سعيد الصالحي يكتب فيلم لد
فاز “فيلم لد” للمخرج رامي يونس وزميلته سارة فريدلاند بجائزة فيبرسكي للأفلام العربية الوثائقية الطويلة ضمن فعاليات مهرجان عمان السينمائي الدولي، وكنت ممن شاهدوا الفيلم في عرضه الثاني في سينما الرينبو، وكان موعد عرض الفيلم في مساء يوم الاحد -أول أيام العمل في الأسبوع- وعلى الرغم من مصاعب العمل اليومية التي نكابدها والمنغصات التي نواجهها لإدامة أعمالنا إلا أنني حاولت أن أبقى مبتسما طوال النهار لأنني على موعد عاطفي مع معشوقتي اللد في المساء، فلربما يحالفني الحظ وأتمكن من أن أضم اللد بين ذراعي لمرة واحدة في حياتي قبل أن أغادرها نحو لد أخرى سمعنا عنها الاساطير وباتت أملنا الوحيد لتعويض حزننا وانكساراتنا وألمنا دائم الخضرة الذي يتحدى الفصول ولم نعرف له خريفا قط.
وفي الموعد تماما امتلأت الصالة اطفئت الانوار وابتدأ الفيلم وخفق القلب ، ثم جاء صوت فتاة يخاطبني من خلف الشاشة على أنها مدينة اللد، فلم أعرف الصوت، ركزت أكثر لأعرف من الذي يحدثني فلم أعرف له هوية، فلو كان هذا الصوت صوت اللد لعرفته على الفور فقد سمعته في قلبي مرارا، ثم عاد ذات الصوت ليخبرني بنبرة حزينة ولكنها تحاول أن تتقمص دور القدر بأن مدينة الأحلام التي في خيالي قد تغيرت ولم يبق منها إلا بضع شجيرات زيتون، وأن تلك الصورة الجميلة لمدينتنا ليست موجودة إلا في خيالنا، ولم تعد اللد إلا مجرد صور بالأبيض والأسود وكلمات تواترناها، صدمتني البداية فقلت في نفسي ربما ابتدأ الفلم بالأسوء ولكن النهاية والمضامين ستحمل الجديد والأجمل.
خلق الفيلم الذي تتجاوز مدته الساعة بقليل واقعا افتراضيا اعتمد فيه صانعوه على الرسوم المتحركة، ومعظم هذه الرسوم لا تتفق كثيرا مع فكرة الفيلم الذي يجسد من خلال الرسوم المتحركة أننا ما زلنا هناك ولم نغادر، فقام المخرج باظهار مبنى لجامعة في مدينة اللد يحمل اسم الراحل جورج حبش ومن هنا بدأ التباين فجورج حبش لو بقي في اللد لكان طبيبا بارعا يداوي الجراح ويسكن الآلام لذا كان من الاجدر بصناع الفلم أن يظهروا مستشفى يحمل اسمه أو كلية للطب، بدل من جامعة بحالها، فالواقع الكرتوني كان يفترض أننا لم نغادر، فلو لم نغادر ما كنا سنحتاج السلاح وقصيدة الشعر ولا إلى جورج حبش المقاتل.
وفي مشهد آخر يسخر أحد أبناء المدينة الذين لجأوا إلى مخيم بلاطة من نفسه أولا ومن أهالي اللد بأن اللداوي أما أصلع أو أعور، وحتى لو كان يتحدث من باب التندر الذي عرف به اللداوي ونحن نتقبله بابتسامة وقهقهة إلا انه يبرز مدى تعلقنا بفرضيات وضعها غيرنا في وصف حالتنا، فالصبر كان يستخدم في اللد بدلا من الاسوار والاسلاك الشائكة ليفصل بين الحواكير والبيارات ولا علاقة لها باصابة العيون بأي مرض أو حالة صحية، ولو تكبد كاتب الفلم عناء البحث وقرأ قليلا في كتب الرحالة في نهاية القرن التاسع عشر كان سيعرف حتما سبب هذه المشكلة التي أصابت عيون بعض اللدادوة، والسؤال هنا لماذا حرص صناع الفلم على الصاق هاتين الصفتين على شعب مدينة بأسره؟
وفي مشهد آخر يجمع جدة مع احفادها في ذات المخيم، تسأل الحفيدة جدتها عن معالم مدينة اللد، فتخبرها الجدة بأن للمدينة مطار ومحطة سكة حديد، ولم تحدثني الجدة ولم تخبر احفادها أيضا عن شارع فيصل وشارع صلاح الدين والمنقاع والمسلخ والحاووز الذي شيده المجلس البلدي بجهود ابناء المدينة، ولم تخبرني عن سراج النفط الذي كان ينير ليال المدينة بدلا من كهرباء الصهيانة، لم يضف لي الفلم اسم معلم جديد وكان يجتر من سنامه مواقع ومعالم يعرف بها كل العالم لان المحتل قد تلطف علينا ولم يهدمها كما فعل في مقامات الاولياء والصحابة والشفعاء وباقي أحياء وزقاق المدينة.
في اللد يلتقي الخضران، الخضر قاتل التنين والذي تقطعت أوصاله ليصبح الشهيد والشفيع، وخضرنا الآخر بعلمه اللدني الذي بات مثلا ترسمه مخيلات ثقافتنا بين النبي وبين الولي، لم يحدثني الفلم إلا عن الشهيد أما الولي فلم يأت أحد على ذكره وكأن طبول أتباعه وبيارقهم ومسيراتهم في شوارع المدينة كانت مارقة على مدينة احتضنت التصوف وتباركت بالاولياء وكان لكل ولي عيد وطقوس، فاللد يا جدتي ليست مطارا ولن تكن يوما مجرد محطة للعابرين والمسافرين.
كنت أتمنى أن أرى في الفيلم قبر جدي أو طريق الوعر التي مشاها اجدادنا قبل الوصول إلى نعلين، كنت أنتظر أن أرى حدود الجيتو، وان نرتشف الماء من بئر الزئبق أو اي عين ماء أخرى ما زالت تدمع على فراقنا، آخر ما كنت أنتظره هو شهادات القتلة وصورة أحد ميادين المدينة الصامدة وهو يحمل اسم ميدان البالماح.
كان صديقي يجلس إلى جواري وكنا نكفكف الدموع ونحن نرى الرسوم المتحركة تحاكي واقعا افتراضيا لا يشبهنا، وربما أكثر بؤسا من سنوات اللجوء والاغتراب، فاطفال اللد الذين أظهرهم الفلم لا يعرفون فلسطين، فأولئك الأطفال لم يسألوا اطفال المخيم في الاردن أو سوريا أولبنان او ابن اللد الذي يسكن في جرينلاند أو بوتسوانا، لم يسألوه أين تقع فلسطين؟ لتعلموا منه أن فلسطين تسكن قلوبنا ووجداننا قبل ان تسكن بين البحر والنهر.
أنا ابن اللد وهذا الفيلم لم يخبرني كيف سرقت مدينتي؟ ولم يخبرني شيئا عن بيرقها وعن الزلزال الذي دك حصونها، ولم يقل لي عن اجراءات المدينة ضد الكوليرا والتيفوئيد والتطعيم الاجباري للسكان والمسافرين في ثلاثينيات القرن الماضي، وكذلك نسي صناع الفلم أن يقولوا لنا أننا كنا نصدر الصابون اللدي والذي حمل اسم “صابون القدس” إلى موناكو ومارسيليا وربما إلى بلاد الواق واق، كنا في اللد ندرك منذ ذلك الزمن أن القدس سيدة المدن وبأن لها التاج وأننا سنشد إليها الرحال.
في النهاية ستبقى اللد خالدة كخلود ايماننا بحق عودتنا إليها، فلن يستطيع المحتل أن يمحو هذه المدينة الساحرة من وجداننا ولكنني أشكر صناعه أنهم حفزوا لدى الكثير الرغبة في كتابة وانتاج واخراح فيلم وثائقي آخر أو ربما أفلام عن هذه المدينة التي كانت آخر المدن التي سقطت في يد الاحتلال وأول مدينة رفعت من الخريطة، لان اللد مجرتنا التي توسطت بين الارض والسماء، ولا يصل إليها إلا مرفوع الهامة الذي لا تقوى عليه أسلحة المرتعش وأقلام المهزوم.