ساحة الإبداع

الأديب عبد الزهرة عمارة يكتب نهاية الطريق

قصة قصيرة

خرجت من خدرها وبأخر زينتها ..
امرأة في غاية الجمال مرتدية معطفا أسودا وبيدها حقيبة سوداء وقد نشرت ملاءتها السوداء بنظام … عمرها في الربيع الثالث طويلة القامة محتشمة الجسد تمشي في خطى واثقة وفي مشيتها اعتدال وانتظام .
نظرت الى الزقاق الضيق الممتد طولا لينتهي بشارع عريض مشجر
استقلت أول سيارة تاكسي لتقول للسائق :
ــ مصرف الرافدين من فضلك
أجابها بلطف
ــ بكل ممنونيه
أخرجت من حقيبتها مرآة وراحت تعدل مكياجها الخفيف أزاحت مرآتها جانبا وشاهدت نظرات السائق تلاحقها من خلال مرآة السيارة
سألته بأدب
ــ لماذا تنظر ؟
وقبل ان يجيب اردفته
ــ انظر الى أمام …. احذر الطريق …
شعر السائق حسون بالخجل يعتري وجهه .. وأراد أن يقول شيئا لكن لسانه لم يسعفه فصمت مكرها وعلى مضض..
ومن أول نظرة اليها سقط قلبه أمامه كدجاجة تسقط من أعلى البيت عند سماعها صرير أسنان الثعلب ..
كانت مؤدبه معه ورقيقة حتى في كلامها الناصح ..
أستأسره أدبها وعذوبة كلامها فكان هذا كفيل بأن ينجذب اليها بقوة
وفي قلبه قال
خرجت من خدرها وبأخر زينتها ..
نزلت السيدة واقتربت من السائق لتقول له
ــ هلا ..انتظرت قليلا حتى أعود
لم يمانع السائق حسون وبقيت نظراته تلاحقها وهي تسير حتى غابت وسط زحام المراجعين في المصرف
وتمتم حسون
ــ أنها حلوه !
كان السائق حسون شابا يافعا لطيف المعشر محبب للنفوس ..تجاوز الثلاثين من عمره ولم يتزوج بسبب دخله القليل وفضل العزوبية ولو الى حين ميسرة ….
أبتسم حسون ابتسامة الرضا …وهو يفكر بها جديا ..
لقد سيطرت على عقله وأخذت بروحه وسلبت قلبه .
وفي زحمة التفكير شاهدها قادمة من بعيد …
أعتدل في جلسته خلف مقود السيارة ونظر من المرآة ليداري نفسه حتى يظهر أمامها بالمظهر اللائق الحسن
اقتربت من السيارة وابتسمت له ابتسامة خفيفة وهي تقول
ــ معذرة …أنا آسفة
ــ أنا في خدمتك يا سيدتي
ــ خادم ربك … يمكنك الآن أن تتحرك
ــ حاضر
وأردف قائلا
ــ الى نفس الشارع
قالت بهزة رأس
ــ آه
ومرت لحظات … سألته بغتة
ــ العفو … لن أكن أقصد أي شيء أذا سألتك عن أسمك
تنحنح قليلا وقال
ــ حسون …
ــ أنت مخطأ يا حسون
تلعثم قائلا
ــ خير أن شاء الله
ــ لماذا لا يكون أسمك حسن مثلا
ضحك قائلا
ــ حسون ..أنه أسم الدلع … يا سيدتي …اسمي حسن ناصر
ــ عال.. الآن أنت في الاتجاه الصحيح … ومن أي حي ؟
ــ حي القادسية
ــ ناس طيبون
ــ أشكرك يا سيدتي
ــ هلا فتحت الراديو من فضلك
ــ بكل ممنونيه
وأدار قرص الراديو وانبرى المذيع يتحدث عن ظاهرة زواج المتعة المنتشرة هذه الأيام
صمت الاثنان قليلا ..
وأرادت السيدة أن تحاوره وبكل أدب وخجل قالت
ــ ما رأيك بزواج المتعة يا حسن ؟
اتسعت عيناه وفكر مليا وأجابها بعد دهر
ــ تريدين رأي بصراحة ؟
ــ أجل بصراحة
وبأسلوب مخادع قال
ــ الحمد لله .. لقد عاد كل شيء الى أصله
ــ لا أعرف ..ما ذا تقصد ؟
ــ أقصد …أنها كانت واقعة في الماضي البعيد ونحن الآن نعيدها بفضل مشايخنا المحترمين
ــ هل أفهم من ذلك ..أنت تؤيد زواج المتعة ؟
ــ وبكل قوة
تقلص وجه حسون وأستطرد قائلا
ــ أليس هذا يحل مشكلة كبيرة تواجه الشباب والشابات
تورد وجه السيدة بهجة وقالت
ــ ألم تفكر بالزواج بهذه الطريقة
ــ حاولت وفشلت
ــ ألم تجد امرأه ؟
ــ كلا !
ــ أذن أنت لم تجرب الزواج … أذن أنت لم تفشل
أحس السائق حسون أنها تحاصره بكلماتها …. تضايقه بكل أحاسيسها
فقال بحسرة
ــ ولكن ما في اليد حيلة
ــ واذا عرضت عليك امرأة ..هل تقبل بالزواج ؟
مط شفتيه وقال
ــ سأقبل وفي الحال
صمت الجميع قليلا ثم نطقت السيدة
ــ هذا جيد .. أعرف امرأة أرملة أستشهد زوجها في حرب الخليج … ما رأيك ؟
ــ لا أفهم ما ذا تقصدين ؟
ــ تقول أنك موافق على زواج المتعة .. وهذه امرأة جاهزة
ــ معلومات أكثر ..أسمها ..من أي عائلة ؟..أين تسكن ؟…
ــ أسمها سميرة … سميرة عبد الجبار …تسكن في شقة رقم 45 عمارة الشيخ …
ـــ وعائلتها ؟
ــ لا دخل العائلة بالموضوع … بينك وبينها فقط
ــ هل يمكن أن أراها ؟
ــ بالطبع
ــ متى ؟…وأين ؟
ــ أنظر بالمرآة … ستراها !
أندهش حسون ولم يصدق عقله … هل هو في حلم ؟
أردفت السيدة قائلة
ــ ما رأيك ؟.. مفاجأة
ــ مفاجأة ..
ــ سأترك لك الخيار .. وليكن الموضوع في غاية السرية
توقفت السيارة عند عمارة الشيخ ……
ترجلت السيدة .. دنت منه قائلة
ــ أنا بانتظار ردك .. لا تنسى العنوان
صعدت السيدة الى شقتها ….. أدار السائق حسون مقود السيارة منطلقا بعقل مجنون وقلب مفتون ….
قال في سره
ــ أنها حلوة … تستحق الزواج … وأنه زواج متعة لا يقدم ولا يؤخر …أنها فرصة لا تعوض ..ولن أترك هذه الفرصة تضيع من يدي لأن الزمن يتقدم ولن يرجع الى الوراء سأتقدم اليها في الحال ..
وأستقر رأيه …..
لم ينم طيلة الليلة .. يفكر ويفكر …
وفي صباح اليوم التالي …
كان السائق حسون أمام شقتها يطرق بابها ..
يفتح الباب عن سيدة حسناء باسمة بوجه حسون الذي بادرها قائلا
ــ موافق وبدون شروط
أغلق الباب …
تمت مراسيم الزواج بسرعة … شاهدها الله والملائكة
فقط .
ومضى القطار …
وجالسها يوما ….
أحس أنه يعيش اليوم في جنة … بعد أن كان يعيش سابقا تائها في الصحراء … أحس ببرودة تسري في عروقه … لقد غرق في بحر من الثلج …
كانت تنظر اليه وهي تبتسم ابتسامة خفيفة …أحس بعينيها تمزقانه بقوة … تقتلانه بعنف ..رأى عينيها الساحرتين الصغيرتين .. قطعة متوهجة من بريق خاطف …
ورأى شعرها الأسود الطويل الفاحم كالليل …ورأى جسدا ممشوقا معطرا بعطر لن ينساه أبدا … ورأى …. و رأى …
نظر اليها مليا وراحت عيناه تطـــــوف بكل مفاصل تكوينها .. ..وهام قلبه في عشق غريب …
كانت عينيه مجنونتين سيطر عليها الجوع والعذاب والحرمان …
وأخيرا وجد ضالته التي سكب روحه فيها وهو في غاية السعادة والانشراح …
سعد كثيرا .. وغنم كثيرا …
مضى أربعة أشهر … وهو يتردد عليها …وهو في أحسن حال …..
وجاء اليوم الملعون لتفاجئه على باب شقتها بكلمات مقتضبة قائلة
ــ أنت طالق !…
أصابه الذهول … تلقى صدمة عنيفة قاتلة .. أفقدته توازنه
تابعت قائلة
ــ لقد انتهت الصفقة … صلاحية العقد انتهت … ويمكنك الآن المغادرة ولن أرى وجهك مرة ثانية
نزلت هذه الكلمات كالصاعقة على رأسه … لا زال يسمع طنينها في أذنيه ولم يصدق ما يسمع وقال لها مستفهما
ــ ماذا تقولين ؟
ــ مثل ما سمعت .. أنتهى كل شيء … أرجوك أن ترحل
وبصعوبة بالغة بلع ريقه قائلا
ــ قرار مفاجئ
وفي هذا الأثناء وصل رجل في العقد الثاني من عمره .. شاب وسيم الطلعة .. يرتدي ملابس رجل دين ويضع على رأسه عمامة بيضاء لتقول له
ــ أهلا وسهلا … شيخ عمران
التفت حسون الى القادم ونظر اليه يتفحصه على عجل قائلا موجها كلامه الى السيدة
ــ عقد جديد
ثم التفت الى الشيخ القادم قائلا
ــ مبروك عليك يا شيخ … لكن أحذر يوما سترميك كالكلب مثلي
أجابه الشيخ بابتسامه ساخرة
ـــ أذهب … لقد أنتهى دورك …
دلف الشيخ الى الداخل وأغلقت السيدة الباب وظل حسون واجما سرعان ما لبث مطلقا ضحكة عريضة قائلا
ــ يا لسخرية القـــــــدر في هذا الزمن السيء … كم كنت مغفلا.. لم أحسبها مضبوط ..

ساحة الإبداعأوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى