أخبار عاجلةالرئيسيةدراسات ومقالات

د. محمد سعيد شحاتة يكتب تفكيك البنية السردية والدلالة المؤجّلة في “ارتقاب “

للشاعر محمد السيد إسماعيل.. كفضاء لغوي مأزوم

تفكيك البنية السردية والدلالة المؤجّلة في قصيدة “ارتقاب” للشاعر محمد السيد إسماعيل كفضاء لغوي مأزوم
تُعدّ قصيدة “ارتقاب” للشاعر محمد السيد إسماعيل مشهدًا شعريًا كثيفًا تتفاعل فيه فلسفة الانتظار الوجودي مع تقنيات اللغة الحديثة. وهي قصيدة تُفكك بنية الزمن والذات والمعنى، وتطرح خطابًا يقوم على التأجيل والتشظي، ما يجعلها قابلة للتحليل وفق مقاربة بنيوية-تفكيكية ذات امتدادات فلسفية. ونحاول هنا أن يدمج بين التحليل البنيوي عبر تتبع البنية السردية داخل النص، والتحليل التفكيكي بتفكيك الثنائيات والمفاهيم المرجعية، مع استحضار مفاهيم فلسفية من هايدغر (الوجود والزمان)، ودريدا (الأثر والاختلاف)، وسارتر (الحرية والاختيار واللا جدوى)، على أن يكون هذا التحليل مختصرًا جدا، على أمل أن يتطور فيما بعد لدراسة الديوان كاملا؛ فقد زردت القصيدة في ديوان (الكلام الذي يقترب) وهو ديوان مشبع بالدلالات المتنوعة، ما يجعله يغري القارئ بتتبع خيوط الديوان المنسوجة بعمق ودقة شديدة.
أولًا: البنية السردية للقصيدة
1 – الصوت السردي: الذات في مرآة التصدع
يتخذ الراوي من ضمير المخاطب “أنت” نقطة انطلاق (هل أنت منذور لهذا النزف، للقتل المرابط، للخواء…؟) لكن هذا الخطاب لا يُبقي الذات على تماسكها، بل يفتتها بين الراوي والمروي له، ويعيد إنتاجها بوصفها ذاتًا محاصرة بالاختيار السلبي – إما الانكشاف أو التخفي (أم سوف تصطنع التقية، تختفي خلف انبهامك) هنا نجد الذات وقد غدت قناعًا سرديًا هشًا، تُخاطَب بلسان خارجها، لكنها لا تتماهى مع الصوت، بل ترتجف بين المعنى والغياب، بين الحضور والتخفي، تمامًا كما وصف دريدا الهوية بوصفها “نتاج الفرق بين الذات وظلها في اللغة”..
2 – الزمن السردي: ارتقاب اللا مجيء
الزمن في قصيدة (ارتقاب) ليس تقويمًا، لكنه زمن داخلي قَلِق، يتأرجح بين فعل لم يقع، وماضٍ لا يُستعاد (تخبرهم بأنك سوف تقتل بغتة) هذا الشكل الزمني يعبّر عن تعليق للوجود، مشابه لما وصفه هايدغر بزمن الكينونة غير المتحققة. إنه زمن انتظار وجود لا يكتمل، حيث تكون كل لحظة مشروطة بلحظة لم تأتِ (كأنها الرؤيا الحميمة فارتقبها).
3 – الشخصية السردية: القناع والآخرون
“أنت” ليست شخصية نمطية، لكنها كائن سردي مفكك. إنها الشخصية التي “أعلنت سر الكلام” لكنها “تخفي الومضة”. إنها شخصية هايدغرية بامتياز، تتحرك في هامش الوجود، دون تحقق (وأودعتك أمانة ثقلت عليك) والمقابل السردي لها: الآخرون (القاتلون، الأهل، الساعون) الذين يفشلون في إدراك الكارثة (ويضيع ثأرك دون أن يدروا بأنك واحد من بينهم) الهوية هنا ليست جوهرًا، بل شبكة من الانكشافات الناقصة، وهي حالة سردية وفلسفية معًا.
4 – الفضاء: المكان كخيانة رمزية
المكان لا يقدّم الأمان، بل يقدّم الخيانة (أرض تخون ملمح خطوتيك على التراب) فالبيت – الذي يُفترض أن يكون مأوى – يُخترق (فكيف تنهر قاتليك، تردهم عن سقف بيتك؟) وهنا يتحول الفضاء إلى معادل خارجي للتمزق الداخلي، حيث لا مكان حقيقيًا للذات، إلا في العتبة (منفرط على طرف النهار).
5 – الحبكة: اللا حدث كتوتّر
لا تسير القصيدة نحو ذروة، بل نحو تراكم سردي بلا انفراج. إن الحدث مؤجل (ثم تخبرهم عن الطير الذي فقد السماء) الطير كرمز للذات أو للمعنى، وقد انفصل عن موطنه الأصلي، في استعارة فلسفية للانفصال عن المعنى الكامل، أو عن السماء كمرجعية متعالية.
ثانيًا: النية التفكيك للقصيدة:
1 – تفكيك ثنائية الحضور/الغياب
ترتكز القصيدة على زعزعة معنى الحضور (تختفي خلف انبهامك… تلتوي في القول) في ضوء دريدا، الذات لا تُدرك إلا بوصفها غيابًا مكررًا داخل اللغة، حضورًا مؤجلاً. كل حضور في النص يتداعى ليصير أثرًا (فتستريح لما تبقى في يديك) ما تبقى ليس الجوهر، بل الأثر المتخلف عن الجوهر.
2 – المعنى كأثر
لا يظهر المعنى مباشرة، بل يتأجل (وترتقي بالقول حتى آخر الضوء الذي تسعى إليه) فالضوء لا يُرى مباشرة، بل عبر السعي. والقول لا يُنتج الحقيقة، بل يشير إلى بؤرة دلالية لا تُدرك. وهكذا يُعيد النص إنتاج اللغة كسرد لا يكتمل.
3 – اللغة كأداة للتمويه
الذات لا تقول، بل تلتوي في القول (تلتوي في القول، ترفع شارة أخرى، وتخفي ومضة) بهذا، تتحول اللغة إلى أداة تأجيل وليست أداة كشف. التورية هنا ليست جمالية، بل وظيفة فلسفية لمقاومة الانكشاف.
4 – تدمير المرجع الواقعي
لا بيت، لا وطن، لا أهل، لا قارئ يفهم (“تخون ملمح خطوتيك… يضيع ثأرك… دون أن يدروا) بهذا، ينفصل النص عن العالم الواقعي، ليدخل في فضاء شعري مستقل، أشبه بما وصفه موريس بلانشو (اللغة التي لا تقول شيئًا إلا غيابها).
5 – تشظي البنية الزمنية والدرامية
لا يوجد تسلسل زمني، بل دوائر من القول الملتبس (تهذي بالإشارات البعيدة… راغبًا في لحظة تسع البسيطة) الرغبة هنا هي “رغبة دائمة في المعنى”، لكن هذا المعنى يتهرب، يؤجل، يتشظى، فلا يعود النص إلا سلسلة إشارات مهزوزة تتجه نحو لا شيء.
تشكل قصيدة (ارتقاب) إذن تجربة شعرية متوترة تُحاكي حالة الذات المعاصرة: ذات تنتظر ولا تصل، تقول ولا تكشف، ترتقب ولا تُعرّف. وهي بهذا تعيد تشكيل الشعر بوصفه أداة لفك الارتباط بين اللغة واليقين، وبين الوجود والمعنى.
إن مقاربة النص بنيويًا تُظهر شبكة من التوترات السردية (في الضمير، والزمن، والحبكة)، أما مقاربتها تفكيكيًا فالنص ينخرط في لعبة تأجيل المعنى وتعرية الذات.
وهكذا، تنفتح القصيدة على تجربة وجودية وشعرية معقدة تتجاوز الدلالة إلى الأثر، وتتجاوز القصيدة إلى الفلسفة.
ثالثًا: التحليل الأسلوبي للقصيدة
يتجه التحليل الأسلوبي لقصيدة (ارتقاب) إلى استكشاف الملامح اللغوية والتركيبية والإيقاعية التي أنتجت التوتر الدلالي والتكثيف الشعوري في القصيدة. ونرصد فيما يلي أبرز الخصائص الأسلوبية:
1 – الأسلوب الإنشائي والانفعالي: يهيمن على النص استعمال الجمل الإنشائية، ولا سيما الاستفهام الإنكاري والتقريري والنداء، مما يضفي على النص طابعًا دراميًا متأزمًا:
• “هل أنت منذور لهذا النزف” – استفهام تعبيري لا يطلب جوابًا بقدر ما يحمّل الذات قدَرًا مأسويًا.
• “فكيف تنهر قاتليك؟” – استخدام حرف الاستفهام (كيف) ضمن سياق استفهام وجودي ساخر من جدوى المقاومة.
3 – البنية الإيقاعية الداخلية: رغم غياب الوزن الخليلي التقليدي، فإن القصيدة تحافظ على إيقاع داخلي عبر:
• التكرار: “تستميل قلوب أهلك؟ / توقف الساعين في الطرقات؟ / تخبرهم…”
• الجناس الصوتي: (النعاس المر / الفزع المريب) – تقارب صوتي يعمّق أثر التوتر.
3. المعجم الدلالي للانهيار والفقد: المفردات تنتمي إلى حقل دلالي قاتم:
• “الخواء، سُقطة الكفين، رعشة العينين، الموت القريب، القتل المرابط، ريح سموم، البلاء، الزبد، المتاهة، تلفظها الأرض، روح شارد…”
كلها تسهم في رسم عالم مهدد يتهدد الذات وينزع عنها أي يقين.
4 – الأسلوب التصويري والتشابيه الرمزية: اعتمد الشاعر على صور رمزية مكثفة، من أبرزها:
• “طائرك المشرد”: رمز للذات الساعية خلف المعنى أو الخلاص.
• “زبد على سطح المياه”: صورة للحقيقة الزائلة والمؤقتة.
• “روح شارد ما بين يقظته القليلة والخواء”: تشخيص لحالة الوعي المأزوم والتمزق بين الإدراك والانطفاء.
• 5 – الانزياح والتراكب الدلالي: أبرز خصائص الأسلوب الشعري في النص هي الانزياحات عن اللغة التداولية:
• “تخون الأرض ملمح خطوتيك على التراب”: انزياح يجعل الأرض فاعلًا بالخيانة، وتحويل الخطوة إلى ملمح كأنها ملامح وجه.
• “تستجيب لطلعة تمتد من طرف الكلام”: مزج بين ما هو بصري (طلعة) ولفظي (الكلام) لإنتاج معنى الرؤيا.
6 – المفارقة الأسلوبية: يتكرر في النص ما يشبه المزاوجة بين النبوءة واللا جدوى، بين التحذير والخرس:
• الشاعر يخبر بموته، ويعلم أن لا أحد سيثأر له، لكنه لا يكفّ عن النداء والتلميح.
• “ثم تخبرهم عن الطير الذى فقد السماء…” — إنه أسلوب التبليغ المأساوي رغم وعيه بانعدام جدواه.
7 – التكرار البنائي: استخدام الشاعر لصيغة (أن + فعل مضارع)، وكذلك لأفعال المضارعة والشرطية، يكرّس التوتر الزمني:
• “أنك سوف تقتل بغتة”، “إذا ما ارتقيت”، “حينما تأتي”… هذا الاستخدام يشحن القصيدة بمفارقة الترقّب/الحضور.
تشكل قصيدة (ارتقاب) – من خلال التحليل الأسلوبي السابق – مثالًا على تضافر الأسلوب مع الرؤية؛ إذ تنصهر البنى الإنشائية، والإيقاعية، والتصويرية، والمعجمية في إنتاج توتر شعري لا يُقال بقدر ما يُرتقب؛ فالنص لا يمنح قارئه معنى مكتملًا، بل يجعله شريكًا في التوتر، في انحباس الصوت، وفي الارتياب الوجودي ذاته الذي يعيشه المتكلم. في ضوء ذلك فإن التحليل الأسلوبي لا ينفصل عن التفكيكي، بل يؤكده: إذ تُنتج اللغة هنا شقوق المعنى لا وحدته، وتؤدي الانزياحات إلى تدمير المرجعية لا تثبيتها، في توافق مع رؤية دريدا إلى الشعر كفضاء يشتغل ضد الثبات، وضد امتلاء المعنى.
خاتمة:
تكشف قصيدة “ارتقاب” للشاعر محمد السيد إسماعيل عن بنية شعرية متعددة الطبقات، تتداخل فيها الرؤية السردية مع الحمولات الفلسفية والتمزقات الوجودية، ضمن فضاء لغوي متشظٍ يقاوم الامتلاء والاستقرار. وقد أتاح المنهج البنيوي-التفكيكي قراءة القصيدة بوصفها نصًا مفتوحًا تتوالد فيه الدلالات بلا مركز، حيث تتآكل المرجعيات وتنحلّ البنى السردية لصالح خطاب شعري يقوم على “الانتظار” بوصفه استراتيجية وجودية ولغوية في آنٍ معًا.
على مستوى البنية السردية، لا تُروى “حكاية” بقدر ما تتفتت الذات الراوية بين لحظة الحضور وظلال الفقد. الراوي هنا ليس شخصًا ساردًا فحسب، بل هو تشكّلٌ لغويّ متوتر، هشّ، مهدد، يؤكد تشظي الذات المعاصرة وضياعها في متاهة خطاب مفرغ من المرجع.
أما من زاوية التفكيك الفلسفي، فقد أظهرت القراءة كيف تعمل القصيدة وفق آليات دريديّة كالتأجيل والاختلاف والتشتيت الزمني، مما يجعل كل دلالة مؤجّلة دومًا خلف شبكة من العلامات غير المستقرة. هذا ما يتجلى في الاستعارات المفتوحة (كالطائر المشرد، الزبد، الطلعة الممتدة من طرف الكلام) التي تفتقر إلى مرجع قارّ، فتصبح “آثارًا” لا إشارات، في انقطاع دائم عن حضور الأصل أو المعنى.
وقد دعم التحليل الأسلوبي هذا التصور عبر رصد البنى الإنشائية المتوترة، والتكرارات الإيقاعية، والانزياحات التركيبية، ما جعل القصيدة تشتغل كأسلوب مضاد للقول المباشر. فالذات لا تتحدث من موقع ثابت، بل من شقوق اللغة وانكساراتها، حيث “البلاغ” نفسه – كما في المقطع الأخير – يصبح فعلًا منفيًا لا يؤدّي إلى تواصل، بل إلى عزلة أعمق.
إن “ارتقاب” ليست قصيدة عن موت متوقّع فحسب، بل عن لغة تتلفظ بالموت دون أن تعلنه، وعن ذاتٍ تتفتّت وهي تحاول قول ذاتها. إنها تمثيل فنيّ بالغ التعقيد للوعي المهزوم، الذي – في ذروة بصيرته – يدرك عبثية انتظاره لكنه لا يتوقف عنه، تمامًا كما لا تتوقف اللغة عن إنتاج معناها وهي تدرك استحالته.
وهكذا، تبرهن القصيدة على أن الشعر لا يصف فقط، بل يؤسس لوضع وجوديّ، تصبح فيه اللغة هي الفضاء الوحيد للمقاومة، وللاختباء، ولانتظار لا يأتي.


ارتقاب

الدور خاوية،
وأنت موزع،
من مبدأ النغم العصى
لغاية الموت القريب
هل أنت منذور لهذا النزف،
للقتل المرابط،
للخواء،
لسقطة الكفين فى وهم المكان،
لرعشة العينين من هول يحط عليك ساعات الترقب
والنعاس المر والفزع المريب
أرض تخون مساحة القول الرحيب
وتخون ملمح خطوتيك على التراب
فكيف تنهر قاتليك
تردهم عن سقف بيتك
توصد الأبواب خلفك؟
تستميل قلوب أهلك؟
توقف الساعين في الطرقات،
تخبرهم بأنك سوف تقتل بغتة
ويضيع ثأرك دون أن يدروا بأنك واحد من بينهم
ويظل طائرك المشرد لاهثا،
حتى يروى بالدماء؟
أم سوف تصطنع التقية،
تختفى خلف انبهامك،
تلتوى في القول،
ترفع شارة أخرى،
وتخفى ومضة؟
كانت تلازمك العشية،
حينما تأتى تلاقى الناس
تلقى عندهم بعض التحية
ثم تخبرهم عن الطير الذى فقد السماء
وترتقى بالقول
حتى آخر الضوء الذى تسعى إليه
وتشد أعينهم إليك
………
…….
ماذا يجىء الآن من هذا الخلاء؟
ريح سموم؟
أم بدايات البلاء؟
(زبد على سطح المياه
متاهة كبرى
وأرض تأكل الخطوات تلفظها
وروح شارد
ما بين يقظته القليلة والخواء)
هذه حال حوتك
وشيعة قد أفردتك
وأعلنت سر الكلام
تخاطفت ثوب الخفاء
وأودعتك أمانة ثقلت عليك
وأنت وحدك لائذ بجموحك الليلى
منفرط على طرف النهار
تلم نفسك ساعة وتعاود النجوى
وتهذى بالإشارات البعيدة
راغبا فى لحظة تسع البسيطة
وانفساح الروح
والقول الصريح
فتستريح لما تبقى فى يديك
وتستجيب لطلعة تمتد من طرف الكلام
كأنها الرؤيا الحميمة
فارتقبها
قاتلا عينيك بالنظر الدءوب
وباعثا عينيك
في أوقاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى