دراسات ومقالات

هشام العطار يكتب أديب يزعج الرماديين

قراءة فى رواية كائن رمادي لنشأت المصرى

دعيت إلى ندوة ثقافيه ببيت السنارى فى حى السيدة زينب بوسط القاهرة .

إنها فى بيت إبراهيم السنارى  فخلتة أميرا مثقفا يجمع شعراء القرن الثامن عشر حوله   فى مجالس الشعر و الادب و لكن بعد مراجعة الجبرتي فوجئت  بأنه كان  منجما يقرأ الطالع ، قدم من دنقلة بالسودان ليعمل بالسحر و الدجل ثم  صادق مراد بيك حتى عينه كتخدا (محافظ)  فمكنه  المال الوفير و المنصب أن يبنى قصرا فى عام ١٧٩٤م سمي ببيت  السنارى .

ومن المفارقات العجيبة أن إبراهيم السنارى لم  يسكن فيه  سوى أربع سنوات فقط فلقد صادره نابليون ليكون سكنا  للفنانين و الباحثين الفرنسيين أعضاء لجنة العلوم و الفنون التابعة لحملته العسكرية.

وهنا  راودتني خواطر و تساؤلات عديدة.

فمن أين دخلت فى مخيلتى تلك الافكار الصفراء عن ثقافة السنارى و قدسية بيته ؟

إن فضل الثقافة الحضارية المنعكسة على جمال المكان لا ترجع لابراهيم السنارى و لكن للمعماري المجهول الذى صمم ونفذ البيت ذا المعمار الجميل ، كذلك اكتشفت أن لدى أفكارا أخرى تقليدية عن عظمة نابليون بسبب تبنية مشروع تأليف كتاب وصف مصر الذى يعتبره الكثيرون كتابا تراثيا  ذا قيمة تاريخية عالية في حين أن نابليون كان إستعماريا مستبدا فقد صادر بيت السنارى و أسكن فيه الفنانين الفرنسيين الذين أتى بهم من فرنسا و طلب منهم دراسة تصف مصر لأهداف استعمارية وليس لدواعى إنسانية حضارية كما كنت أعتقد.

ولهذا سنجد دائما هناك أفكارا صفراء أخذناها من آراء المستشرقين أو بفعل العادة و الموروث تترسخ فينا ،  فتغيبنا، و تسجن أفكارنا فى أطر متحجرة و لكن الأديب المفكر يأتى دائما لينسف تلك الافكار و يضعنا أمام رؤيه جديدة و عالم جديد من زاوية مختلفة.

وكذلك قدم نشأت المصري رؤية جديده لمسألة المؤقت والدائم ، أو قضية الحياه و الموت ووضع رؤيته في قالب أدبي روائي وأسماه ” كائن رمادي” .

فأين إبراهيم السنارى الآن و أين نابليون .. بل و أين نحن الآن ؟.. إننا و إبراهيم السنارى و نابليون ووليد بطل الرواية وغادة و إيمان ورحمة كلنا جميعا مؤقتون و كلنا نعتقد أننا دائمون ونتصرف كأننا أبديون .. تلك هى قضية الوجود التى أرقت وليدا بطل رواية كائن رمادي لنشأت المصري ، قضية الموت والخلود .. المتغير و الثابت .. و لقد أثار الشيخ الشعراوى تلك القضيه فكان يطلق على الكائنات الحية لفظ الأغيار .

البناء  الدرامي و الفلسفي  للرواية

تنامى الصراع الدرامي في الرواية بطريقة تشويقية  تحفز المتلقي لمتابعة الاحداث بدءا من حياة وليد القاهرية  مع زوجته المريضة غادة و أولادها ثم هبوط الثروة عليه من وصية صديقته الليبية الثرية المتوفاة   ثم انتقاله إلى علم إيمان زوجته الثانية و إبنها رمزي  حيث هاجر معها إلي تركيا ثم إنسلاخه الى عالم الزوجة الثالثة رحمه التي  أنجب منها صفاء.

إن طرفى الصراع الدرامي الرئيسي هما وليد و نفسه ، وهذا الصراع هو الذي يحرك الاحداث و يطورها ويتزامن ذلك الصراع مع بناء فلسفي يتطور من فكرة المؤقت و الثابت التي تجعل من كل الاحداث مهما بلغت مأساويتها أو بهجتها أحداثا غير مؤثرة في وليد حتى يصل الصراع  الدرامي إلي ذروته عندما تولد صفاء الطفلة الجديدة  فيكف وليد عن الهروب و عن التفكير فى الخروج من عالم قديم الى عالم جديد بحثا عن حل لقضية المؤقت و الدائم .

مواصفات الكائن الرمادى

– لاهدف له

“صباح الخير سيدي الهدف ، ما أغباني حقا لماذا ارتبط بهدف” (وليد في حوار داخلى بالجولة الأولي)

– مبتسم ولا ينزعج

 “ابتسامتك و أسنانك البيضاء الواضحة هى جواز مرورك إلى قلوب الجميع لم يزعجك أن كل ما نحن فية و ما حولنا مؤقت”( وليد يتحدث عن جارة بالجوله الثانية )

– لا قيمة ولا جدوى  للنجاح

 لأن الإنسان نفسه مؤقت ” لقد داعب الامل الدكتور أحمد زويل عندما ابتكر الفمتوثانيه لكنه نام تحت التراب”

– لا يفكر ولا يفعل

” صرت رماديا لا أنا ابيض ولا أسود في فكرى و فعلى ، أغلبية من حولى رماديون ولا يشعرون كأنهم مصابون بعمى الالوان والافكار”( وليد يحدث نفسة بالجولة الثالثة )

– مهمش

 “أتعبني اللون الرمادى يا إيمان ما أكثر ما أحس أننى كائن رمادى هامشى” (الجوله الثالثه حوار وليد مع إيمان)

– منعدم الارادة

” إطمئنى أنا لا أقرر شيئا، إرادتى منعدمة” (الجولة التاسعة حوار وليد مع رحمة )

 ـ  ربي و نشأ على عدم الاصطدام

” لقد زرع أبى و أمى و كل من حولى في نفسي مبدأ التكيف و ألا أعترض إلى حد التصادم و أن أكون جاهزا للتراجع إذا اقترب منى الضرر بسبب إصرارى حتى صرت رماديا” (وليد يتحدث مع نفسه بالجولة الثالثة)

لغة السرد و الصور الجمالية

جاء السرد على لسان الراوي العليم الذى يتبادل السرد مع وليد بطل الرواية .. “تدخل وليد و نحانى أنا السارد العليم” (ص ١٨ الجولة الثانية).. فكان السرد بهذة الكيفية يخدم الحبكة الرئيسيه و يغذى تنامى الصراع الدرامى الفلسفي و يخدم الفكرة.

كما أفعم السرد بثراء وفير من الصور الجمالية الجديدة التي لا حصر لها حتى لا يكاد فصل يخلو من الصورة التعبيرية الجميلة

-“الزغاريد ترصع الفضاء”  الجولة الأولي تعبيرا عن جو الأفراح و الزركشه وهي صورة ديكورية

-أشرقت في وجهه ملامح أمة الغائرة.. الجولة الثانية

– ” إلا أنني أخشي أن أجد القدر محلقا فوق رأسي” الحولة الاولي

وفى الجولة الثانية يقول :

-“الزرع يحرقه الظمأ”

– ” عيناى تتسلقان أجساد المارة”

– “اقتحمتني تساؤلات شرسة”

– ” حينئذ تضحك الجدران و النوافذ علينا حين ننظر إلي الأمور بشيئ من الفخر ”

و في الجولة الثالثة يقول

‘التحمت نظراتي بالفضاء و السحب”

و في الجولة الرابعة يقول لإيمان عند حزنها على وفاة ابنها رمزي

“ما رأيك ؟ تسافرين معى إلي رواندا و تبعثرين أحزانك فى الطريق”

وفى الجولة الخامسة يصف وليد هواء المنصوره بأنه أخضر كبقايا الحقول التى سبقت هبوطه على أرضها.

وهكذا لا تكاد تخلو جوله من صورة جميله جديده تخدم الحدث و الفكرة و السياق الدرامى فى ضفيرة واحدة.

منهج الازعاج

إن نشأت المصرى يريد أن يوجعنا و يؤلمنا  و يصدمنا بمواجهتنا بأننا كائنات رمادية سلبية

إننا كلنا رماديون سلبيون لا نحرك ساكنا نتهاون حتى فى حق أنفسنا .. فنحن كائنات رمادية مؤقتة  أموات فى صورة أحياء ..

إن الأدب الموجع هو جل ما يحتاجة القارئ العربي في تلك الظروف الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي تمر بها المنطقة العربيه فى تلك الحقبه التاريخية ، فإذا أنتج الأديب أدبا مسليا يجعلنا نبتلع الالم ونقبل  التفاهات فقد تخلى عن دور المفكر و  ترك الساحة لافكار غربية تغزو عقولنا ، و إذا اتجة إلى أدب يحمل فكرا مستقبليا حرا فإنه يوجع قارئه و يجهد تفكيرة .

ويجب ألا ننسى أن أوروبا لم تنتقل من عصور الجهل و الظلام إلى نهضة حضارية شاملة إلا بالفكر الذي مهد لهذا التغيير الجذري فى الحياه الغربية ، بغض النظر عن إيجابياتها و سلبياتها .

لقد كانت ثورة في المفاهيم  قادتها “بؤساء”   فيكتور هوجو و “تفاؤل” فولتير والتي سبقتها بعث كلاسيكيات النهضة ليوناردو دافنشى و مايكل انجلو و رفائيل .

إن الأدب الذى يتبنى قضايانا ، و يقدم رؤى جديدة لواقعنا هو من أهم وسائل الانطلاق إلى الحضارة التي نطمح إليها.

أوبرا مصردراسات ومقالات

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى