جديد، ويتشكَّل عالم قد لا يكونوا موجودين فيه).
وأخيرًا ينتهي الاحتفال…
يتوقف أهل المدينة عن الاحتفال ويقفون متجاورِين، يمسكون بأيدِي بعضهم بعضًا، وينتظرون لحظة اختيار صاحب الجائزة الكبرى، حيث سوف يموتُ الجميع ولن يبق إلاّ ناجٍ واحد فقط. لم يكن أيً منهم يرغب في أن يكون هو ذلك الناجي (الجائزة التى يريدها كلٌ منهم هي أن يموت مع الآخرين).
يشعر أهل المدينة بدنوّ لحظة الاختيار، يضغط كلٌ منهم على يد مَنْ يقف إلى جواره، تصفو السماء، ويهدأ البركان تمامًا وكأنّه ينتظر معهم. ثم يتساقطون واحدًا تلو الآخر، هكذا بكل بساطة كما هو مذكور في كل ألواحهم وكتبهم المحفوظة في مغاور بعيدة عن غضب البركان ودخانّه الذي يصبح ساماً في وقت معين كلّ عدة سنوات، لايقتل عندها إلاّ البشر. يموتون بملابسهم الملوَّنة وعطورهم، وقد شبعوا من الرقص والضحك والغناء. فقط يتبقَّىَ شخصٌ واحدٌ منهم، يكون هو صاحب الجائزة التي يتهرّب منها الجميع.
لم تكن مشكلة هذا الشخص أنَّ عليه الآن تأسيس مدينة جديدة، فأصغر واحد منهم عنده القدرة على ذلك، ولكن مأساته الأولى هى أنّه يرى الجميع يتساقطون و يموتون من حوله، ومأساته الثانية، الأكثر إيلامًا، أنه وقبل تأسيس المدينة، لا بُدّ أن يدفن بنفسه، منفردًا، كل مَنْ ماتوا.