أراء حرة

عمر حبيب.. قاضٍ وطنيّ من طراز فريد

د. محمود زايد

 أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر

 

لقد نشأتُ في بيئةٍ تهيمُ بقراءةِ قصصِ القضاةِ العدول، ومآثرهم في الإخلاص والتضحية، وزهدهم عن المغريات والمحرمات تمسّكًا بعدالتهم ومبادئهم، وعادة ما تُـثلَجُ صدورُنا بمواقفهم الشجاعة؛ إقرارًا للعدل، ومحاربةً للطغيان، وتحقيقًا للسِّلمِ المجتمعي، لاسيما إذا كان الأمرُ في مواجهةِ سلطانٍ جائر، أو أميرٍ مستبد، أو رئيسٍ دكتاتور. لأن شيوعَ العدلِ يضمنُ استقرارَ النفسِ البشرية، ويُرسّخُ أسسَ المساواةِ التي ضمنتها الدساتير، ورسمتها القوانينُ، وأَحيَتها الممارساتُ واقعًا ونهجًا. لذلك: تبقى مهابةُ القاضي في أوساطِنا عظيمة، وكلمتُه مسموعة، وحُكْمُه يُنفّذ، ويَطمَئنُ إليه المظلومُ معتقدًا أنه لن يُظلَم عنده أحد.


وتاريخ البشرية على مختلف مراحلها وأجناسها وأديانها مليء بهذه النماذج المشرفة، ومنهم قاضي اليوم الذي نتحدث عنه، الذي نشأ في مكان وزمان ملتهب غير مستقر، وفي قومٍ مهضوم حقهم، مغدور بمشروعيتهم من قِبَلِ أنظمة جائرة ومستبدة، لم ترَ إلا نفسها سيدةً، وما عاداها مجرد خدم وعبيد. لكن هذا القاضي انتفض مع شعبه الحر، غير متقبل هذا الوضع، وأسس لنفسه أن يكون لبنة في منظومة شعبه التحررية، ومعولَ هدمٍ لأركان الاستبداد والتسلط الذي يعاني منه مجتمعه ومحيطه الكوردي في القرن العشرين.
إنه القاضي «عمر حبيب» أو “الحاكم” كما يُطلَق على القضاة في المجتمع الكوردي والعراقي، نموذج كوردي ناصع في سماء العدالة. وُلِدَ عام 1923م في مدينة اشتهرت بالثقافة والفكر، في «كويسنجق» التابعة لمحافظة أربيل عاصمة إقليم كوردستان العراق، نشأ في أسرة وطنية ودينية متعلمة راجحة الفكر، ذات قيمة اجتماعية، مؤمنة بحقوقها الوطنية والقومية، مُسهِمَة بما تمتلكه من قدرات لتحقيق هذه الطموحات وتلك التطلعات.
وعليه، أتمَّ عمر حبيب دراسته الابتدائية والمتوسطة في كويسنجق بين أقرانه الكورد، أما الثانوية فحصل عليها في مدينة كركوك الكوردية التي كانت تضم بجانب مواطنيها الكورد بعض العرب والتركمان وغيرهم، وبالتالي كانت فرصة للاحتكاك بالتنوع القومي والمعرفي واللغوي، وهو ما أصقلَ عمر حبيب معرفيًّا، ووسّع دائرة علاقاته إلى خارج الكورد إثنيًّا وعرقيًّا، وأدرك أن الظلم الذي يعاني منه الكورد ممتدٌ إلى غيره من الجنسيات الأخرى، وهو ما أقنعه بضرورة تكاتف الجهود للخروج من هذا الوضع المزري، والذي أودى بتأخر المجتمع سياسيًّا واقتصاديًّا وتعليميًّا ودينيًّا.
في ظل هذه الحالة قرر عمر حبيب دراسة القانون في العاصمة العراقية بغداد ذات الرواج المعرفي والعِرقي والديني والمذهبي، فالتحق بكلية الحقوق – جامعة بغداد عام 1943م وتخرج منها عام 1947م حاصلاً على البكالوريوس في القانون.
أربع سنوات كانت فارقة في حياة عمر حبيب، اتسعت فيها معارفه العلمية والقومية والسياسية بشكل أكبر مما سبق، إذ كان له نشاط سياسي قومي كبير؛ بكونه عضوًا نشطًا في حزبي «شورش» و«هيوا» قبل تأسيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي أصبح عضوًا فيها منذ بداية تأسيسه عام 1946م، وعُيّنَ أول مسؤول للجنة المحلية للحزب في كويسنجق، ورقي بعد ذلك إلى مناصب ومهام أعلى، منها: أنه أصبح عضو احتياط للجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكوردستاني خلال مؤتمري الحزب الثاني عام 1951م والثالث عام 1953م.

د. محمود أبو زيد
كما شهد عمر حبيب خلال سنوات دراسته القانون في بغداد اندلاع الثوارات البارزانية بقيادة الزعيم الكوردي ملا مصطفى البارزاني، وعدم التزام الحكومة العراقية وبريطانيا بالاتفاقيات المبرمة مع البارزانيين، وقيام جمهورية كوردستان وعاصمتها مهاباد برئاسة قاضي محمد عام 1946م، واضطرار الزعيم الكوردي ملا مصطفى البارزاني ورفاقه للهجرة إلى الاتحاد السوفيتي، بعد تكاتف القوى المحلية والإقليمية والدولية على القضاء على حق الشعب الكوردي في وطنه المستقل، إذ لم تعش جمهورية كوردستان إلا نحو أحد عشر شهرًا.
كما اطلع عمر حبيب خلال دراسته القانون في بغداد على القوانين المحلية والدولية، ورأى كيف أن الشعوب الأخرى استقرت وتقدمت حينما اُحتُرِمت القوانين في بلادها، وطبقت العدالة والمساوة بين جميع مكوناتها، حيث لا فرق بين حاكم أو محكوم؛ فآمن مع غيره من الراجحين فكرًا وعقلاً بغض النظر عن قوميتهم أو دينهم، بضرورة تحقيق العدالة المجتمعية، وإيجاد قانون عادل يحفظ حقوق الجميع ويحقق طموحاتهم وتطلعاتهم، ومنها حقوق الشعب الكوردي الوطنية والقومية.
بعد تخرجه عمل عمر حبيب محاميًا في العديد من المناطق، منها أربيل وكويسنجق والسليمانية، وفي العديد من محاكم العراق. وقال عنه معاصروه إنه كان محاميًّا ناجحًا؛ ولذلك كان محل احترام وتقدير زملائه.
في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1952م أصبح عمر حبيب معاونًا للتسوية في ﭽمـﭽمال، وبقي فيها حتى آخر يوم من سنة 1958م، أي بعد القضاء على الملكية في العراق بنحو خمسة أشهر، ونجاح ثورة 14 تموز التي تكاتف فيها الكورد مع العرب في العراق، ودعمتها مصر آنذاك، الأمر الذي سمح للملا مصطفى البارزاني أن يعود إلى العراق بعدما مرّ بمصر وقابل الرئيس جمال عبدالناصر في أكتوبر/تشرين الأول 1958م، وعاد النشاط السياسي الكوردي في العراق وفق ما اتفق عليه النظام العراقي الجديد بقيادة عبدالكريم قاسم مع الكورد بقيادة ملا مصطفى باحترام الحقوق القومية للكورد دستوريًّا، لكن سرعان ما أخلَّ قاسم باتفاقه مع الكورد ومع مصر، مما أدى إلى اندلاع ثورة أيلول عام 1961م من جانب، وتأزم العلاقات العراقية مع مصر من جانب آخر.
في ظل تأزم علاقة الكورد مع حكومة عبدالكريم قاسم وقبيل اندلاع ثورة أيلول عُيّن عمر حبيب قاضيًا في «بنـﭽوين» في أول يناير/كانون الثاني 1959م، ثم في السليمانية، وبعدها في «قلعةدزه».
ومع اندلاع ثورة أيلول 1961م التحق عمر حبيب بها، فكان أول قاضٍ يلتحق بالثورة مما جعل له مكانة كبيرة في وجدان الثوار وقائدهم ملا مصطفى البارزاني. وبالتالي كلفه الزعيم الكوردي بتشكيل «المحكمة العليا للثورة»، التي تعدُّ بمثابة «محكمة التميز»، وصار أول رئيس لهذه المحكمة في المناطق المحررة من قِبَلِ الثورة، وتحديدًا في منطقة «ماوت» التابعة للسليمانية.
وفي أثناء حالة الانشقاق الجزئي في جبهة ثورة أيلول عام 1964م أُبعِد القاضي عمر حبيب إلى جنوب العراق في محكمة العباسية في قضاء النجف الأشرف، ثم إلى مدينة «عفك» التابعة لمحافظة الديوانية، ثم عاد إلى موطن ولادته مرة أخرى «كويسنجق»، ثم إلى «رواندوز»، ثم يعود إلى محكمة كويسنجق مرة أخرى.
وبعد اتفاق مارس/آذار 1970م عمل عمر حبيب قاضيًا في محاكم دهوك بين عامي 1971-1973م، بعدها نُقِلَ إلى أربيل نائبًا لرئيس محكمة جنايات أربيل حتى وفاته سنة 1976م.
لقد كان قَدَرُ القاضي عمر حبيب أن يعيش في عدة مراحل تاريخية ساخنة مريرة شهدها تاريخ العراق والكورد في القرن العشرين، حيث شهدت هذه المراحل أحداثًا وتغييرات مفصلية سياسيًّا واقتصاديًّا ومجتمعيًّا، وكان فيها من الأخطار ما يجعل البعض ينئ بنفسه مغلقًا عليه بابه، أو مهاجرًا إلى بلد آخر كما فعل الكثيرون. لكن عمر حبيب عهد على نفسه طيلة حياته العملية، وفي ظل نشاطه السياسي، أن يبقى في بلده، مُضَحِيًا بسنين عمره لأجل مبادئه وطموحات شعبه القومية رغم اعتقاله عدة مرات من قبل السلطات العراقية بسبب نشاطه في الحركة التحررية الكوردية. مع ذلك بقي عمر حبيب ملتزمًا في مهام عمله بإقرار العدل، واحترام القانون، والإخلاص فيما آمن به من حقوق قومية ومبادئ إنسانية استلهمها من نشأته الأسرية والعائلية، وتعليمه، ونشاطه السياسي في الحزب الديمقراطي الكوردستاني تحت راية وزعامة ملا مصطفى البارزاني. لذلك كان عمر حبيب محلَّ تقدير من الجميع، وكان شخصًا محبوبًا في مجتمعه وفي أماكن عمله المختلفة التي امتدت من جنوب العراق إلى شمال إقليم كوردستان. ولم يؤثر عليه نشاطه السياسي الكبير ومكانته الحزبية العالية أن يحيد عن القانون، ولا أن ينجرف إلى الهوى.
رحل القاضي عمر حبيب تاركًا تاريخًا كبيرًا من النضال والتضحية، مُلهِمًا وقدوةً حسنةً في مجال العدالة والقانون، وكأن نتائج أعماله تقول: ما أحوج مجتمعاتنا إلى الآلاف من أمثال القاضي عمر حبيب لتعلو العدالة على من سواها، ويستقر المجتمع، ويزدهر قاطنوه مهما اختلفت جنسياتهم أو تنوعت أديانهم ومذاهبهم.
رحل القاضي عمر حبيب وترك من الأولاد ستة (أربع بنات وولدان)، منهم شيركو حبيب الذي سار على درب والده في دراسة القانون، لكنه زاول العمل الصحفي والسياسي، متسنمًا عدة مهم كبرى داخل وخارج إقليم كوردستان، آخرها: ممثلاً للحزب الديمقراطي الكوردستاني في القاهرة منذ خمس سنوات مضت، نجح فيها أن يحقق نتائج إيجابية تقدمية طيبة في إطار توطيد العلاقات بين الشعبين الكوردي والمصري.

أراء حرة– أوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى