حركة المعنى وتفكيك شفرة العنوان في قصيدة (يدور في حلقات مفرغة) للدكتور عيد صالح
د. محمد سعيد شحاتة
مِهاد:
يعدُّ العنوان عتبة الولوج الأولى إلى عالم النص ودسائسه غير الممكنة، كما أنه “مرسلة مشفَّرة بين الناصِّ والنصِّ من جهة والقارئ والنص من جهة أخرى، وبالتالي فإن رصد العنوان وتفكيكه من شأنه الكشف عن دلالات الخطاب وأسراره” وقد عبَّر عن ذلك إمبرتو إيكو بقوله: “العنوان هو للأسف منذ اللحظة الأولى التي نضعه فيها مفتاحٌ تأويليٌّ” وهذا يدل على أن العنوان ذو دلالة خاصة ومثيرة بالنسبة للعمل الأدبي، ومتلقي هذا العمل في الوقت نفسه؛ فالعنوان يثير في المتلقي هاجس التوغل في كنه العمل الأدبي ومحاولة اكتشاف أسراره ودسائسه، والسباحة بين عوالمه الداخلية التي لا تنكشف للوهلة الأولى، ومن هنا يكتسب العنوان أهميته المائزة من حيث كونه نصا قصيرا أما العمل الأدبي فهو النص الطويل، وانطلاقا من هذا المنظور سوف نتوقف أمام العنوان في قصيدة (يدور في حلقات مفرغة) للشاعر الدكتور عيد صالح كأحد العلامات الدالة على فهم النص، معتقدين أن إنتاج الدلالة يتم من خلال التفاعل الحيِّ والديناميكي بين النص والقارئ، ومن ثم فإن القراءة عملية جدلية تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص (1) وليس معنى ذلك أننا ننفي المبدع، بل نرى أنه منشئ العمل الأدبي ومبدعه، ومن تتلاقى بين أصابعه الخيوط السرية التي تتشكل من خلالها لعبة المعنى، ويصبح للنص بمقتضاها حقوله الدلالية. إن عملنا سوف ينصبُّ على النص الشعري، فقد انتهت علاقة الشاعر بهذا النص منذ أن ألق القلم وطوى الصحيفة.
جاء عنوان القصيدة جملة فعلية خبرية (يدور في حلقات مفرغة) أراد الشاعر من خلالها إخبار المتلقي بشيء ما، وهي جملة مكتملة الأركان من حيث التكييف النحوي، ولكن الملاحظ أن الفعل (يدور) فعل لازم، فلا يتعدى إلى مفعول به، ومن ثم فهو مكتفٍ بنفسه؛ فالجملة الفعلية التي تبدأ بفعل لازم تكون عناصرها هي الفعل والفاعل فقط، ويكون معناها واضحًا وتامًا لا خلل فيه ولا غموض ولا نقص، ومعنى ذلك أن مجرد ذكر الجملة الفعلية في هذه الحالة يحيلنا إلى المعنى مباشرة، ولكن الشاعر أضاف إلى هذه الجملة المكوَّنة من فعل وفاعل ما أراد أن يضيفه من دلالة زائدة على دلالة الفعل اللازم في الجملة، فأضاف (حلقات مفرغة) وجاء اللفظان نكرتين، والنكرة ما يدل على ما هو شائع في نطاق جنسه، فلفظ (حلقات) لا تحديد له بمعنى لا ملامح مميزة له، فلا نعرف مما تتكون هذه الحلقات، ولا أين … إلخ، وجاء لفظ (مفرغة) ليزيد المعنى المراد وضوحا في الدلالة التي يريدها الشاعر، وإن كان اللفظ نكرة من حيث التكييف النحوي، فهو نعت، والنعت يتبع المنعوت من حيث التعريف والتنكير، فلا يجوز نعت المعرفة بنكرة، ولا نعت النكرة بمعرفة، فلفظ (مفرغة) لم يدل على تحديد؛ فلا نعرف مفرغة من ماذا، ولكنها جاءت هكذا؛ لتدل على عموم الفراغ الذي تتصف به هذه الحلقات، ويزداد الأمر وضوحا بما يريد الشاعر لنا أن نفهمه من خلال الفعل (يدور) فالفاعل جاء ضميرا مستترا، فدل بذلك على عدم التحديد له، أو لنقل غياب الفاعل على المستوى اللفظي الذي أدى إلى غياب ملامحه المشكلة له في ذهن المتلقي، كما أننا نلاحظ أن العنوان يشتمل على بنيتين متضادتين، هما الحاضر والماضي، أما الحاضر فقد دل عليه الفعل (يدور) وهو فعل مضارع ونحن نعلم أن الفعل المضارع يدل على الزمن الحالي أو الحاضر، وأما الماضي فقد دلَّ عليه لفظ (ذكريات) فالشاعر بذلك يجمع في القصيدة بين زمنين متضادين.
إن الدلالة المباشرة للعنوان هي دلالة سلبية، وغير مؤطَّرة بملامح محددة، وليس هناك تحديد سوى لملامح الفعل فقط (يدور) الذي تتحدد ملامحه بمجرد ذكره، فالدوران حالة معروفة لدى المتلقي، ويستطيع تخيُّلها بمجرد ذكر الفعل، فإذا كان الشاعر قد استخدم الجملة الفعلية الخبرية من أجل إخبار المتلقي بشيء ما فإنه لم يقدم شيئا للمتلقي يمكن أن يشفي غليله المعرفي؛ لأنه لم يقدم سوى فعل فقط دون أن يحدد فاعله، ولا المكان الذي يدور فيه هذا الفعل، ولا مفردات هذا المكان، وحتى هذا الفعل قد جاء لازما وهو ما يشير إلى أنه غير قادر على تعدية أثره إلى غيره. لقد اشتمل العنوان (يدور في حلقات مفرغة) على ثلاثة عناصر، هي الفعل والفاعل والمكان، وكلها جاءت منزوعة الملامح، وهي ما سوف تكون فاعلة في تشكيل العلاقات اللغوية داخل النص والتي تتشكل بمقتضاها لعبة المعنى، كما أن نوعية الجملة من حيث خبريتها سوف تكون فاعلة أيضا في تشكيل المعنى العام للنص؛ إذ يتحول النص بذلك إلى خبر يحمله الشاعر إلى المتلقي، ولكنه ليس خبرا بالمفهوم التقليدي للخبر وإنما همٌّ يؤرِّق الشاعر، ويستحوذ على تفكيره، ويريد من المتلقي أن يشاركه هذا الهمَّ، ويتحمل معه أعباءه.
حركة المعنى في القصيدة:
سوف نحاول في هذا الجزء من الدراسة تتبع حركة المعنى في النص عبر مقاطعه المختلفة، واستنطاق كل مقطع على حدة دون إضافة أية معاني إليه لم ترد فيه؛ لنرى كيف يتطور الفكر المنسوج بإحكام في القصيدة، وكيف تسير حركة المعنى عبر المقاطع المختلفة، وفي النهاية سوف نعود إلى حركة المعنى من البداية؛ لنربط المقاطع ببعضها لاكتشاف البنى الفكرية المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية المنسوجة في النص بعناية فائقة، في محاولة للاندفاع من ظاهر النص إلى باطنه؛ لتفكيك ما نسجه الشاعر من شبكات إيهام مختلفة؛ كي يغري المتلقي بمتابعة إغواءات النص من أجل اكتشاف دسائسه، واكتناه عوالمه.
– 1 –
يدور في حلقات مفرغة
وهو يعلك علي الطوى والكهولة
ذكريات آسنة
يرسم المقطع الأول صورة أقرب إلى السلبية والإحباط عبَّرت عنها كلمات محددة الدلالة : (الطوى – الكهولة – ذكريات – آسنة) أما لفظ الطوى فإنه يحمل دلالة الجوع إما ماديا، أي الاحتياج إلى الطعام، أو معنويا، وهو ذو دلالات متعددة على حسب السياق الوارد فيه، ولكنه يحمل معنى عاما وهو الاحتياج، ويبقى بعد ذلك السياق حاكما لماهية هذا الاحتياج ونوعيته، ولكن الشاعر هنا أورد لفظ الطوى مجردا من الإضافة إلى ما يشير إلى دلالته، أو نوع الاحتياج الذي يتحدث عنه، فصار بذلك ذا دلالة عامة رغم كون اللفظ معرَّفا بالألف واللام؛ ليترك للمتلقي الحدس بماهية هذا الطوى، أما اللفظ الثاني (الكهولة) فهو أشد سلبية في دلالته؛ إذ يحمل معنى كبر السن، وهو ما يدل أيضا على الاحتياج، ولكنه يدل إلى جانب الاحتياج على الفقد، فقد حيوية الجسد التي تستتبع فقد الرغبة أحيانا في الحياة، وعلاقاتها المتشعبة، والوصول إلى درجة من التشبُّع من العلاقات الإنسانية، واللجوء إلى الانزواء أحيانا نتيجة الاصطدام بطباع البشر التي تفقد المرء الرغبة في التواصل أحيانا، أو نتيجة الرغبة في الهدوء وعدم اقتحام الحياة كالشباب المتوهجين حيوية ونشاطا، وأما دلالته على الاحتياج، فهو الاحتياج إلى التواصل، والاندماج في الحياة؛ ذلك أن الكهولة تدفع الأفراد إلى الابتعاد عمن يتصفون بها؛ لأنهم غير قادرين على ممارسة الحياة بتوهُّج، فيصبحون بذلك عبئا، ومن ثم فإن من يتصفون بالكهولة يحتاجون إلى الاندماج في الحياة كما لو كانوا لم يتخطهم الزمن، ويرسم خطوطه غائرة في وجوههم، أما اللفظ الثالث فهو (ذكريات) وهو أيضا يحمل معنى الفقد والاحتياج، فالفقد هنا ناشئ عن مرور الزمن وتحول كثير من مفردات الحياة النابضة إلى ماض، وحنين الإنسان إلى عودة هذا الماضي حتى ولو كان مؤلما؛ لأن عودته عودة للحيوية واندفاع الشباب وتوهجه، إنه الاحتياج أيضا، وأما اللفظ الرابع (آسنة) فقد جاء ليختم المقطع ويغلق الدلالة بما يشبه الحكم القاطع، ذلك أن مضغ الذكريات، ولوكها ليس بهدف الاستمتاع بها؛ فهي ذكريات آسنة، وبذلك يختم الشاعر المقطع بما بدأ به من دلالة، فقد بدأ بقوله (يدور في حلقات مفرغة) ونحن نعلم أن الدوران في حلقات مفرغة نوع من العبثية التي لا طائل منها، بل تعبر بطريق غير مباشرة عن فقدان الحلول، أو فقدان القدرة على الحلول، أو فقدان الطريق أحيانا؛ إذ الدوران في حلقات مفرغة دال على محاولة البحث عن مخرج، إنها حالة من التيه والعجز، التيه الذي يتبدَّى من خلال الدوران في حلقات مفرغة بحثا عن مخرج والعجز الماثل في عدم وجود المخرج مما يكرر حالة التيه من خلال تكرار الدوران في الحلقات المفرغة، وهو ما يصبغ هذه الحالة بالعبثية.
وإذا نظرنا إلى هذا المقطع فإننا سوف نكتشف أنه يتشكل من جملتين اثنتين الأولى إبلاغية عادية (يدور في حلقات مفرغة) والثانية حالية، وصاحب الحال ضمير مستتر تقديره (هو)، ولكننا سنكتشف أيضا أن الجملتين تحملان دلالة الحالية؛ إذ إن الجملة الأولى – رغم كونها غير حالية من حيث التكييف النحوي – فإنها حالية من حيث الدلالة؛ لأنها تصف حال الذي يدور، فحالته أنه يدور في حلقات مفرغة، وقد تحكَّم في الجملتين فعلان مضارعان، والفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار، وهذا يعني أن حالة الدوران مستمرة ومتجددة، وهو ما يتناسب مع الحلقات المفرغة؛ إذ جاء لفظ (حلقات) جمعا ليدل على كثرة الدوران وتجدده الذي عبَّر عنه الفعل المضارع، أما الجملة الثانية فقد جاء فيها لفظ (ذكريات) جمعا أيضا ليتناسب بذلك مع لفظ (يعلك) الدال على التجدد والاستمرار، ولكن هذه الذكريات لم تكن بالتوهج الذي يغري باستدعائها؛ إذ إنها ذكريات آسنة، وهذا يوحي بأن استدعاءها استدعاء المضطر أو المُكْرَه، والإكراه هنا ليس معناه الإجبار بالمفهوم التقليدي، ولكنه قد يكون بمعنى استدعاء الراغب في تجاوز هذه الذكريات الآسنة، فهو مُكْرَه على استدعائها بهدف تجاوزها، أو إعادة تفسيرها أو تشكيلها في الذهن بصورة مغايرة من أجل تجاوزها.
– 2 –
ربما تمطر السماء بعض الأخيلة
أو يلعب المجاز
كالمهرج العجوز الذي يدغدغ الأطفال لا يزال
ربما تذكَّر أحفاده وهو مستغرق في الدور
ربما عبرت دمعة دون أن يلحظها الصغار المستغرقون في الضحك
يأتي المقطع الثاني ليحمل معنى الاحتمالية المغلفة بالتمني من خلال استخدام لفظ (ربما) بمعنى من المحتمل، وهي مركبة من (رُبَّ) و(ما) الكافة، ولكن هذا الاحتمال يميل إلى كفة التقليل، بمعنى أن استخدامها يدل على الاحتمال غير الحادث بكثرة، ثم تأتي بعدها الاحتمالات التي يضعها الشاعر (تمطر السماء بعض الأخيلة – يلعب المجاز – تذكّر أحفاده … – عبرت دمعة …) من الملاحظ تكرار لفظ (ربما) وهو تكرار يحمل الأمنية التي قد لا تتحقق، ومن ثم يلجأ الشاعر للتكرار؛ ليوهم أن التكرار يؤكد الرغبة، أو ينوِّعها، وإن كان يلغي التحقق، فيتمنى أن تمطر السماء بعض الأخيلة، واستخدام لفظ (بعض) الدال على التقليل يوحي بقناعة أن التحقق لهذه الأمنية بعيد المنال، فلجأ الشاعر إلى تمني أقل القليل من خلال استخدام لفظ (بعض) ولكنه مع هذا القليل يفقد الأمل في تحققه، فيلجأ إلى استخدام حرف العطف (أو) الذي إن دلَّ على التنويع فإن معناه ينصرف إلى الرغبة في أن تمطر السماء بعض الأخيلة وأن يلعب المجاز، وإن دلَّ (أو) على التخيير فإن معناه أن الرغبة في واحدة من الاثنتين إما أن تمطر السماء أو يلعب المجاز، وفي الحالين يبقى الاحتمال ضعيفا من خلال استخدام لفظ (ربما)، وإذا نظرنا إلى هذه الاحتمالات التي وضعها الشاعر نجد الاحتمال الأول أن تمطر السماء بعض الأخيلة، وهو احتمال يصل إلى درجة الاستحالة، فالسماء لا تمطر أخيلة، وهي أمنية أن تجود عليه السماء بما يروي ظمأه من المعاني؛ ليتدفق نهر الإبداع جاريا فيروي صحراء الروح العطشى، وإذا لم تتحقق الأمنية الأولى فإن الشاعر يلجأ إلى الخيال المصطنع من خلال استخدامه لفظيْ (المجاز – المهرِّج) وإلى جانب كون هذا الخيال مصطنعا فإنه غير قادر على المواصلة من خلال استخدام الشاعر لفظ (العجوز) وهو دال على عدم القدرة نتيجة كبر السن، ودال كذلك على عدم الواقعية من خلال استخدام (يدغدغ الأطفال) فعمله مجرد دغدغة لمشاعر الأطفال الذين لا يقدرون على التفريق بين الواقع والخيال، ويزداد الإحساس بالفقد والاحتياج عندما يتذكَّر هذا المهرِّج العجوز أحفاده وهو مستغرق في ممارسة التمثيل مداعبا خيال الأطفال، وقد تعبر دمعة متحسرة دون أن يلحظها الأطفال الذين يمارسون شعورهم بالبهجة وهو يحترق فقدا واحتياجا، فهل كان الشاعر يتحدث عن نفسه، وعن وصوله إلى مرحلة الاحتياج الروحي إلى ممارسة الخيال؟! لا يعنينا ذلك في هذه المرحلة من النص؛ لأن الشاعر منذ البداية لم يحدد ملامح الفاعل. إن حركة المعنى في هذا المقطع مازالت تسير في الاتجاه نفسه الذي ابتدأه الشاعر في المقطع الأول، محملة بدلالات السلبية والفقد والاحتياج والإحباط والتحسر، وإذا كان الشاعر قد استخدم في المقطع الأول لفظ (الكهولة) فإنه استخدم هنا لفظ (العجوز) وإذا كان قد استخدم في المقطع الأول لفظ (ذكريات) فإنه استخدم هنا لفظ (تذكَّر) وإذا كان قد استخدم في المقطع الأول جملة (يدور في حلقات مفرغة) فإنه استخدم هنا (وهو مستغرق في الدور) وإذا كان قد استخدم في المقطع الأول لفظ (الطوى) أي الجوع دالا على الاحتياج فإنه هنا قد يفسر لنا معنى الاحتياج من خلال استخدام جملة (تذكَّر أحفاده). إن هذا التكرار للاستخدام يدل على أن النص ما زال يسير في الاتجاه نفسه، وإن عبَّر عن ذلك بأساليب مختلفة، ولكننا نستطيع أن نلمح هنا تيها يصاحب تقدم العمر، تيها في المشاعر والأحاسيس وخيانة الجسد والذاكرة؛ فلاشات الذكريات توحي له بآمال وأحلام هو يدرك أنه غير قادر على إدراكها، يحاول مجاراة الواقع ومداراة خيباته المتوالية لخيانة الجسد والذاكرة بضحكات مستعارة، ويحاول التشبث بالحياة في ضحكات الأطفال وهو مدرك أن ما مضى لن يعود، ورغم علمه بالحقيقة فإنه يطمح لحدوث معجزة تجعله يتخطى أثر العمر والزمن، معجزة مُتخيَّلة تستطيع أن تنتشله من حالة العجز التي يشعر بها إزاء ما حوله وعدم قدرته على التغيير، إنه الفقد الذي يعانيه نتيجة تقدم العمر، واستحالة تحقق الأمنيات، وإنه الاحتياج الروحي الذي يساعده على مواصلة الحياة.
– 3 –
لن يفيد النصُّ كثيرا
ولن ترتفع الدلالة وهو يحلق بأجنحة مكسورة
هكذا لم تسعفه الذاكرة
ولعب به الخيال المؤدلج
وحاصرته أقفاص اللغة
يبدأ النص في هذا المقطع في البوح؛ إذ يصرِّح الشاعر بموضوعه للمرة الأولى حين يتحدث عن مواصفات الإبداع، واحتياجات المبدع، فالإبداع يحتاج إلى انفتاح الدلالة، وتحليق الخيال وابتعاده عن الجمود والأدلجة، وتقليدية اللغة، ولكن الشاعر يبدأ مقطعه باستخدام النفي من خلال أداة النفي (لن) الدالة على التأبيد، فالنص لن يستفيد، والدلالة لن تستطيع التحليق في سماوات الإبداع إذا كانت تمتلك أجنحة مكسورة؛ فالأجنحة هي الوسيلة الوحيدة للطيران، وإذا فقد النص ذلك فلن يستطيع الطيران أصلا، ويواصل الشاعر نفي الفعل من خلال استخدام أداة النفي (لم) وهنا يكشف النص عن بعض الملامح، فالذاكرة عاجزة عن الإسعاف، والخيال مكبَّل بالأدلجة، واللغة عاجزة نتيجة سيطرة التقليدية علىها فحبستها تلك التقليدية في أقفاص، فمنعتها بذلك من التحليق، ومن الملاحظ أن الشاعر ما زال يمارس فكرة الفقد والاحتياج بصورة مختلفة، ولكنها هنا أكثر إيضاحا؛ فقد أصبح هذا الفقد يتخذ ملامح محددة، إنه فقد حيوية اللغة، وتحليق الخيال، وانفتاح الدلالة، وبذلك تأخذ حركة المعنى في النص في التطور، وإن كانت حالات السلبية والفقد والاحتياج مازالت تسيطر على المعنى داخل النص، وتتحكم في حركته، وهي تعبر بطريقة ما عن حالة العجز التي يشعر بها المبدع إزاء ما حوله، وعدم قدرته على التغيير.
– 4 –
ربما في غفلة من تصلب الشرايين
ولهاث القلب الطعين
وأقراص النيتروجلسرين
ربما في قفزة الغيبوبة
والانعتاق خارج كينونة الجسد المجهد
يصَّاعد النص وهو يتراقص
في فضاءات أعراس وملائكة وطيور
وأغاريد
تبدأ الدلالة في هذا المقطع بالانفتاح أكثر، فإذا كان المقطع السابق تسيطر عليه السلبية، وتتحكم فيه معاني الفقد والاحتياج والعجز فإن هذا المقطع يبدأ في وصف احتياج النص، ولكنها أمنية قائمة على الاحتمال الذي يستخدم (ربما) فيعود الشاعر مرة أخرى إلى التمني الذي يقترب من الشك في التحقق والاستحالة، فشرايين الإبداع قد تصلَّبت والقلب مطعون، والجسد مجهد، والغيبوبة هي سيدة الموقف، ومحاولات العلاج تثبت فشلها (أقراص النيتروجلسرين)، وهنا يبدو أن تراقص النص وانفتاح دلالاته، وسباحته في سماوات الإبداع (يتراقص في فضاءات أعراس وملائكة وطيور) لن تتحقق إلا في غفلة من القيود التي رصده النص (تصلب الشرايين – القلب الطعين – قفزة الغيبوبة) وهي حالات مومنة، مما يغلف الأمنية بغلاف الاستحالة التي عاد الشاعر ليصفها بالمعجزة، فيأخذ النص في إغلاق حركة المعنى، ويصل بذلك إلى محطته الأخيرة.
– 5 –
ربما تحدث المعجزة
ويصحو علي هودج في الثريا
في تطوافه الأخير
وفي هذا المقطع الأخير يختتم الشاعر الدلالة، وهو اختتام طبيعي، فقد أخذت حركة المعنى في سيرها الطبيعي؛ لتصل إلى النهاية المحتومة، فيستخدم الشاعر لفظ (ربما) الذي ظل محافظا على سيطرته على حركة المعنى، وإذا كنا لم نعد في زمن المعجزات فإن تحقق الأمنية يصبح أملا بعيد المنال، إنه المعجزة، وقد جاءت هذه النهاية مستخدمة ألفاظا دالة على ذلك (المعجزة – التطواف – الأخير) ليختم الشاعر نصه بما يشبه التسليم بأن الأمل ضعيف، والتحليق شبه مستحيل، إن لم يكن مستحيلا بالفعل، ليحقق النص بذلك ما أشار إليه العنوان (يدور في حلقات مفرغة) فيحمل معنى اللاأمل فيما يصبو إليه الشاعر.
لقد اختزل العنوان حركة المعنى في النص صعودا وهبوطا في تضاريسه المختلفة معبرا بذلك عن حركة النفس الشاعرة اللاهثة وراء التحليق في سماوات الإبداع، والطامحة إلى التخلص من أعباء الجمود الناتج عن ضعف الجسد، وخمول الذاكرة، والانحباس في أقفاص اللغة، إنها مكبِّلات الإبداع، ولا يمكن أن يكون تطور أو انطلاق دون التخلص من هذه المكبِّلات.
التشكيل البلاغي للنص:
لقد خرجت الأنا الشاعرة في النص – من خلال الرؤية التحليلية السابقة – من طبيعتها الفيزيائية لتصبح تجريدا خالصا؛ لأن الشاعر لم يتحدث عن نفسه، وإن كانت أناه الشعرية متجلية في النص بوضوح، ولكنها الأنا المبدعة من حيث كونها ممثلة لأنوات الإبداع عامة، وليست ممثلة لنفسها فقط، ومن هنا قلنا إنها تخلَّت عن طبيعتها الفيزيائية، لتتلبس بالطبيعة التجريدية، مما يحوِّل طبيعتها إلى طبيعة إدراكية سائلة بين الأنوات الشاعرة عامة، فالشاعر هنا لم يتحدث بوصفه فردا من أفراد المجتمع يعاني تيه الأحاسيس والمشاعر، وخيانة الجسد والذاكرة، بل تتحدث الأنا الشاعرة بوصفها تجلِّيًا للأنا المبدعة المعاصرة الساعية إلى الانعتاق من كينونة الجسد المجهد، والمجاز الذي أصبح كالمهرج العجوز، وأقفاص اللغة، والخيال المؤدلج، والدلالة التي تحاول أن تحلق بأجنحة مكسورة، إنها الأنا المبدعة بصفة عامة، وليست أنا الشاعر بصفة خاصة.
وسوف نتوقف في هذا الجزء من الدراسة عند التشكيل البلاغي للنص، ومدى قدرته على تفكيك شفرة العنوان، ونحاول قدر جهدنا رصد شبكة العلاقات اللغوية التي تمتد هنا وهناك طولا وعرضا ناسجة ملامح النص، وتتلاقى بين أطرافها الخيوط السرية التي تتشكل من خلالها لعبة المعنى، ويصبح للنص بمقتضاها حقوله الدلالية، فنتوقف أولا عند التشكيل البديعي للنص، ثم نتوقف مع النص بين الخبرية والإنشائية، وقدرة ذلك على استكناه عالمه، والبوح بما لم يبح به في التحليل السابق، فهذه الزاوية من زوايا التحليل هي محاولة لاكتشاف جوانب أخرى لم تستطع زاوية التحليل السابقة الكشف عنها، أو لتأكيد ما رصدته زاوية التحليل السابقة؛ لتتجلى بذلك عوالم النص، وتنكشف الدلالة، وتصل الرسالة التي أرادها المبدع، وغلَّفها بمجموعة من الأقنعة؛ كي يغري المتلقي بمتابعة إغواءات النص من أجل اكتشاف دسائسه.
أولا: التشكيل البديعي للنص:
يعدُّ الطباق أحد العناصر البديعية التي يعتمد عليها الشاعر في بناء صوره، ولابد أن نؤكد أن “الجانب الإشاري للتركيب هو الذي يقوم بتشكيل الدلالة وإنتاجها من خلال مجيء هذا التركيب ضمن شبكة من العلاقات التي تربط بينه وبين غيره من الدلالات المتخفية خلفه، والتي تمثل خلفية تصوُّرية يمكن دفعها إلى ذهن المتلقي من خلال التركيب البارز على السطح” (2) يقول الشاعر (يحلق بأجنحة مكسورة) يحمل هذا التعبير طباقا بطريقة ما؛ إذ إن التحليق يحمل معنى الطيران، ولفظ مكسورة يحمل معنى العجز عن الطيران، إن الدلالة المباشرة لهذا التعبير أن هناك تحليقا فعلا، وأكثر من هذا أن الشاعر يستخدم الفعل المضارع الدال على التجدد والاستمرار؛ ليدل على أن هذا التحليق في تكرر واستمرار، ولكن يفاجئنا التعبير بلفظ (مكسورة) وهو دال على العجز عن التحليق؛ لأن الجناح المكسور لا يستطيع التحرك، فكيف يتم التحليق به وهو مكسور؟! إن الطباق هنا يشكل نسقا أعمق من الدلالة السريعة التي تطفو على السطح، إنه يمثل “بنية موازية من حيث البناء اللغوي لبنية الدلالة” (3) فإذا كان الشاعر قد استخدم الفعل في التحليق الدال على الحركية فإنه استخدم الاسم في (مكسورة) الدال على الثبات، ومن ثم فإن الدلالة هنا تأخذنا إلى عمق النص؛ لاكتشاف مراد الشاعر من استخدام هذا التعبير، وفي هذا الجانب من الرؤية نجدنا أمام معضلات لابد من فهمها، أو محاولة تفكيك رموزها، فقد جاء الفاعل للفعل (يحلق) ضميرا مستترا يعود على الضمير الذي يسبق الفعل مباشرة (وهو يحلق بأجنحة مكسورة) والضمير هنا مذكر قد يعود على النص في قوله (لن يفيد النص كثيرا) وقد لا يعود؛ لأن لفظ (النص) يمكن قراءته بطريقتين، الأولى أن يكون مرفوعا بحسبانه فاعلا للفعل يفيد، فيكون التحليق بذلك حالا للنص، أي (لن يفيد النصُّ كثيرا وهو يحلق بأجنحة مكسورة) وهنا تصبح الدلالة منصرفة إلى توصيف النص الذي يعاني قصور التحليق نتيجة فقدانه أسباب هذا التحليق، وهو ما عبَّر عنه سابقا في الأخيلة التي يتمنى أن تمطرها السماء، أو المجاز، والطريقة الثانية أن يكون لفظ النص منصوبا بحسبانه مفعولا به للفعل يفيد، ويكون الفاعل ضميرا مستترا يعود على المهرِّج العجوز الذي تذكّر أحفاده، فعبرت دمعة، وهذا المهرِّج هو أصلا مشبه به للمجاز، فالمجاز كالمهرِّج، وبالتالي فإن الدلالة هنا تنصرف إلى معنى آخر، وهو أن المجاز الذي أصبح كالمهرِّج العجوز لن يفيد النص كثيرا وهو يحلق – أي المجاز/الخيال – بأجنحة مكسورة، ومن ثم يصبح المتلقي أمام دلالة جديدة، قد يريد الشاعر لفت الأنظار إليها، وهي جمود الخيال أو المجاز الذي أصاب العقل المبدع فأصبح النص غير قادر على الاستفادة من هذا الخيال الذي أصبح كالمهرِّج العجوز، وهذا يدفعنا إلى البحث في دلالة اختيار لفظ المهرج وصفا للمجاز، ولم يكتف الشاعر بهذا اللفظ فقط، بل أضاف إليه لفظا آخر أشد سلبية في الدلالة، وهو لفظ العجوز، فإذا كان الخيال/المجاز قد صار مهرجا فإنه قد صار كذلك عاجزا عن ممارسة التهريج، أي أنه حتى في حالة خروجه عن مساره الطبيعي فإنه عجز عن أداء مهامه في هذا المسار، إننا هنا أمام استخدام محكم للألفاظ، يضعنا مباشرة في دائرة البحث عن تأويلات يمكن أن تحتملها صياغة الجمل الشعرية.
وإذا كان الشاعر قد استخدم الحركية في التحليق من خلال اختيار الفعل (يحلق) واستخدم الثبات في حالة العجز من خلال استخدام الاسم (مكسورة) فإن هذا يدفعنا إلى القول بأن حالة العجز عن الخيال والطيران في سماوات الإبداع هي حالة ثابتة، وتكاد تكون راسخة أي أنها حالة عامة، تصبغ الإبداع بصفة عامة، ولكن المحاولات للخروج من هذه الحالة مستمرة ومتكررة، فهناك محاولات جادة ومستمرة ومتكررة للنهوض من الكبوة التي أصابت الإبداع بجمود الخيال وتقليدية اللغة المحبوسة في أقفاص، وإرضاء الأذواق الضعيفة غير المميزة للغث من الثمين (يدغدغ الأطفال لا يزال)، وهذه المحاولات للنهوض تستذكر الأجيال القادمة التي يمكن أن يعوَّل عليها (تذكَّر أحفاده وهو مستغرق في الدور). إنها الصياغة الشعرية المحكمة التي تستهدف بث الرسالة في هدوء؛ ليفهمها من أراد، ولا يعنى الشاعر في هذا المجال بمن لا يهتم، بل إنه يعرف أن لا أحد يهتم، نفهم ذلك من خلال حالات السلبية التي طغت على حركة المعنى في النص، ومن الملاحظ أيضا أن الشاعر يلجأ في التعبير السابق إلى فتح الدلالة ثم إغلاقها، وقد تجلى ذلك في قوله (يحلق بأجنحة) فهو بذلك يفتح الدلالة أمام المتلقي فيعطيه الأمل في انفراجة؛ لأن لفظ التحليق في حد ذاته يدل على الإيجابية، والانطلاق نحو آفاق الإبداع، ولكنه لا يلبث أن يغلق الدلالة من خلال استخدام لفظ (مكسورة) فيمنع بذلك الإيجابية والانطلاق الذي حققه فتح الدلالة، وهي سمة عامة في النص، يلجأ إليها الشاعر؛ لتحقيق هدفه الذي بدا واضحا منذ صياغته للعنوان؛ فالعنوان نفسه يمارس تلك اللعبة؛ إذ يفتح الدلالة من خلال استخدام الفعل (يدور) الدال على الحركة، مما يفتح الأفق أمام المتلقي، ولكن الشاعر لا يلبث أن يغلق الدلالة من خلال استخدام لفظ (مفرغة)، ومن الملاحظ أنها السمة نفسها، ففتح الدلالة يكون باستخدام الفعل المضارع الدال على الحركة (يحلق – يدور) وإغلاقها يكون باستخدام الاسم الدال على الثبات (مكسورة – مفرغة) وبذلك يمارس العنوان سيطرته على الدلالة في النص منذ البدء حتى الختام.
ويستمر الشاعر في استخدام الطباق في قوله (العجوز – الأطفال/الصغار)، (دمعة – الضحك) إما لاستدعاء المرحلة الزمنية بكل ملامحها المميزة لها، كما في قوله (العجوز – الأطفال/الصغار) فاللفظ الأول/العجوز يستدعي تيه المشاعر والأحاسيس وخيانة الجسد والذاكرة، وقد عبر الشاعر نفسه عن ذلك في قوله (هكذا لم تسعفه الذاكرة – الانعتاق خارج كينونة الجسد المجهد) أما اللفظ الثاني/ الأطفال/الصغار فإنه يستدعي الحالة المعاكسة تماما من حيث براءة المشاعر والأحاسيس وحيويتها، وسلامة الجسد وقدرته، وقد عبر عنها الشاعر بقوله (الصغار المستغرقون في الضحك)، وإما لاستدعاء حالة شعورية ملازمة للمرحلة الزمنية كما في قوله (دمعة – الضحك) وهما حالتان شعوريتان تعبران عن مفارقة بين حالتين لمرحلتين زمنيتين مختلفتين، فالشاعر يرصد هاتين الحالتين في قوله (ربما عبرت دمعة دون ان يلحظها الصغار المستغرقون في الضحك) فالموقف الشعري هنا يرصد حالتين شعوريتين مختلفتين، حالة الحزن المصاحبة للعجوز، والتي عبَّر عنها الشاعر بلفظ (دمعة) وحالة البهجة والفرح الذي لا حدود له، والتي عبَّر عنها الشاعر بلفظ (الضحك) ولكنه استخدم في الحالة الأولى كلمة نكرة (دمعة) واستخدم في الحالة الثانية كلمة معرفة (الضحك)؛ لأن الحزن الذي يسيطر على العجوز غير واضح تماما؛ إذ أخفاه من خلال ممارسة التهريج الذي يحاول إضحاك الآخرين مما قد يشعرهم بأنه يشاركهم بهجتهم، أومن خلال إخفاء هذه الدمعة (دون أن يلحظها الصغار) ونلاحظ أن الشاعر قد وصف الحالتين (الحزن للعجوز – البهجة للصغار) بوصف واحد، وهو الاستغراق فيما يقومان به، (تذكَّر أحفاده وهو مستغرق في الدور – الصغار المستغرقون في الضحك). وفي جميع الأحوال فإن الطباق قد عبَّر عن دلالته المتوخاة في النص.
ويلعب تنوُّع الجمل بين الفعلية والاسمية دورًا في توجيه دلالة النص، فقد تنوعت الجمل في النص، ولكننا نلاحظ طغيان الجمل الفعلية بحيث تمثل ملمحا واضحا؛ فقد اشتمل النص على تسع عشرة جملة فعلية في حين اشتمل على أربع جمل اسمية فقط، ونلاحظ أن الجمل الاسمية كلها قد جاءت حالية مبدوءة بالضمير (هو):
1 – يدور في حلقات مفرغة وهو يعلك على الطوى والكهولة.
2 – تذكَّر أحفاده وهو مستغرق في الدور.
3 – ولن ترتفع الدلالة وهو (أي النص) يحلق بأجنحة مكسورة.
4 – يصَّاعد النص وهو يتراقص في فضاءات أعراس وملائكة … .
كما أننا نلاحظ أن ثلاث جمل من هذه الجمل الاسمية جاء الخبر فيها فعلا مضارعا دالا على التجدد والاستمرار، أما الميتدأ فقد كان ضميرا، وإذا كان الخبر حكما على المبتدأ فإننا نستطيع أن نفهم أن الحكم على المبتدأ في الحكم الأربعة دالا على الحركة والتجدد والاستمرار. أما الجمل الفعلية فقد فيها خمس عشرة جملة فعلية فعلها مضارع، وأربع جمل فعلها ماض، وهذا يدل على أن الحركية والتجدد والاستمرار هي الحالة المسيطرة على المعنى في النص، وهو ما يتناسب مع ما جاء في العنوان (يدور في حلقات مفرغة) فالدوران حالة مستمرة ومتكررة.
يدور في حلقات مفرغة/يعلك علي الطوى والكهولة ذكريات آسنة/تمطر السماء بعض الأخيلة/يلعب المجاز كالمهرج العجوز/يدغدغ الأطفال/لا يزال/تذكَّر أحفاده وهو مستغرق في الدور/عبرت دمعة …/يلحظها الصغار المستغرقون في الضحك/لن يفيد النصُّ كثيرا/ولن ترتفع الدلالة/يحلق بأجنحة مكسورة/لم تسعفه الذاكرة/لعب به الخيال المؤدلج/حاصرته أقفاص اللغة/يصَّاعد النص/يتراقص في فضاءات أعراس وملائكة/تحدث المعجزة/يصحو علي هودج في الثريا.
ونلاحظ أن إحدى عشرة جملة جاءت دالة على حالات سلبية، تتنوَّع بين حالات تعبر عن المبدع (يدور في حلقات مفرغة – يعلك علي الطوى والكهولة ذكريات آسنة – يحلق بأجنحة مكسورة – عبرت دمعة … – لم تسعفه الذاكرة) وبعضها تعبر عن الإبداع نفسه (يلعب المجاز كالمهرج العجوز – لن يفيد النصُّ كثيرا – ولن ترتفع الدلالة – لعب به الخيال المؤدلج – حاصرته أقفاص اللغة) كما تنوعت الجمل الفعلية بين المضارعة والماضية، وتنوعت كذلك بين الجمل المنفية والجمل المثبتة؛ لتعبر عن تموجات المعنى في النص.
ثانيا: النص بين الخبرية والإنشائية:
إذا كان الأسلوب الخبري أسلوبا بلاغيا يعطي للكلام الذي يقع فيه احتمالية الصدق والكذب في ذاته مع إشارته إلى دلالة معينة دون التصريح بها فإن لجوء الشاعر إلى استخدام هذا الأسلوب يوحي بأنه يؤمن أن كلامه لن يجمع عليه المتلقون؛ إذ إنه يحتمل أن يصدقه البعض ويكذبه البعض، ولكنه منذ البداية لا يعنى بذلك؛ فالحالة التي تسيطر على المشهد كاملا هي حالة عبثية منذ البداية (يدور في حلقات مفرغة) فالدوران في حلقات مفرغة بحثا عن مخرج يرسِّخ الشعور بالإحباط من ناحية وعدم الاهتمام من ناحية أخرى فيلقي الشاعر رسالته دون أن يهتم إن كانت ستلقى آذانا مصغية أو لا؛ لأنه يدرك منذ البداية أن العبثية هي الملمح المسيطر على المشهد كاملا، لقد جاءت جمل النص كلها خبرية كأن الشاعر أراد أن يلقي العبء الذي يثقل كاهله، ويؤرِّقه؛ ليضعه بين يدي المتلقي يصدقه من يصدق ويكذبه من يكذب، فلازم الفائدة من الخبر إعلام المُخاطب بأنّ المُتكلّم لديه المعرفة والعلم بما يتكلّم فيه، ولهذا لا يكون الغرض فيها الإفادة الحقيقيّة، وتتنوَّع الدلالات للجمل االخبرية الواردة في النص بين الحيرة والتيه والتحسر والتمني والاستبعاد، ففي قوله: (يدور في حلقات مفرغة وهو يعلك علي الطوى والكهولة) نجد معاني التيه والحيرة والقلق والمعاناة والتحسر بادية من خلال الكلمات، ولنا أن نتخيل صورة الإنسان الذي يدور باستمرار في حلقات لاهثا في البحث عن مخرج، وقد أنهكه الطوى (يعلك) وأثقلته كهولة الجسد، فخانته الذاكرة، واستبد به التعب والإرهاق، وبخاصة أن يرى أمامه الحلقات التي يدور فيها مفرغة، فلا طائل من دورانه، ولكنه يظل يدور لعله يستطيع أن من تلك الحالة العبثية التي سيطرت على مشهد الحياة والإبداع كاملا، ويقترب من الدلالة نفسها قوله (وهو يحلق بأجنحة مكسورة) إذ تتجلى صورة الطائر الذي يحاول الطيران فيعجزه عن ذلك جناحه المكسور، ولكنه مع يصر على الطيران فيهبُّ من الأرض بجسمه فيسقط ولا يقدر على الطيران نتيجة عجزه لانكسار جناحه، فيهط هبوطا سلبيا يؤثر عليه؛ إذ إنه في كل مرة يسقط نتيجة انكسار جناحه تتأثر الأجنحة فتزداد الكسور ويزداد معها الألم والشعور بالعجز والإحباط، وهكذا تظل الدوائر فارغة، فلا يعرف لها بداية من نهاية. وإذا كان الشاعر عبَّر عن التيه والحيرة والتحسُّر فيما سبق فإنه قد عبَّر عن التمني في كثير من الجمل الخبرية، إذ يقول (ربما تمطر السماء بعض الأخيلة أو يلعب المجاز كالمهرج العجوز …) ومنشأ التمني هنا أن السماء لا تمكر أخيلة، وإن كان يريد التهبير عن خصب الخيال بالمطر؛ لأن المطر يحيي الأرض بعد موتها، وكذلك الخيال سوف يحيي الإبداع بعد جموده وأدلجته، وانحباسه في أقفاص اللغة الجامدة، ويزداد الشعور بدلالة التمني في الخبر حين يقول الشاعر (يلعب المجاز كالمهرِّج العجوز) ذلك أن العجز يفقد اللعب أهميته؛ لأنه يتحول إلى نوع من التهريج، وقد عبر الشاعر عن ذلك صراحة بقوله (المهرج) وهنا يأتي التمني الذي يدل على شيء مستحيل الحدوث، وهو غير الترجي بطبيعة الحال، لينقل لنا الشاعر رسالته المتخفية خلف الألفاظ، وهي أن المطر/الأخيلة المرجوّ من السماء مستحيل أن يسقط، وبالتالي فإن إحياء الأرض/الإبداع بعيد المنال، كما أن المهرج العجوز/المبدع الواقع في دائرة العجز مستحيل أن يستطيع أن يقوم من كبوته التي أصابته، ثم تأتي الجملة الخبرية التالية لتعبِّر أكثر عن التمني والاستبعاد (ربما في غفلة من تصلب الشرايين ولهاث القلب الطعين وأقراص النيتروجلسرين ربما في قفزة الغيبوبة والانعتاق خارج كينونة الجسد المجهد يصَّاعد النص وهو يتراقص في فضاءات أعراس وملائكة وطيور وأغاريد) وهي جملة طويلة من حيث الصياغة اللغوية يستتبعها طول من حيث الدلالة؛ إذ تشتمل على كثير من معوقات النص، وبالتالي معوقات الإبداع، فالشرايين متصلبة، وهي حالة مرضية قد تصيب الجسد في أية لحظة بجلطة تودي به، وهو ما ينطبق على النص، والقلب طعين، فإذا كانت الشرايين متصلبة والقلب طعين/مريض فإن إصابته بالجلطة شبه مؤكدة، وتزداد الحالة سوءا إذا محاولات العلاج فاشلة (أقراص النيتروجلسرين) ووالجسد مجهد والغيبوبة مهيمنة على الموقف كله، وهنا يأتي استبعاد حالة الشفاء والخروج إلى العالم الطبيعي، فيأتي التمني المشوب بالاستحالة ليعبِّر عن حالة اليأس التي هيمنت على النفس المبدعة، فتصبح لازم الخبر الذي تنقله الجملة الخبرية السابقة، ثم يأتي التمني الثالث في النص في قوله (ربما تحدث المعجزة ويصحو علي هودج في الثريا في تطوافه الأخير) وهو التمني المشوب بالاستحالة أيضا؛ لأن الحالات السابقة لايمكن أن تؤدي إلى شفاء، بل تؤدي حتما إلى عكس ذلك، ومن ثم يصبح الشفاء معجزة، وإذا كانت المعجزات خرقا لنواميس الأشياء فإن الشفاء من الحالة التي تسيطر على الإبداع ميؤوس منها، وقد خرجت عن قدرة المبدع/البشر، وتحتاج إلى تدخُّل قوة أعلى قادرة على إحداث المعجزات وخرق نواميس الأشياء.
ونلاحظ أن الجمل الخبرية جاءت خالية من التوكيد، ومن ثم فإن الشاعر اعتبر المتلقي خالي الذهن لا يحتاج إلى توكيد المعاني التي تسوقها، وكأنه اعتبر هذه المعاني مسلمات لا تحتاج إلى توكيد؛ فهي تعبر عن واقع صارخ لا يحتاج أدلة عليه.
لقد عبَّرت خبرية الجمل في النص وهيمنتها عن فكر الشاعر الذي تشكَّل في ذهنه قبل صياغة القصيدة، وتحرَّك منسربا بين ألفاظها وجملها، وشكَّل شبكة من العلاقات اللغوية المنسوجة بعناية، وكان بمقتضاها للنص حقوله الدلالية.
المفاهيم المهيمنة على النص:
لقد هيمنت على النص مجموعة من المفاهيم أصبحت حاكمة لسيرورته ومتحكمة في حركته صعودا وهبوطا، عبر تضاريسه المختلفة، وخطوط ملامحه التي قد تبدو متباينة أحيانا، وقد رصدنا في تحليلنا السابق ملامح هذه المفاهيم ولكن بصورة متناثرة أثناء حديثنا عن حركة المعنى، او حديثنا عن التشكيل البلاغي للنص، وهنا سوف نتحدث عن هذه المفاهيم بصورة مكثفة؛ لتتضح بذلك ملامح النص أكثر، وتتكشف الرؤية الفكرية المتخفية وراء الصياغة اللغوية، والشكل الجمالي الذي اختاره المبدع، وهذه المفاهيم هي أربعة مفاهيم:
1 – العجز: وقد تجلى هذا المفهوم من خلال استخدام ألفاظ محددة، بعضها مباشر وبعضها غير مباشر، وتتوزع هذه الألفاظ لتشمل العجز المادي المتمثل في عجز الجسد، والعجز المعنوي المتمثل في عجز الذاكرة والجمود الفكري واللغوي والخيالي، وقد عبَّر النص عن ذلك بوضوح، أما بالنسبة للعجز المادي/عجز الجسد فنجد الشاعر يستخدم الألفاظ (الكهولة – الجسد المجهد – المهرج العجوز – أجنحة مكسورة – تصلب الشرايين)، وكلها ألفاظ تعبر عن معنى العجز إما مباشرة باستخدام لفظ العجوز والكهولة، أو غير مباشرة باستخدام ألفاظ تدل بطريق ما على معنى العجز أو جانب من جوانبه/الجسد المجهد/أجنحة مكسورة/تصلب الشرايين، أما العجز المعنوي فقد استخدم الشاعر ما يدل عليه من الألفاظ (لن ترتفع الدلالة – لم تسعفه الذاكرة – الخيال المؤدلج – حاصرته أقفاص اللغة – قفزة الغيبوبة) وكلها ألفاظ تدل على العجز المعنوي بشكل مباشر أحيانا، وغير مباشر أحيانا أخرى، أدلجة الخيال وأقفاص اللغة وضعف الذاكرة والغيبوبة كلها ألفاظ تحمل معنى العجز المعنوي إما الفكري أو اللغوي أو الخيالي.
2 – العبثية: تقوم فكرة العبثية على أن “الإنسان في حال البحث عن معنى الحياة والكون من عدم معناها يجب أن يعمل ثلاث طرق: أولاً، إما الهروب من الحياة، أي الهروب فكرياً والعزلة، وثانياً، الإيمان بالمعتقدات الدينية والروحية التي تؤمن بعالم متعالٍ والعيش في حالة من الخمول والركود والوهم الديني. وثالثاً، الإيمان بالعبثية. وتعني أن الإنسان يحاول عبثاً الوصول إلى الحقائق، وأن الكون عبارة عن مجرد أوهام وتخيلات لاتوجد فيه نهايات مطلقة، لذلك باعتقاد الفلسفة العبثية، فإن البشر يحاولون تاريخياً إيجاد معنى لحياتهم” (4) وقد تجلى هذا المفهوم في النص منذ البداية، ففي العنوان يستخدم الشاعر الدوران في حلقات مفرغة وهي حالة من البحث المستمر الذي لا طائل من ورائه، وبخاصة إلى كان يحلق بأجنحة مكسورة، فالنتيجة معروفة سلفا؛ لأن التحليق بأجنحة مكسورة لن يعين المحلق على الطيران، بل سيزداد ألمه، وتزداد الأجنحة تأثرا، وتزداد كسورها، ثم يزيد الشاعر العبثية وضوحا عندما يستخدم لفظ (المهرج) الدالة على العبثية؛ لأن عمله التمثيل من أجل الإضحاك، فإذا كان الخيال كالمهرج العجوز فإن الفائدة من عمله مفقودة تماما، وتتجلى معاني العبثية أكثر من خلال استخدام ألفاظ وجمل أخرى لا تدل على العبثية ولكن نتائجها والأمنيات منها نوع من العبثية، مثل ما يتمنى الشاعر أن تمطر السماء أخيلة، أو الانعتاق خارج كينونة الجسد المجهد رغم تصلب الشرايين، وضعف القلب (القلب الطعين) وعجز الأدوية عن إظهار أية نتيجة مرجوَّة (أقراص النيتروجلسرين) إنها عبثية الأماني التي تتطلب شفاء لجسد يعاني كل هذه الأعباء التي تنذر بهلاكه، ولذلك لجأ الشاعر إلى طلب المعجزة، وهي اللجوء إلى قوة عليا تستطيع أن تنجز ما لم يستطع أن ينجزه العقل البشري.
3 – اليأس: ويرتبط هذا المفهوم بالمفهوم السابق/العبثية إلى حد كبير، وقد استخدم الشاعر مجموعة من الألفاظ دالة على ذلك إما مباشرة مثل (ربما – لن – لم) أو غير مباشر مثل استخدام ألفاظ (تصلب الشرايين – القلب الطعين – قفزة الغيبوبة الخيال المؤدلج) فاستخدام ربما يدل على التمني المشوب بالشك في الحدوث، واليأس من الحدوث إذا ارتبطت بدلالة معبرة عن اليأس (ربما في غفلة من تصلب الشرايين/ربما في قفزة االغيبوبة) فهذان التعبيران يدلان دلالة واضحة على يأس الشاعر من حدوث اختراق في الحالة العبثية التي يعاني منها الإبداع؛ لن تصلب الشرايين حالة مزمنة، ولايمكن الشفاء منها إذا صاحبها ضعف القلب، فتصبح الكارثة محققة، فإذا أضفنا إلى ذلك الغيبوبة نكتشف أن الأمل في الشفاء يكاد يكون مستحيلا، إن لم يكن مستحيلا بالفعل. ومن هنا يصبح التمني الذي يريد الشاعر حالة من العبثية، عبثية اليائس الذي لم يجد مخرجا للحالة الميئوس منها.
لقد جاءت المفاهيم المهيمنة على النص متسقة تماما مع العنوان الذي استطاع أن يهيمن بألفاظه ومعانيه ودلالاته على النص بأكمله، منذ حركة المعنى، مرورا بالتشكيل البلاغي للنص، ثم تنوع الجمل بين الخبرية والإنشائية، وأخيرا المفاهيم المهيمنة على النص. وهنا يحط المتلقي عصا الترحال بعد أن حاول السير مع النص صعودا وهبوطا عبر تضاريسه المختلفة، ونتوءاته المتنوعة آملا أن يكون قد استطاع أن يستخرج بعض الدرر المخبوءة، وأن يكتنه عوالم النص، ويفهم بعض أسراره ودسائسه.
يدور في حلقات مفرغة
يدور في حلقات مفرغة
وهو يعلك على الطوى والكهولة
ذكريات آسنة
ربما تمطر السماء بعض الأخيلة
أو يلعب المجاز
كالمهرج العجوز الذي يدغدغ الأطفال لا يزال
ربما تذكَّر أحفاده وهو مستغرق في الدور
ربما عبرت دمعة دون ان يلحظها الصغار المستغرقون في الضحك
لن يفيد النصُّ كثيرا
ولن ترتفع الدلالة وهو يحلق بأجنحة مكسورة
هكذا لم تسعفه الذاكرة
ولعب به الخيال المؤدلج
وحاصرته أقفاص اللغة
ربما في غفلة من تصلب الشرايين
ولهاث القلب الطعين
وأقراص النيتروجلسرين
ربما في قفزة الغيبوبة
والانعتاق خارج كينونة الجسد المجهد
يصَّاعد النص وهو يتراقص
في فضاءات أعراس وملائكة وطيور
وأغاريد
ربما تحدث المعجزة
ويصحو علي هودج في الثريا
في تطوافه الأخير
٩ سبتمبر ٢٠١٦