أخبار عاجلةساحة الإبداع

في ذكرى أكتوبر محمد صوالحة يكتب في الفسطاط في حضرة الجمال

في الفسطاط

ملعونة هي الدنيا بكل ما فيها … لأنها متطرفة بكل أشيائها … تأخذ كيفما تريد وتترك كما تريد …  ملعون هو المال قل أو كثر … كما هي ملعونة حياتنا  تعطي وترفع من تشاء وتعض وتهمش من تشاء … ملعون هذا القلب الذي أحب السفر وعشق الترحال ولم  يجن من فوائده إلا الذكريات وبعض أشخاص تألفت الروح  بأرواحهم فتولدت الصداقة وكانت المودة .

ملعونة هي المسافة التي تفصل العيون عن مواطن الجمال والقلب عن نبضات الحب والخيال عن الإنطلاق من عقاله ليعود بأحلام وردية … وأحياناً كوابيس تحتاج إلى عمر إضافي حتى تجتاحها … فاسدة هي العاطفة إن لم تعشق الطبيعة وتذوب فيها كما تعشق الحسان وليالي الأنس .

آآآه ما أسعد الطيور وما أشقى الإنسان … أي حرية هذه التي يدعيها وهو إما حبيس الفقر او سجين التأشيرات التي يُسمح لك من خلالها دخول أرض شقيق أو بيت صديق …آآآه ما أسعدني لو تحولت طيرا أرفرف بأجنحتي متى شئت وأهبط أنى شئت وأينما شئت … آآآه ما أضيق العمر لولا فسحة الجمال..آآآه ما أبشع الكلمات لولا إنها تطرزت بأسماء النساء وتوشحت بقصائد الحب والغزل..آه ما اقصر أيام الإنسان في هذه الدنيا وما أعسر الحال .

 ما الذي أيقظ فكرة السفر بداخلي من جديد ؟… ولماذا تغطي صورة مصر كل مساحات الخيال؟ … لماذا مصر دون غيرها تراودني عن نفسها فأجدني أهم بها كما همت بي ؟… لماذا هذا العشق لسيدة التاريخ … وأم الحضارات؟ .

كنت قد قرأت سورة يوسف من كتاب الله وأبهرتني حيث رأيت تجربة النبي الحكيم  بمصر والمكانة التي وصل إليها… تجلت لي صورة مصر وعدالتها ورجوعها للحق إذا زاغت عنه أو غفلت للحظة… كذلك قرأت نصيحة الله جل وعلا لبني إسرائيل بالهبوط لمصر ليأكلوا مما تنبت الأرض عندما أرادوا استبدال المن والسلوى ، وكنت قد شاهدت بعض الأفلام التي تتحدث عن قدرة المخابرات المصرية على اختراق الموساد وأجهزة  الدولة العبرية ومؤسساتها الفاعلة … كل هذا أغراني بالذهاب إليها للاقتراب من هذا الشعب وهؤلاء الناس لأتعرف على طبيعتهم عن قرب .

 نعم سأذهب لمصر … لأرى إنسانها والذي بقدر ما كرهته وحقدت عليه بقدر ما أحببته وعشقته عندما تعرفت إليه في بلاد الاغتراب الحقيقي ، نعم ، سأدخل مصر … سأطوفها من شرمها إلى أسوانها … سأدخل أرض الكنانة لأرى شيئا من حضارتها الضاربة جذورها في عمق التاريخ .

تناولت جواز سفري .. وفي الصباح اتجهت لدائرة الأحوال المدنية والجوازات العامة لتجديده … وخلال ساعة من الزمن كان عمر جوازي يمتد لخمس سنوات قادمة … آآآه لو أن عمر الإنسان يتجدد كجواز السفر … من هناك تابعت رحلتي إلى إحدى الشركات المتخصصة بنقل الركاب … حجزت تذكرتي وحدد يوم السفر بيوم الخميس على أن أكون أمام مقر الشركة في الثامنه صباحاً كون الرحلة ستنطلق من العقبة  إلى نويبع في نفس اليوم لتصلها ظهر الجمعة .

عدت للبيت منتشياً…الروح ترتدي ثوب الفرح … كيف لا أتألق بثوب السعادة وأنا سأزور أرض الإسكندر الأكبر … وأدخل مدينة المقاومة والفداء … كيف لا أعتم بعمامة الزهو وأنا سأصافح الفراعنة …سأدخل مصر أمناً بإذن الله لعلي ارتمي بأحضان   زليخة أو التقي بواحدة من صويحبات يوسف … لعلي التقي بأسيا أو أشفع للماشطة عند فرعون العظيم  ، كيف لا وأنا أقف بحضرة أول الموحدين من الفراعنة …(أخناتون) كيف  لا يتملكني السرور وأنا سأقبل يدي كليوبترا ونفرتيتي … وسأعانق  حتشبسوت أول فرعونية حكمت لمدة تزيد عن عقدين من الزمن وهي أول المناديات بحقوق النساء..لتثبت أن هذه الأرض هي صاحبة الريادة والمبادرة في كل شيء ، كيف لا وأنا سأقف بحضرة أبي الهول وأدخل الأهرامات عساني أعثر على شيء يكون جديداً .

مساء الأربعاء ” أي قبل السفر بيوم واحد” افتعلت مشاجرة مع زوجتي لأغادر المنزل دون أن تسألني عن وجهتي … لأني أعرفها جيدا ستصر على مرافقتي فتفسد عليّ رحلتي او ألغيها وأنا لا أرغب بهذا او بذاك .

 اتصلت بأحد أصدقائي ويدعى محمد سليمان وأبلغته بأني سأكون في مدينة السويس ظهر الجمعة … فأخبرني بأنه سيكون بانتظاري هناك … وكنت قبل ذلك قطعت اتصالي بالأهل والمعارف لئلا يعلموا عن نيتي في السفر فيخبروا زوجتي ويكون ما أخشاه .

في حوالي السادسة والنصف من صباح الخميس أيقظني المنبه .. فنهضت من نومي … اغتسلت وبدلت ملابسي … تناولت حقيبتي الصغيرة وغادرت دون أن تستيقظ … ووصلت إلى آية الله في الارض … إلى مدينة الخلود  إلى مدينة الحلم والجنون في حوالي السابعة والنصف أو الثامنة إلا ربعا … أين سأقضي الوقت الطويل المتبقي عن موعد الرحلة الذي تأجل لمدة ساعتين ؟ .

 رحت أتسكع في شوارع العبدلي … أودع وجوه الصبايا … أودع الشوارع وأوصيها بأن تبلغ أشواقي وقبلاتي لكل من يمر بها من حسان أو متعبين .

لقاء فاطمة

وحان الموعد وصعدنا إلى الحافلة وكانت تجلس إلى جانبي إمرأة  في بداية الثلاثينات كما قدرت … أنظر إليها… أتأملها … لا بل تعريها نظراتي … أود محادثتها … لا يعقل أن أبقى أربع ساعات دون أن أتكلم … كانت تحضن طفلها فوجدت ضالتي … وجدت الطريقة التي أكلمها بها … وقبل أن أبدأ بكلامها … قالت بشيء من التوتر: لماذا تنظر إلي هكذا ؟
  قلت: فقط أود أن أسأل عن سر بكاءك والدموع التي تملأ عينيك … فلا شيء في الدنيا يستحق أن نحترق لأجله مهما كان ” إضحك للدنيا تضحك لك الدنيا وابكي تبكي لوحدك ” دعني فلا شيء يستطيع أن يطفيء حزني إلا هذا الأمل الذي أحمله بين يدي … بالتأكيد سيأخذ بثأري من الدنيا… كان الحزن البادي على وجهها يضفي جمالا على جمالها … وكان بريق الدموع يزيدها حسنا على حسنها .

– هل تقبليني لك  أخا وصديقا حتى نصل مصر؟ . ** شيء اعتز به ولكن للأخت حقوق على أخيها وأخشى أن أزعجك .

 ** لا والله يا

 = فاطمة قالت  …

** لا والله يا أختي .

  لا ادري سر التعاطف الذي قضى على الرغبة في المتعة بالنظر إليها … لا ادري بعدها كيف مر الوقت … كنا نضحك ونتبادل النكات … كنت متأكدا بأن ابتسامتها ما هي إلا للمجاملة والتخلص من جمر الدموع التي كانت تسح بين الحين والأخر من عينيها.. كان كل همي أن أخفف من حرقة الحزن الساكن فيها…ولهيب الدموع المتحجرة في تلك العيون .

وكنت أتسأل بيني وبين نفسي هل أنا بحاجة لمزيد من الحزن والقلق فأنا أبحث عمن يخفف من النيران المشتعلة بداخلي أبحث عمن يمسح دموع القلب ويخفف من وجع الروح المتعبة،ولكن المتعة بالجمال لها ضريبتها…مرالوقت وطويت الطريق ووصلنا العقبة .

أنزلنا حقائبنا وهبطنا لننتظر الحافلة التي ستوصلنا إلى العبارة التي ستقلنا إلى أرض الجمال والخصب  … لحظات قليلة وجاءت الحافلة وصعدنا إليها  سارت بنا فترة قصيرة لا تتعدى ال عشر دقائق ثم هبطنا…أخذتُ جواز سفرها وحملتُ ابنها وذهبتُ لختمِ الجوازات…وفعلاً تم هذا…ودخلنا إلى الباخرة .

اتخذنا أماكننا في جوفها وما هي إلا دقائق قليلة  حتى أطلقت صافرتها معلنة الرحيل عن الشاطىء الذهبي ، وراحت تشق صدر البحر … تبعثر مياهه … قلت لها … سأبحث عن مكان مكشوف أستطيع من خلاله رؤية البحر…انتظر قليلا…سأدخل أيمن إلى الحجرة وأعود…آآآه لو أخذتني معها لتلك الحجرة التي ستكون بالتأكيد من حجرات الجنة … قليلا من الوقت وعادت وقد بدلت ملابسها … آآآه أي  قمر يطل على عيوني … كم تمنيت لو كنت ذلك الشال الذي يغطي الليل المنسدل على كتفيها … آآآه لو كنت ذلك الثوب الذي يدثر بستان الكرمة  المزروع في جسدها ….أي شيطان هذا الذي يسكنني ويثيرني ويجعلني أعري كل ما تسقط عليه عيني … عيني التي لم تترك شيئاً إلا واقتنصته … وأي جبن هذا الذي يسيطر علي فيبعدني بقدر الشهوة التي تسكنني … أي أنثى هذه التي تقترب مني … هل هي فاطمة بحق … وصلنا إلى شرفة الباخرة وقالت انظر إلى البحر وتأمل قلبه الكبير وكم يحتوي من الكائنات وكيف يتعامل معها أي حنان الذي يعمره … أي حب هذا الذي يسكن قلبه … نظرت إليها وردد القلب  … أي بحر أنظر إليه وأنت معي … أي موسيقى أسمعها وصوتك يرن بداخلي فيسرقني من الدنيا … وأي حب هذا الذي تتحدثين عنه وأنت الذي بعثت في شيطاني الحياة وأنا الذي قتلته في بداية الرحلة .

 – ما بك ترتعش قالت ؟.

** ومالي لا ارتعش  وبجانبي معنى الأنوثة وعنوان الرقة أناجي نفسي …

** اشعر بشيء من الخوف قلت لها .

=  من ماذا ؟

** لأني أخشى أن أكون طعاماً للأسماك … قلت .

= أليس أفضل من أن تكون طعاماً للدود .

 اقشعر بدني … ورحت أتسأل من أين جاءت بهذه الفلسفة … أتراها فلسفة الحزن … أنظر إليها من جديد أرى الدموع تنساب من عينيها وهي تنظر إلى البحر … أمد يدي وأعيدها رغبة جامحة بأن أتطهر بمسح دموعها وملامسة تلك الوجنة ، ولكني كنت أتراجع عندما تنظر إلي أو عندما تقترب يدي من ملامستها  خوفاً وخجلاً .

لا أدري كيف مرت الساعات … لم أشعر بنفسي إلا ونحن في نويبع … لم يقطع جلستنا في الخارج إلا مواعيد الطعام … أو طلب المشروبات الساخنة أو الباردة . 

في نويبع ودعتها .

= فقالت : لوتس( محمد ) أود أن أخبرك بشيء كنت أود لو فعلته بل كنت أتمنى أن تفعله لأشعر بحنان الأخ الذي افتقده .. لأحس بالعطف والأمان …. فأنا لا إخوة لي إلا ذلك الذي سرقته مني الغربة ورحلة الكفاح والثورة على الفقر والجوع .

**ما هو وأنا افعله الآن مهما كان؟.

= قالت كنت تمد يدك لتمسح دموعي وكنت تتراجع !!

** آآآه لأني كنت أخشى أن أفهم خطاءً فأخسرك للأبد وأنا لا ارغب بذلك .

– قالت لا والله أنا دائما أتعامل مع الأشياء بنية حسنة إلا إذا ثبت العكس أو كان إحساسي ينبئني بسوء نية المقابل .

 آآآه لو تعلم نيتي …. آآآه لو تعلم عن شيطاني بماذا يوحي إلي … لو تدري بماذا أفكر الآن ؟.

ولكن كيف تظهر الطيبة على ملامحي رغم نيران الشهوة التي تشتعل بداخلي؟ .

 صافحتها … قبلت يدها … وإذا بمحمد سليمان يقترب مني وهو يقول ” أنت هنا وأنا بدور عليك يا لله بينا “.

غادرنا ميناء نويبع  … ما زال البحر يواجهني … ولكني هذه المرة وأنا على اليابسة … أهذا الذي كنت قبل قليل أمتطي صهوته … هذا الذي يفصل بين حاضرة الأنباط وبين أرض النضال والتضحية أهذا الذي وصفته فاطمة بصاحب الحب الأسطوري … والآن تأكدت من ذلك وأنا أرى الأمواج تتراكض خلف بعضها البعض حتى الشاطىء فتتكسر هناك لتعاود الكرة المرة تلو المرة .

 يا إلهي ما أجمل هذا الكبير ؟… أهذا هو الماء الذي حمل عرش الرحمن ذات وقت ؟… أهذا هو الذي كان منه كل شيء حي ؟ … أهذا هو الطاهر دائما ولا يدنس ؟… أهذا الذي كانت الباخرة التي أقلتنا قد أعملت مشرطها في صدره ؟… يا لاحتمال البحر وصبره … آه ما أعظم الحب الذي يسكنه ويعمر قلبه … أليس هو الذي عبرت فاطمة عن حبها له وإعجابها بقدرته على العطاء وتمنت على البشر أن يتحلوا بما يتحلى به .

وما أن توسطنا مدينة السويس حتى برقت الذاكرة وراحت تسح أمطارها … إنها المدينة التي أصرت أن تأخذ بثأر أبنائها … وان لا يذهب دم شهدائها الذين زاد تعدادهم عن مئة وعشرين ألف شهيد من مصر الكنانة ارتقوا سلم الخلود وهم يحفرون قناتها … إنها المدينة التي وقفت في وجه التحدي الظالم والعدوان الثلاثي الغاشم الذي شنته انجلترا وفرنسا وإسرائيل في العام 1956 .

وتذكرت حديث أبي ذات ليلة كيف قام الأهالي بصد العدوان الذي شنته قوى الظلم والطغيان على مصر التي كان يقودها الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر لتثنيها عن قرارها الجريء بتأميم القناة ،

 قال أبي وهو يسترجع تلك الأيام  يابني في ذلك العام  لم يقاتل الجيش المصري لوحده … بل انتفض الشعب وثارت المدينة على قوى الاستبداد والاستعمار شيبها وشبابها … نسائها وأطفالها كانوا يقاتلون … بالعصي والحجارة كانوا يقاتلون … كانوا يقفون وراء الزعيم عبد الناصر وكان النصر حليفهم … وكان لإرادتهم أن تنتصر ، وخاب العدوان وعاد يجر أذيال الخيبة والخسارة .

 في هذه المعركة تجلت النخوة العربية من خلال الفتى البطل ..القومي الهوى السوري الهوية الملازم أول بحرية جون جمال والذي  دمر حاملة الطائرات  الفرنسية  واستشهد  بعد أن تيقن  من  غرقها ، ليخبر العالم بأسره أن الأرض والإنتماء لقدسيتها  هي من تجمعنا  وإن اختلفت طوائفنا وأدياننا.

أي شعب هذا الذي يقاتل بإيمانه ولاشيء غير الإيمان وينتصر ، ألم تسمع يابني بقوله تعالى ” إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ” إنها الأرض عندما تثور .. إنه الإنسان عندما تتحرك فيه الكرامة ويحرضه الكبرياء .

إلى أين نحن ذاهبون يا أبا سليمان … إلى القاهرة يا محمد … سنصلها في حوالي الثامنة مساءً … آآآه يا أبا سليمان كم أنا متعب … إلى أي فندق أنزلني … ** أريد أن القي بجثتي وأنام.
= ” ليه الندالة ده “

 ** ما بك يا أبو سليمان ؟.
=  بيت أخيك موجود وتذهب إلى الفندق … أي بداوة هذه التي تتحدث عنها يا لوتس ودوماً تفاخر بها … أهكذا علمتك بداوتك .

** أبو سليمان أنا لا أقصد أبدا ما فهمته ولكن

 -“لكن ايه” ؟ .
 لاشيء مما تقول سيحدث … فكما تقولون في الأردن وهو أهم ما تعلمته عندكم أن الضيف إن أقبل أمير وإن جلس أسير وإن رحل شاعر .. وأنت الآن أسيري .

 نشعل سجائرنا والسيارة تبتلع الطريق التي لا أكاد أراها  من هول السرعة ولم أكن انظر لشيء أو أفكر بشيء إلا باللحظة التي أصبح فيها ضيف الفراش وأسير النوم .

في  القاهرة

 في حوالي السابعة والنصف أو أكثر بقليل وصلنا القاهرة … يا إلهي الشوارع تزدحم بالمارة  والمركبات … الأنوار تسطع في قاهرة المعز … أردد في نفسي من  أين جاء كل هؤلاء؟ … أي مدينة تتسع لهم ؟.

 إن  كان المشاة بهذه الكثرة ووسائط النقل بهذا الكم إذا بالتأكيد البيوت خالية من ساكنيها .

 كل القاهرة أو كل مصر الآن في الشارع … كنت أشعر بالسيارة عندما وصلنا إلى القاهرة تسير بتثاقل عجوز هرم فهي لا تكاد تتحرك .

لفت انتباهي أثناء سيرنا سوق كبير بالقرب من ميدان التحرير يدعوك للدخول .. لا بل يجبرك على أن تدخله … إنارته الملونة تغريك بالولوج إليه طلبت من أبي سليمان التوقف لنتجول في ذلك السوق … ثارت دهشتي واستيقظت بداخلي الأسئلة … أهذا سوق أم تجمع سكاني ؟… أم إنه معرض للجمال والفتنة المصرية ؟… أعتقد بأن جميلات مصر كلهن هنا الآن … آآآه ما أسعدني … ولكن أنا متعب جدا فكيف سنجتاز هذا الزحام … كيف سنجتاز هذه الجموع البشرية … وكنت أتوقع بأن هذا العالم ينتظرون الدور لإنجاز مهامهم … سرنا داخل السوق حتى وصلنا محل طرز بعبارة الركن الهادي للزهور … قابلنا بكل الترحاب طلبت منه أن يجهز لي باقة من الورد … وما هي إلا دقائق حتى كان ما طلبت جاهزاً… خرجنا بعد أن ابتعت شيء  من الحلويات وبعض الهدايا العينية … خرجنا من السوق وأنا أتصبب عرقا وكنت أظن أني نسيت عيوني بداخله زدت تعبا على تعبي من جراء الدخول لمركز التسوق الذي نسيت اسمه  .

عاودنا انطلاقنا .. الزحام يزداد … وحركة السيارات ترهق الشارع … المسافة من القاهرة إلى مقر اقامته استغرقت ما يقارب الساعة من الزمن .

 وصلنا إلى بيته … دخل أمامي وهو يردد أهلا وسهلا … تفضل أبا صخر … جلسنا في صالة الاستقبال … أتأملها … هل هذا بيت محمد سليمان .. انه بيت برجوازي … استأذن مني … غاب قليلا وقال أبو صخر تفضل الحمام جاهز … ذبت خجلا ولم أدر كيف أرد عليه ولكني طاوعته … دخلت الحمام … خلعت ملابسي أشعر بأن الرخام  … المرأة … الباب … النافذة الصغيرة كلها أصبحت عيون ترمقني … صوت أمي يخترقني إنها تعنفني… أفر من كل هذا  وأدندن وأنا اغرق في الحوض والماء الدافيء يغطي هذا الجسد المتعب … كنت أحسه يسحب خيوط النعاس من جفوني ويغرز في جسدي أشياء لم أعرف كنهها .

خرجت من الحمام واتجهت إلى الصالة … أشعر بانتعاش غريب … أين الإرهاق الذي كان يمتلكني ؟ أين ذهبت رغبتي بالنوم ؟… صوت مخملي يخترق سمعي ويستقر في القلب .. أبو سليمان العشاء جاهز ، تفضل يا أبا صخر … رافقته وجلسنا إلى المائدة … أتذكر بيتي كيف كنت أجلس على الأرض وأمامي مائدتي … الآن أنا أجلس على طاولة وأمامي الشوكة والسكين … لن أحرج نفسي ولن أستعملها .. لن أقترب من الصنف الذي يحتاجها … جلست زوجته برفقتنا وراحت تسكب الطعام  في الأطباق ، أنظر إلى صاحبة الوجه البهي والشعر الذهبي السابح فوق الأكتاف … والعيون السوداء الجريئة … أشعر بشيء من الخجل وأنا انظر إلى زوجته لأنه ليس من اللائق ذلك … أحاول غض طرفي … ولكن ما أن يفوح عبير صوتها وأسمع دندنته حتى تفر عيوني إليها ، كان أبو سليمان يتحدث لزوجته عن الأردن وطيبة أهله وكرمهم …!! أسخر من نفسي … أي كرم وأي طيبة والذي تفعله أنت ماذا يسمى .؟

بعد العشاء أحضر العصير الطازج … آآآه كم هو شهي .. متأكد أنا من أن شدة حلاوته ولذة مذاقه هذه ما كانت لتكون لو أن أم سليمان لم تخلطه برضابها …بعد أن تناولت العصير شعرت بالحاجة الشديدة للنوم فاستأذنت منه بالنوم …فقادني إلى الطابق العلوي … أوصلني للغرفة التي خصصت لنومي … كانت جاهزة( master) … فأنا لا أحتاج للخروج منها حتى لقضاء الحاجة … بدلت ملابسي … أشعلت التلفاز وإذا بفريد الأطرش يصدح على الشاشة ” بساط الريح قوم يا جميل .. أنا مشتاق لوادي النيل … أنا لفيت كتير ولقيت البعد علي يا مصر طويل ” هذا الفنان العربي السوري يتغنى بمصر ويتباهى بعشقها … وأنا الآن ماذا سيكون مني وأنا لا أملك صوته أو موهبته ؟.. النعاس يداعب جفوني … وأصوات ملائكية تخترق سمعي ” عندنا ضيف .. نعم .. عندنا ضيف من الأردن … وماله يا بنتي بكره نشوفه ونسمعه ” أحاول النوم … هذه الأصوات سرقته من عيوني … من أين تأتي ؟ ولمن هي وكيف عرفت بقدومي ؟ أشعل سيجارة ما قبل النوم كعادتي … أطفيء المصباح أغمض عيوني … ولا أدري كم من الوقت استغرقت حتى غرقت في بحر الأحلام .لم أكد أغفو حتى أيقظني أبو سليمان بقوله أبو صخر … الفطار جاهز … دقائق فقط … نهضت من السرير لأني مشتاق لمصر … لأم الدنيا … لا أرغب بإضاعة أي وقت فالأيام تمر سريعاً ولا بد لكل رحلة من نقطة تنتهي عندها ليعود كل شيء كما كان … اغتسلت … حلقت ذقني … تعطرت …وخرجت إليهم … أصعق … أي حوريات هذه التي تحيط بالمائدة … أي ورود جلبها أبو سليمان حتى يحرض شهيتي على الطعام … أي بشر … من أي طين خلقت … حاشا لله ما هؤلاء إلا ملائكة كرام ، جلست إلى  المائدة … أشعلت سيجارتي  … نظر إليّ أبو سليمان – قال : ما هذا يا أبا صخر ؟
** ماذا ؟
– لماذا تشعل سيجارتك قبل الإفطار ؟.
**  تعرف بأني في هذا الوقت اكتفي بالقهوة  او الشاي  والسجاير ؟ .
– هنا ستتغير هذه العادة ، ممنوع التدخين قبل الإفطار ، مفهوم .

** حسنا ولكن المرة القادمة ، عفوا نسيت قبل أن أجلس إليهم عرفني بابنتيه وشقيقته ، سحر إبنته الكبرى والصغرى عبير ورندا شقيقته ، قالت سحر وهي تضحك ” أنت حر تاكل ما تكلش والنبي ما أنا قايمة” طيب أنا سأتناول طعام الإفطار عندا بك ” انظر إليهن ،آه من عيون سحر إذا ما ابتسمت تشعربها تنطق  شعراً … نظراتها تصبح غناءً … وإذا ما أقطبت حاجبيها راحت ترمي الناظر إليها بحجارة من سجيل تجعل القريب منها كعصف مأكول .

 آآآه من وجنات عبير حقيقة كالورد في أول تفتحه … إنها تفوح عطراً … آآآه من رندا واسم رندا وما تعنيه رندا . !

تشتعل اللهفة بداخلي وتنتابني الحيرة ترتبك الروح وتلفني الدهشة وتحتل فكري الحيرة ويسكنني الإنبهار ، ما الذي أصابني وأنا ادخل بيت محمد سليمان الواقع في أحد أحياء القاهرة القديمة … ظلم أن تكون سكنى هذه الملائكة غيرالجنة أومكان لا يصل إليهن فيه إلا من يمتلك كل مقومات الإنسانية والطهارة ، لم كل هذا الارتعاش الذي أصابني وأنا انظر في عيون سحر؟ وأتأمل ابتسامة عبير..إلى أين يأخذني غنج رندا وأنا أتطلع لجسدها الممشوق كعود خيزران ؟ هذه الملائكة التي ترتدي زياً بشرياً يسرق الناظر إليه إلى عوالم من الدهشة والانبهار وكأنهن الربيع في أوج تفتحه .. او الحوريات اللاتي هبطن من جنان الله إلى هذا البيت الذي يحتضنني ليخطفني لعالم الخيال والأحلام…كيف سأكلمهن..وبأي المشاعر أتعامل معهن..هل لبدويتي وتربية أمي أن تنتصرعلى شيطاني أم ستكون له الكلمة الفصل؟ ..هل سأتبع وسوسة هذا الملعون الذي يحتلني ..أم سأكون على قدر الكرم الذي عوملت به وأكن أكثر وفاءً؟ .. شيء يهمس بداخلي إنها مشاعر الوهلة الأولى والنظرة الأولى…بعد قليل سيكون كل شيء طبيعي وستضحك كثيراً من هذه الحماقات …

أتمنى .

 اينك ايها الملعون ؟ لم لم تكن شاعرا لأكتب بهذا الجمال الإلهي قصائدي … وماذا سيقول الشعر في حضرتهن ؟… هل ستصمد الكلمة امام روعتهن؟ .

 الوذ بالسكون والسكوت … والمشاعر تذيبني … الوذ بأبهاء الصمت وأنا أنظرإلى أم سليمان .. أحاول الفرارمن المكان كلما كلمني أبو سليمان .

عيوني تقودني إلى تلك الكروم التي بدأت ناضجة في صدري سحر الرائعة ورندا الفاتنة وبدأت بالتفتح عند عبير … هذه القطوف الدانية في كروم رندا وسحر بدأت تأتي أوكلها … آآآه من سيكون صاحبها … آه لو أني لم أملك بستانا من الشوك … بالتأكيد لكنت صاحب إحدى هذه الكروم  … يجب أن أغادر هذا البيت بأسرع وقت ممكن لأنني لا أستطيع احتمال هذا الجمال الإلهي الظالم … وهذا الغنج الشهي .

يقطع فيض خواطري وهطول أمطار الخيال أبو سليمان … إلى أين تود الذهاب … أرغب بالتعرف على هذه المنطقة أولا ومنها ننطلق ، نحن الآن في واحد من أقدم أحياء القاهرة القديمة … نحن في السيدة زينب رضي الله عنها .. أتلفت يمنة ويسرة … المكان مكتظ بالبشر … النسوة يذرعن الطريق جيئة وذهابا … هنا الحرائر الفرعونيات او المصريات العربيات يجلسن في الشارع كل واحدة تعرض نوعا من البضاعة التي كانت في أغلبها من الخضار والحشائش … والغاديات والعائدات لا ينقطعن … العطر يفوح من كل مكان … يتمايلن كغزلان تمشي على مهل … الشالات تغطي نصف الرأس … أنواع وموديلات من الألبسة … تشعر وأنت تسير في الشارع بأنك تسير في معرض كبير فيه كل ما يخطر بالبال .

آه من دلع الحوريات .. وغنج الصبايا … آآه من سحر النساء وفيض الأنوثة و الدلال … هكذا هن فتيات مصر الرائعات يجدن اللعب على تلك الحبال … وكأنهن خلقن ليكن بداية الطريق نحو الخلود أما في جنة عرضها السماوات والأرض أو في جحيم لا تبقي ولا تذر … يخفق القلب بسرعة … العيون لا تكاد تستقر على جهة معينة … فالروائح المغرية تفوح من كل الجهات … بالتأكيد أنا لست على الأرض … آه من تعب الذاكرة … ما هو مقدار احتمالها لتخزن كل ما ترى … وإن خزنته هل أستطيع إخراجه .

زقاق أخر في حي السيدة زينب … زقاق تجاري … النسوة يجلسن على الأرض يجبرنك على التعامل معهن ويجبرنك على الشراء إذا ما توقفت عند إحداهن … هذه تبيع الخضار .. وتلك تنادي على ما تملكه من أعشاب … وأخرى تقف خلف بسطة تبيع بها الكبدة والكشري … هناك يقف بائع الفول … إنه التعدد الحقيقي … كل منهم يعرف حدوده … هنا من حق المرأة أن تطالب بالمساواة … فهي شريكة الرجل في كل شيء ، في العمل وبناء الأسرة حتى المهر والمصروف اليومي … وفوق كل ذلك تجد معظمهن من المثقفات..نعم  فلهن أن يسترددن حقهن من الحياة ، لأنها الشريكة فيها ومكملة دورتها .

أبو سليمان أريد أن ازور مسجد السيدة زينب …
 – آه لو صبرت قليلا قال لي ..
**لماذا ؟.
 لأننا بالقرب منه … ولكن لماذا سمي باسم السيدة زينب ؟، وهل هي ابنة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم أم زوجته ؟.
– يقال بأنه قبر السيدة زينب بنت  الحسين حفيد النبي عليه السلام ولا ادري مدى صحة هذه المقولة … **وهل قبرها هنا ؟.
– لا ادري .. ولكن لا أظن ذلك .
 نقترب من المسجد أكثر … بنائه البهي والذي يظهر عليه ملامح القدم ، يلفت الانتباه  هناك في إحدى الزوايا شبك حديدي فيه ضريح مغطى بالقماش الأخضر …وشيء يثير الدهشة والاستغراب … نسوة ورجالا يلتفون حول الشبك … يتعلقون به … ينادون أم الأيتام ويدعونها… هذه تطلب منها إزالة غمتها … وهذه تدعوها لتساعدها على الإنجاب … وأخر يتوسل إليها وهو يبكي أن تشفي صغيره …!! ما هذا الذي أرى يا أبا سليمان ؟ بالتأكيد هو الشرك الأعظم بعينه … مهما بلغت عظمة هذه السيدة لا يجوز لنا أن ندعوها … ولكن هناك رب لها ولنا يجب أن نتجه إليه بدعائنا ، أدخل المسجد … أصلي فيه ركعتين لله تعالى أتجه للشيخ لأسأله بعصبية : ما هذا التخلف والجهل الذي يعاني منه الناس هنا ؟… ماذا يفعل هؤلاء الواقفون حول الضريح ؟ … إلا تعلم بأنهم يقعون في فخ الإشراك وهم لا يعلمون .

– يا أخي هؤلاء الناس مؤمنون حتى النخاع … لا يشركون بالله شيئا ، ماذا تسمي دعائهم للسيدة زينب رضوان الله عليها ؟ هم لا يدعونها .. وإنما يدعون الله تعالى من مكانها الطاهر .

** لا يا سيدي هم يقولون يا أم الأيتام أزيلي غمتي … يا أم   الفقراء ساعديني بشفاء ولدي …هذا هو الشرك وانتم عنه مسئولون !! أين توجيهاتكم ؟.. أين إرشادكم ونصائحكم بأن لا السيدة زينب ولا حتى الأنبياء يغنوون من الله شيئا ؟ … حتى الرسل صلوات الله عليهم لا يجوز دعائهم او الدعاء بواسطتهم . هؤلاء تنطبق عليهم الآية الكريمة ( وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) .

أنا في القاهرة .. قاهرة المعز لدين الله الفاطمي … أنا في الفسطاط .. فسطاط عمرو بن العاص … أنا في أرض الفراعنة … أنا في البلاد التي هاجر منها نبي بني إسرائيل قاتلاً لبلادي ليعود إليها بعد سنوات ثمان نبيا ورسولا … على هذه الأرض تلقفت عصا موسى أفاعي السحرة وأبطلت كيدهم وهنا أخرج يده من جيبه بيضاء من غير سوء … هنا ولد موسى .. وهنا تبنته حتشبسوت … من هنا طرد بني إسرائيل … وهنا تحالفت مصر الفرعونية مع مملكة الأنباط العربية … هنا التاريخ لثغ حروفه الأولى وانطلق إلى الدنيا .

على الثرى المصري بنى الإسكندر الأكبر مدينته الإسكندرية التي تحتضن البحر المتوسط وبني منارته الشهيرة والتي تعتبر واحدة من عجائب الدنيا السبع ، هنا وعلى بعد بضع عشرات من الكيلومترات وفي الجيزة تحديدا قامت الأهرامات ووقف أبو الهول حارسا للتاريخ وحاميا للفراعنة عبر الزمان .

هنا تألفت روح كليوبترا بروح حبيبها يوليوس قيصر ملك روما … على هذه الأرض ولدت جميلة الجميلات نفرتيتي .. ومنها كان أول الموحدين من الفراعنة على هذا التراب تلقفت زليخة نبي الله يوسف وراودته عن نفسها وهنا صويحبتها قطعن أيدهن … إلي هذه الأرض حضرت الكواكب وهنا تمردت أسيا على الفرعون وأعلنت إيمانها .. وقدمت الماشطة أبنائها ونفسها في سبيل إيمانها لتقدم لكل من أتى بعدها وسيأتي درساً في الصمود .

 أي أرض هذه التي أنا في رحابها وآي ذاكرة تستطيع أن تحتويها .

انتقلنا بعد ذلك إلى حي الحسين … وأيضا كررت فعلتي الأولى … بناء المسجد أكثر هيبة من مسجد السيدة زينب ومساحته أفسح وزواره هييء إلي بأنهم أكثر يقفون على الساتر الحديدي يلقون السلام على صاحب الضريح يتشبثون به يدعونه وهم يبكون يقفون على عتباته وهم خاشعون … أنظر للشيخ بعين يملؤها الغضب … وقلب حائر من سذاجة هؤلاء الناس … وسكوت أهل العلم عما يحدث حولهم وكأنهم يقرونه … يكفرون المؤمنين .. ويسكتون عن الكفر الحقيقي … الطقوس التي تمارس في السيدة زينب هي عينها التي تمارس في مسجد الحسين … يقترب مني سماحة الشيخ ويحدثني باللغة الفصحى التي تظهر واضحة بها اللكنة المصرية..لماذا تنظرإلي هكذا ؟.

 لأني استغرب سكوتكم عن الكفر والشرك … وعدم توجيهكم لهؤلاء الساذجين بأن هذه الأفعال لا تجوز وإنهم آثمون عليها … إنهم يرتكبون الكبيرة التي لا تغفر .

– لا يا عزيزي إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى .
** إذا هل يجوز أن اشتم الذات الإلهية بنية سب الشيء اعتراف به ؟ .

– لا أنت بهذا تخرج من الملة لأنه لا يتبع الشتيمة نية حسنة ، لماذا يا سيدي فأنا عندما اشتم أبيك مثلاً فإنني اعتر.

– أي نقاش هذا الذي تقول فيه … أنت كافر وشيوعي ملحد … أنت الآن تدنس المكان الطاهر لوقوفك فيه . ** هل أشركت بالله مثلما يفعل هؤلاء ؟ … عفوا ليس هم من أشركوا بل انتم يا من تنصبون أنفسكم أوصياء على دين الله تهبون من تشاءون شهادة الدخول إليه وتحرمون من تشاءون … آآه لو كنت ولياً للأمر .

– ماذا كنت ستفعل ؟.

** كنت سأنفيكم من الأرض لأنكم تعيثون فيها فسادا باسم الدين .

 خرجت من المسجد وأنا العن اللحظة التي حادثت بها هذا المدعي والذي يصلي الناس من خلفه ويقتدون بما يقول ، عندما خرجت سألني أبو سليمان ما بي .. فأخبرته بما حدث .

– يا أخي لا تجادل فهم إخوانيون ويعلمون ما لا نعلم ** لا يا عزيزي إنهم يأخذون من الدين اسمه والعمامة وإطلاق اللحى فقط ويستغلون الدين العظيم والقرآن الكريم وبعض الأحاديث لتمرير مصالحهم ، أي دين هذا الذي يعتنقون ؟… أليس هذا الذي يحدث في الجزائر ومصر وبلاد الأفغان منهم ؟.

– يمكن قالها وهو متردد .

 لا يا أخي منهم فهذه الجماعات التي أسسها حسن البنا على أساس تكفيري بحت ومن بعده جاء (سيد قطب) إبراهيم حسين الشاذلي الذي كفر المسلمين كافة الأئمة والمأمومين ، والنبي عليه السلام نهى عن تكفير المؤمن ما لم يثبت بالدليل انه كفر كأن يعلن عن كفره بالقول والفعل .

من هناك نعود إلى البيت وقد شارفت الشمس على الرحيل … لأننا سنقوم بجولة أخرى ليلية ولكن أين ؟ لم تحدد بعد .

 بعد أن وصلنا بقليل حضرت الساحرة سحر لتوقظ الشيطان المختبئ بداخلي

– وقالت : ” ما بدري يا بابا متنا م الجوع وحضرة الست ماما رفضت أنا ناكل قبل ما تيجو”.

** (أخوك لوتس راح السيدة زينب وسيدنا الحسين وتخانق مع أئمة المسجدين .

– ليه يا بابا؟.

** اسأليه .

– ليه يا آبيه ؟.

**  لا لشيء لم نتشاجر وإنما تجادلنا ( وما لقيتش تجادل إلا دول ؟) على كل حال كده كويس نوفر وجبة ما إحنا كده مش ح نتعشى ” صوت أم سليمان يأتي من الداخل عبير نادي أختك وتعالي نحضر ألغدا تسير سحر وقلبي يسير بأثر خطوها وهي تردد غدا إيه اللي أنت جاييه تقولي عليه ” لحظات وكنا نحيط بالمائدة … وبدون مقدمات قلت : عندما جلست أنا لن استخدم الشوكة والسكين .

– ليه يابني قالت رندا؟.

** لأني لا اعرف .

– نعلمك .

** لا أريد التعلم ، طيب زي ما أنت عاوز بس إحنا ح ناكل بيهم .

** لكن لن تجدي ما تأكليه لأن تناول الطعام باليد أسرع وألذ .   

       تناولنا العشاء وحضرت القهوة بعده … آه كم هي رائعة من يدي الصغيرة عبير بعد احتساء القهوة قال أبو سليمان سنذهب إلى السينما اليوم افتتاح فيلم ( ) والتذاكر موجودة من يومين هيا يا بنات اجهزوا بسرعة وأنت يا أم سليمان وأنت يا أبو صخر وهنا يثور السؤال في النفس هو من يأخذ اهل بيته من الاناث الى دور السينما  أي أناس هؤلاء وكيف يتعاملون مع أبنائهم وبناتهم .

كان الفيلم في أول أيام عرضه .. ياااه كم العدد القادم لحضوره … أبطاله نجوم ولكنهم ما زالوا في بداية الطريق … دخلنا إلى السينما التي تكتظ بالبشر من الجنسين … جلس أبو سليمان إلى جانب زوجته وكانت لجانبي الشقية عبير … هذه المراهقة التي لا تدع شيئا يمر دون سوأل أو استفسار أو تعليق كثيرة الحركة والضحك بس يا عبير عاوزين نسمع الفيلم “طيب خرسنا ” قالتها وهي تضحك .. ساعتان من الصمت الذي ساد المكان ولم يكن يخترقه شيء إلا أصوات المكسرات وأحيانا ضحكات الشقية .

انتهى الفيلم وخرجنا وتصادفنا على الباب مع  الفنانين الحاضرين دار نقاش بسيط  شعرت من خلاله بأنهما فارغين ثقافيا … فنجوميتهم لم تمنحهم شيئاً وهذا أثبت أن الفنان لا يستفيد مما يقدم إلا الحفظ الذي ينساه بعد أن ينهي التصوير.

ركبنا السيارة وسألني أبو سليمان إلى أين تريد الذهاب غداً … إلى الأزهر والحلمية وبعدها الأهرامات .

غداً عطلتي وسأكون معكم قالت سحر … ردت رندا لا سنكون كلنا في هذه الرحلة … يا فرحتي بالنجوم التي ستضيء قلبي ودربي غداً … آه أيها الغد بالله عليك لا تتأخر، وعندما وصلنا إلى البيت سهرنا سويا ولأول مرة أتجرأ واطلب القهوة فركضت عبير إلى المطبخ غابت قليلا وعادت بالقهوة بقيت سهرتنا تدور حول رحلت اليوم ومجادلة الشيوخ والفنان الذي لا تمنحه نجوميته شيئا بل لا يستطيع الاستمرار في دربها إن لم يثقف نفسه ويشتغل عليها … غادرت سحر لدقائق وعادت ومعها ورق اللعب وقالت سأغلب من الآن  بابا ولا آبيه لوتس … شعرت بالفرح وهي تناديني بأخيها من الممكن أن سر فرحي هو أني سأقترب منها أكثر سأتأملها أكثر .
** قلت وماذا تلعبين؟.

– قالت الكومي .

** والمغلوب قلت .

 يركض إلى المطبخ شاي .. قهوة .. عصير ، ** وشروط الفوز ؟.

قالت نلعب ثلاث مرات من يفوز مرتين هو الفائز وافقت على ذلك وكان كل أملي أن أفوز لأتذوق قهوتها … والعصير المحلى برضابها أي أخ فاسد أنا … ملعونة هي أفكاري … وملعونة هي نفسي التي تبدو في غاية الرخص عندما تلتقي بامرأة … لعبنا وغلبتني … آآآه من إحراجي وخجلي .

– هل تعرف طريق المطبخ قالت وأبو سليمان يضحك .

** لا ..

– سأدلك عليه قالت رندا اغلبي أبيك عشان بكره يكون دوره وأنا سأذهب مع اللوتس… الآن يا فرحتي بهزيمتي… لما لا استقر على واحدة أتعامل معها أمنحها اهتمامي وأدع الأخريات ولكن أنا كنت بعكس ذلك أينما رأيت  الجمال اضطربت وفرحت وتمنيته وتعاملت معه على أساس ما أتمنى .

ذهبنا إلى المطبخ رندا وعبير وأنا  تم تجهيز الشاي وبعده القهوة وأخيراً كان العصير آآآه كم أنا سعيد .. هل يوجد في الكون مثل هذا التعامل ؟.

 أبحث عن نفسي فأجدها مكبلة بقيود شيطاني  ودوما ما تنقذني بدويتي … كل ما يحدث مني فقط بيني وبين نفسي الملعونة … الحمد لله دوما تنتصر بدويتي وتربية أهلي ، في حوالي الثانية صباحا استأذنت وصعدت لغرفتي … بدلت ملابسي واستلقيت على سريري ومن فرط نشوتي وسعادتي لا أدري كيف غصت في بحر النوم .

كانت الساعة حوالي العاشرة عندما قرع الباب … نهضت من سريري وأنا اشعر بنشاط يكفي الكون … اتجهت إلى الباب … فتحته وإذا بهن الوردات الثلاث … ” لسه نايم … لا أنا صاحي من الصبح … باين على شكلك إنك صاحي … يا الله مفيش نوم ..” دقائق والحق بكن … آه ما أجمل صباحي وما أبهاه … وكيف لا يكون هذا الصباح جميلا وأنا أفتح عيوني على النور الملائكي … وأصوات العنادل تداعب قلبي قبل سمعي … استيقظ شيطاني … آه ما أسعد من كانت من نصيبه إحداهن … وبالرغم من استعاذتي بالله منه إلا انه ظل يوسوس بداخلي يعزف على وتر الرقة والجمال لأنه يعرف بالتأكيد شعوري نحوه … أغتسل وارتدي ملابسي ، أهبط السلم وأنا أدندن جانا الهوى جانا ، أجلس إلى المائدة ونتناول الفطور المكون من الفول المصري والفلافل والمربى والبيض المسلوق ، بالنسبة لي تناولت ما أريد قبل أن أهبط إلى الصالة .. شبعت وأنا أشتم أريج السوسن ورائحة الياسمين وهي تفوح من الحديقة التي وقفت ببابي وأيقظتني … لقيمات تناولتها أتبعتها بسيجارة … قليل من الوقت ونكون جاهزات للخروج معكم … ها نحن ننتظر قلت … ؟ مثلهن لا تحتاج  للزينة … يكفيهن ما وهبهن الكريم من جمال … فقط يرتدين ملابسهن ويهبطن … وفعلا حضرن بمكياج خفيف ، ركبنا السيارة … سقطت على أرض الذاكرة صورة فاطمة لا أدري كيف ؟… اشتعل القلب شوقاً .. واضطربت المشاعر وقريني المحترم راح يقارن بين الحسان أحاول أن أبعده وأفشل ، أقلب أوراقا بجيبي ،  كنت حصلت على رقم هاتفها … هاهو .. أرسله إلى جيبة أخرى ليكون منفردا… وهل يعقل أن يختلط بغيره وهي الآن منفردة في القلب والخيال .. وكيف ذلك وأنت مع الحوريات في الجنة الصغيرة .. لا أدري

 كل ما أعلمه أن فاطمة بدموعها بابتسامتها بكلماتها تسيطر على كل مشاعري … في هذه اللحظة لا أرى سواها ، سأكلمها عندما نعود … لماذا أيها اللعين أتيت بها في هذا الوقت بالذات … لتفسد فرحتي وتشعل نيراني … وتحرمني من التمتع بما هو لدي الآن … لماذا تزور ذاكرتي في  هذا الوقت لماذا وألف لماذا ؟

نزلنا إلى الحلمية وما أدراك ما الحلمية … وهل هناك أجمل من الحلمية … الناس بسطاء … مرحون … المقاهي كثيرة في هذا الحي الكبير … صحيح أن الحركة فيه لا تختلف كثيرا عن السيدة او الدقي او غيره من الأحياء … إلا أن حركة التجارة فيه أنشط والامتداد العمراني الحديث وصل إليه بشكل أكثف من باقي الأحياء النساء هنا لا يختلفن كثيراً عنهن في الأحياء الآخرى ولكنك تشعر براحة غريبة وأنت تتجول فيه نظرات الناس إليك  تشعرك بالطمأنينة .. معظم الصبايا يرتدين العباية السوداء ” الملاية ” ومع ذلك تسمع الرصيف يداعبهن … يناغي خطوهن … ويناجي السماء أن لا ترحمه من وطء أقدامهن، ما لاحظته أن معظم أبناء المناطق الشعبية هم في الأصل من محافظات أخرى تمتد من الصعيد حتى الإسكندرية .. فإما ولد هنا أو لجأ إلى هنا في بداية مشواره مع هذه الحياة طلباً للرزق في المحروسة .تجولنا في السوق .. أشياء كثيرة تلفت الانتباه … محلات النجارة أو ما يسمى هناك ” الموبيليا ” بعضها يصنع بواسطة الآلات الحديثة وبعضه يدوي الصنع من ألفه إلى يائه … الأسطوات ينتشرون أمام المقاهي وعلى الأرصفة المقابلة او المجاورة لمحلاتهم والمتدرب او ما يسمى الصبي دائما في المحل لا يغادره إلا بوجود المعلم ” الأسطة ” وبناء على طلبه .

 من الحلمية انطلقنا إلى خان الخليلي هذا السوق التراثي .. كل أنواع التجارة موجودة فيه … العطارة … الشرقيات …الأعمال اليدوية التي صنعت بمنتهى الدقة والفن … رائحة مواد العطارة تملأ السوق وتختلط بروائح النساء فيزهو خان الخليلي على غيره إنه الحارس على التراث المصري .

من خان الخليلي إلى الأزهر ، وهنا تنشط الذاكرة من جديد .. من هذا الجامع أو الجامعة خرج طه حسين والشعراوي وكثير من رموز مصر ومثقفيها وعلمائها … هذا المكان الصانع للمتناقضات فمن قامات خدمت الإنسان المصري والعربي ودافعت عن حاضر الأمة ومستقبلها إلى قامات في التخريب والإساءة للأمة والدين فهنا تأسست حركة الإخوان المسلمون .. ومن هنا انطلقت أول المجموعات التكفيرية على يد التكفيري الأول حسن ألبنا ومن بعده سيد قطب(إبراهيم حسين الشاذلي) والتكفيري او أمام التكفيريين عبد الحميد  كشك .. إلى أن وصلت لهؤلاء الذين لا يردعهم شيء عن تكفير من لا يسير حسب مصالحهم وخدمة لأهدافهم … وانتشرت هذه الجماعات من مصر إلى معظم دول العالم … هذه الجماعات التي انبثقت عن جماعة الإخوان المسلمين والتي تنظر إلى من لا يشاركها الرأي ويؤمن بأفكارها أو من يحاول مناقشتها ومجادلتها كافراً أو مرتدا وجب عليه القصاص … منها طالت اليد وانتشرت في دول الجوار … لسانها التكفير وفعلها القتل الذي لا يفرق بين أحد خروجا عن قوله تعالي ” من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض  فكأنما قتل الناس جميعا ” . نتجول في المسجد العظيم البناء  وفنيات الزخرفة فيه والآيات القرآنية تنير جدرانه وتجبرك على الالتفات إليها و الدخول إلى المسجد والبقاء فيه .

الجيزة و الأهرامات

نصعد إلى السيارة متجهين إلى الجيزة … أطلب من أبي سليمان التوقف لتناول شيئاً من المشروبات …يتوقف عند أحد المقاهي ، يهبط أبو سليمان برفقتي بعد أن سألنا كل واحد عما يرغب … كلهم يرغبون بالعصير باستثنائي وأنا الذي دوماً أتمتع وأنا احتسي القهوة …عدنا إلى السيارة التي بدأت تحتسي الطريق بنهم … تسألني الشقية عبير عما أشرب فقلت إنها القهوة … قالت هل لي أن أتذوقها .. فناولتها كأس القهوة … ارتشفت رشفة او اثنتان وأعادتها وهي تقول ” ياه دي مرة قوي ” نهض الملعون بداخلي وراح يقود عيني لتطوف حول الكأس لعلي أجد اثر شفاهها عليه … وأخيرا عثر الملعون على الحل إشرب من كل الجهات فبالتأكيد ستتذوق طعم شفاهها الطرية .

 ألعن شيطاني وألعن نفسي على هذه الأفكار والوساوس ، تناديني الرائعة سحر التفت إليها فتقول ابيه مرة أردني نزل مصر معرفش يطلع ” قلت بداخلي آه ما أسعده وهل بغير مصر يجد المتعة والغرق الشهي .

 أنظر إليها .. أتأمل تلك العيون الضاحكة وتلك الشفاه الباسمة … آه لو كنت كلمة أو حرف فلن أخرج من بين شفاهها ، أتوجه إلى أم سليمان بالكلام اليوم لم أسمع صوتك … فقالت أنت لم تسمعني .. بالعكس تعبت كثيراً من الحديث … يا إلهي هل غردت بكلماتها ؟، كيف لم اسمعها ؟

ويرد شيطاني وأصوات الموسيقى وتغريد العنادل يغزو مسمعك .

 وفجأة إعصار من القلق يخترقني اللسان يتوقف عن الحركة وكأنه تحول إلى قطعة من الخشب   ، صوت فاطمة يجتاحني … صورتها ترتسم أمامي … أسمعها تناديني .. تعاتبني … تعاتب الأخ الذي ما أن عثرت عليه حتى فقدته من جديد … الأخ الذي وعدها على أن يبقى على اتصال دائم معها ها هو ينساها ولم يعد يكترث بالاطمئنان عليها وكيف له ذلك وقد وجد الدنيا الأحلى الدنيا الأجمل … أين وعدك بأن تتابع إخبارها أينما كنت ومع من كنت ؟… اسمع الآهات الصادرة من قلبها آه ما أقسى الناس … آه يا فاطمة كم أنا قلق عليك .. وكم أنا مشتاق إليك … مشتاق لتلك اليد الرقيقة الدافئة لأن أقبلها … أشتاق لتلك النظرات الحزينة لكي تلم شتات الروح … مشتاق لتلك الدموع التي تعبر عن وجعي … آه يا فاطمة مذ عرفتك وأنا أشعر بأنك تبكين عني وعلي … أين أنت يا فاطمة .. يا قصيدة الحياة وأغنية القلوب … يا صدق المشاعر … كيف الوصول إلى حماك … أسمع ندائك ولكني أعجز عن الوصول إليك .

 أحاول الخروج من عالم فاطمة والعودة من جديد إلى عالم الملائكة … إلى فتنة الورد التي بصحبتي … وعملاق الجود الذي يرافقني .. أتأمل تلك الحورية … لا بل تلك الجنة التي أنبتت هذه الزهور … أحاول الهروب من تلك الساعات التي قضيناها من عمان إلى السويس … أحاول الفرار من حديث شجي وابتسامات ارتسمت على شفاهنا وأهديناها للبحر… ولكن كيف وصوتها يعلو بداخلي حتى غيب عني كل الأصوات المحيطة … أضع رأسي بين كفيّ وأغيب في الصراخ الذي بات يجتاحني على فترات … كلما زادت متعتي أشعلني من جديد .. كلما استيقظ الملعون بداخلي زارني صوتها .. جاءني ندائها ليزرع الألم والتساؤلات بداخلي .

أبو صخر .. الحمد لله على السلامة ها قد وصلنا … لم أشعر بالوقت طال أم قصر أضحك بجنون من فرط سعادتي .. ويخترقني صوت فاطمة من جديد ليبعدني عن الدنيا وأبو سليمان دوما هو المنقذ .

ترجلنا من السيارة .. ساحة كبيرة مكتظة بالبشر .. جنسيات مختلفة وأشكال مختلفة من كل أصقاع الدنيا كلهم جاؤوا يمتعوا أنظارهم بالأثر الذي تركه أجداد المصريين .

– هل تريد دليلاً سياحياً قالت رندا ؟.

** وكيف يمكنني الوصول إليه  قلت .

– ردت أنا لها .

 نتقدم نحو الشموخ … نحو المجد الخالد …نتجه نحو تاريخ  خالد بأصحابه وما زال يقف يحاكي الحاضر ويسخر منه … إلى جدود يهزأون من أبنائهم  الذين ينتمون إلى أجداد سادوا الدنيا تمتعوا بالأمن والاستقرار … وهم أصبحوا أتباعا لمن ليس لهم من التاريخ أي نصيب … نسير باتجاه أناس ما استطاع الزمن ونوائبه أن يؤثر فيهم … أو يبعدونهم عن الصدارة وواجهة التاريخ … ما زالت أرواحهم منذ ألاف السنين تحضر في المكان وتحرسه من صروف الدهر وتحميه من عاديات الأيام .

 ندخل الهرم الأول والذي كاد أن يعانق السماء … آه كم هي عظيمة مهابة المكان … آآه ما أروع الأيدي التي بنت ونقشت … يا لهم من فنانين عظام ..ومن علماء أفذاذ .

نتجول في ثنايا المكان … ورندا تروي التفاصيل لهذا المعبد … للمثوى الأخير لملوك العزة … فترة حكم خوفو و الإنجازات التي تحققت في  فترة حكمه … من خوفو إلى خفرع ومن ثم منقرع …. إلى تلك المقابر … المعابد … يا لها من حضارة حرام أن تزول … آه من ظلم القدر … كيف لنا أن نرث هذه الحضارة … كيف ونحن كأمة لا نستحق الانتساب إليهم أو حتى حجراً في إحدى هذه المعجزات .

نخرج من تلك الساحة العظيمة بكل ما فيها … نسير قليلا .. هناك يربض أبو الهول حارسا … يتأمل القادمين والمغادرين … يقف شامخا … من يمر من أمامه لابد له أن يقف أمام عظمته  يحدثه ويخضع لما يريد أبو الهول .. يقف مكانه محاولاً أن يمنح أبنائه وأحفاده  الصمود … ويشحذ هممهم ويهبهم العزيمة والإصرار والقدرة على التحدي والعطاء … عطاء الأقوياء وليس عطاء الأتباع . لا بد للزائر هنا أن يدهش لا بل يذهل لما يرى من عظمة وإعجاز خالد لا يزول و لا تمحوه الأيام .    

سلام عليكم دار قوم خالدين سلام عليكم بناة الحضارة ورموزاً رغم انف الأيام باقيين … سلام عليكم من جيل ما ذاق إلا مرار الهزيمة … السلام عليكم فاربضوا بأرضكم أن شاء الله أمنيين  السلام عليكم معجزة التاريخ وسيف الزمن ومعنى الحضارة فناموا هانئين ولا تقلقكم أحوالنا فقد اعتدنا أن نكون أتباعا فإذا ما تسيدنا سنفنى .

أين نحن من عصر انقضى بكل ما فيه وبقي أهله شهود زمن … كان التحدي شعارهم والبحث عن المعرفة عنوانهم … كانوا يحلمون باختراق الفضاء والوصول إلى السماء … تركوا لنا إرثهم ومضوا للخلود على أمل أن نكمل المشوار فخذلناهم والسؤال الذي يتردد هل يحق لنا الانتساب لهم .

 أثناء سيرك في المكان  لا يمكن إلا أن يستفزك لتسال وتستفسر ..هنا سارت كليوبترا … هنا أصدرت أوامرها للجيش بالاستعداد للدفاع عن الأرض والعرض ، هنا مرت بالعمال وتفقدتهم ؟ ومن هنا خرجت نفرتيتي لتستعرض جمالها وتفتن الألباب ويحول الناظرين لعبيد لهذا الجمال الطاغي ولروعة الأنوثة … من هنا نهضت حتشبسوت لتنقذ موسى من الغرق … لتأخذه وتتبناه … وفي هذا المكان صرخت أسيا ” ربي ابن لي قصراً في الجنة ونجني من القوم الكافرين … هنا ولد أول الموحدين من الفراعنة وهنا قتل .     

 الساعة الآن التاسعة هيا يا أبو صخر لنعود .

 هيا ولكن أبو سليمان أتمنى أن انزل في أول حي السيدة .

– لماذا ؟

 ** لا أدري بي شوق لأن أسير فيه ليلاً

– ولكن هل تستطيع العودة للبيت .

 تقاطعه الفاتنات سنكون معه يا أبي ، آآه ما أسعدني … سأكون برفقة الملائكة لوحدنا سنيسر في المكان … سأضحك دون أن أخشى من نظرات أبو سليمان … أعوذ بالله منك أيها الملعون .. عد لنومك ولا تستيقظ … وعندما وصلنا أول الحي توقف أبو سليمان وقال هيا قد وصلنا … لكم أن تترجلوا وتعودوا للبيت سيراُ على الأقدام .

مدهش هذا المنظر .. خيالي هذا الواقع … إسطورية الحياة هنا .. هل يعقل أن هذا ليل ؟.

 وان كان كذلك لم الناس لا تعود للبيوت … لم خلق النهار … الشوارع ما زالت مكتظة … والمقاهي مزدحمة ؟ أين عمان منك؟.

 صحيح أن في عمان سهر ولكن بحدود … أين الزرقاء ثاني مدن المملكة ببلادي والتي تغرق في نومها بعد العشاء … هنا الإنسان يعيش حياته كاملة بلا نقصان … النوم لا يسرق منها إلا لحظات قليلة … هنا القاعدة تقول :

ما أطال النوم في عمر ولا    

                   قصر في الأعمار طول السهر

ما عدا ذلك فهو الاستثناء… إبتعنا الذرة المشوية … أكلنا الكشري … ركضنا خلف بعضنا … تجولنا في كل أنحاء الحي .. . ولا أدري كيف ثار السؤال بداخلي وينطلق على لساني … ألا تخشين من كلام الناس وانتن تتمشين في هذا الوقت المتأخر من الليل برفقة رجل غريب ؟.

– ردت سحر أولا نحن واثقات بأنفسنا ثقة لا يزعزعها شيء في الوجود .. والأهم أن الأهل واثقون بنا وبمن معنا لذلك لا يهمنا ما يقول الناس … ثانيا هل تخشى من شيء من تسير برفقة أخيها او عمها ؟. أذابتني كلماتها خجلا .. جعلتني أبصق على نفسي لتلك الأفكار التي كانت تراودني … وصلنا إلى البيت منهكين … سحر فنجانا من القهوة السادة … عفوا أريد كوبا من القهوة … حاضر جلست إلى أبي سليمان قليلا من الوقت وصعدت إلى غرفتي … بدلت ملابسي وجلست قبالة التلفاز … أشاهد برنامجا ثقافيا وكان ضيفه الشاعر الكبير احمد فؤاد نجم .. والحديث كان يدور حول تجربته الحياتية سواء في السجون او انخراطه في الشيوعية إلى أن وصل المذيع لسؤاله هل تؤدي العبادات ؟ وكانت الإجابة بالنفي بحجة أن الله لا ينظر إلى أفعالنا وإنما ينظر إلى القلوب .

الباب يطرق … تفضل وإذا بها سحر تحمل القهوة والماء وتسألني أن كنت احتاج شيئا أخر  فأجبت بالنفي .. فقالت وكيف ستنام بعد القهوة ، أنا عندما اصل إلى مرحلة النوم لا تمنعني القهوة ، سحر ، نعم يا آبيه .. هل لي من خدمة ؟ أنت تؤمر .. خذي هذا الرقم واتصلي به واسألي عن فاطمة ابلغيها تحياتي وقلقي عليها .. أن سألتك من تكونين قولي لها انك ابنة أختي … ولم لا أكون ابنة أخيك ، لان أخ الأم محرما قطعيا إلى الأم وذريتها إلى يوم الدين إذا لن أناديك بآبيه بل ” يا خالو ”  يا إلهي مأجملها من فيك يا سيدة الحسان ، اتصلت بها وردت عليها فوراً أخبرتها بما طلبته منها وعن سؤالي عنها ورغبتي  بالاطمئنان عليها وعلى الصغير …. تصبح على خير يا خال … لا يا آبيه .. تصبح على خير يا آبيه وأنت من أهله .

 هذه المرة لم تتحرك أي مشاعر كما كان في المرات السابقة  .. توعدته بالويل والثبور وعظائم الأمور  أن تحرك بداخلي .. وأنا الذي كنت اشتاق إليه لجماره التي يلقيها في ذاكرتي .. أما الآن وخصوصا هذه الأيام فلا لأنه لا يعقل أن أواجه الكرم بالنكران … ولا الطيب بقلة الأصل ولاني في بيت الأكرمين يجب أن يبقى بعيدا وفي مثل هذا البيت لا وجود للشياطين  .

  

على ضفاف النيل

أي شعر هذا الذي يلقيه النيل على الأرض فتنتشي وتزهو بثياب الفرح … وأي نظرات يرسلها النيل إلى التراب فيخضر ويزهر … وأي غناء وأي تراتيل تهديها الأرض للنهر المقدس فيتقبلها منها ويهبها الحياة بطهارتها .. والربيع الدائم .

أرواح جميلات الفراعنة تشرق في موعدها كل عام ليفيض النيل ويجدد الطمي … ويفيض الخير … تعود كما تعود شقائق النعمان لتزداد الضفاف جمالا على جمالها … تقترب النجوم من الأرض لتعود لسمائها متألقة بثوب نفرتيتي .

 انسياب المياه هناك ومسيره الثابت كعذوبة النساء الكواعب … نسمات المساء العليلة التي تنعش الأجساد … كأنفاس الحوريات اللواتي يرافقنني .. أو كمداعبة اليد الرقيقة للجسد المتوهج … أو كموسيقى عذبه تغزو قلب عاشق فيهدأ اضطرابه .. ويتلاشى توتره .

 أي متعة هذه التي تشعر بها وأنت تجلس على ضفة النيل … يأخذك المشهد إلى عالم السحر فتعود لربيعها الروح … وتزهر بأجمل الورود … الأمواج الصغيرة المتتابعة تنقلك إلى عالم الأحلام .. إلى عالم الشعر والرؤى الصادقة … لا تود مغادرة المكان … وهل منا من يرغب بالرحيل عن الجنة أو وداع الملائكة … هذه هبة السماء للأرض المصرية ؟ لا تدري كنه المشاعر التي تنتابك وأنت تلامس الماء بيديك .. عفواً وأنت تتعمد بتلك المياه لتطهر روحك مما علق بها من فساد الأيام .

بعد اقتراح من الرائعة الشقية … المراهقة الحالمة صاحبة الأنفاس العطرة … أخذنا مركباً صغيرا لنقضي بعض الوقت مع قدسية المكان ، نعتلي صهوة الماء والغروب منا يقترب ويرخي سدوله على كتف السماء …آه ما أبدعها من لوحة رسمتها يد الإله … ننظر من خلال مرايا المركب المطاطي والتي تعكس ما بداخل الماء للناظر .. آه إنها أرواح أولئك الجميلات اللواتي قدمن قرابينا لهذا النهر العظيم ليرضى فحولهن أسماكاً وزهوراً في هذا الماء الذي يهبط من الجنة … آآآآآه ما أروعها من لحظات وأنت ترى النيل يغسل شعر الشمس وهي تغادر لتشرق في مكان أخر من العالم … آآه سحر لو كنا في زمن الفراعنة … لكنت أنت ورندا وعبير من عرائس النيل …؟ سحر هل بيتكم بعيد من هنا سألتها … قالت ليه يا آبيه … قلت لماذا آبيه وليس عما او خالا … قالت لأنها الأحلى والأجمل وتجعل كل منا أقرب إلى قلب الأخر ونفس الأخر … فلا حواجز تفصل بين الإخوة ولا غضب يدوم بينهم … الأخ يبقى مكانه القلب والروح… لماذا سالت عن البيت يا أخي والمسافة … كنت ارغب أن أمشيها … تقصد نمشيها … ” شوف الهوانم” … بالتأكيد (موافقات ) مادام هناك لب وذرة وبطاطس ” إذا هيا . نتابع سيرنا على الرصيف وأيدينا متشابكة… يا إلهي من هذه الوجوه التي لا يتعبها عمل النهار … ولا يزيدها السهر إلا إصرارا على الحياة … هؤلاء هم القادرون على أخذ حقهم من الدنيا …الابتسامة ترتسم على كل الوجوه …توحدهم النكتة والدمعة .. وتجمعهم الضحكة .

آآه أيتها الغوانج … يا أسرات القلوب وسارقات العقول وكيف لهذا الشباب أن لا يعشق الحياة وانتن تزهرن فيها ويملؤها عطركن … الشباب والصبايا يسيرون في الشارع دون خشية من رقيب … يتجهون لدور السينما والمسارح دون أن يخشى من احد إلا الله والتكفيريين … بيدي اليمنى تمسك سحر وباليسرى تتعلق عبير والى جانبها عمتها الفاتنة المثقفة رندا  .

 لا أشعر بشيء من شدة فرحي .. كيف لي أن أغادر المكان الرائع … كيف لي أن أبتعد عن النجوم التي سطعت في حياتي وانتشلتني من جب الأحزان الذي غرقت فيه ردحاً طويلاً من الزمن وسأعود إليه … وكيف لي أن أرد المعروف وطيب المعشر والثقة المطلقة التي منحني إياها أبو سليمان والرائعة أم سليمان ، وقبل أن نصل إلى السيدة ندخل إلى السوق … تعالي يا عبير وأنت يا سحر ورند … كل واحدة تختار هديتها / ” ليه كده قالت رندا … ما تزعلينيش منك قلت لها ” ما تنسيش ماما يا سحر وسليمان … ماشي يا آبيه ) …ولكن ماذا اختار لأبي سليمان … فقلت خير ما يجعله يبقيني بذاكرته هو الساعة … فابتعت ساعة أنيقة وبنفس الوقت معقولة السعر  حملنا ما ابتعنا وغادرنا السوق والفرحة تملؤنا ، سأل أبو سليمان ماذا تحملون فردت سحر اسأل ابيه لوتس … نظرت إليه قبل أن يتكلم .. الست أخا لك … بل ابنا … وعلى هذا ماذا أكون لهن الست أخيهن … بالتأكيد إذا لا يسأل الأخ عما يقدم لأخته ويسأل عن تقصيره بحق أهله فللأخت على أخيها حق الواجب وللأهل حق البر … اسمحي لي يا ماما ..وقدمت لها هديتها حضنتني والدموع تترقرق في عينيها … شعرت بفرح الدنيا يغمرني والسعادة تكاد تقتلني وأنا اشعر بحنان الأم يملؤني ودفئها يتسلل إلى مشاعري .. إلى قلبي . وقدمت لأبي سليمان هديته … شكرني وهو يقول والله لا داعي لكل هذا . الغزالات هبطن السلم وصوت خطوهن موسيقى وعبير تدندن ” نازلة السلالم اسم الله عليها ” نزلن يتمايلن … إيه رأيكم ؟ رائعات … أي نجوم هذه التي تسطع في السماء … لو رأتكن النجوم لتدارت خجلا انتن نجمات الله على الأرض .

وأنا احتسي القهوة قلت لأبي سليمان أود أن تأذن لي بأن أغادر غداً …. قلتها وأنا أتقطع … والله ما وددت المغادرة ولا البعد … إلا لأني مرتبط بالعمل … والشوق لأهلي يذبحني … إلى أين ؟ للإسكندرية ومنها بإذن الله للأردن… خذني معك قالت الشقية … وبكل صدق الدنيا ولهفتها قلت أتمنى ، أبو سليمان والأخوات التي لم تلدهن أمي … الأخوات القريبات إلى القلب الساكنات الروح … ليس غداً … منذ أتيت إلينا لم نرك إلا لحظات … لم نجلس سوياً ..غداً لنا .. حقك يا سيدي … كنت أتمنى لو قال الأسبوع القادم او الشهر القادم .

جلسنا نشاهد التلفاز … ضحك ولعب إلى ما بعد منتصف الليل … وما أن صعدت إلى غرفتي وبدلت ملابسي حتى دخلت الملائكة لغرفتي … وهن يحملن الشاي والمكسرات … أنت بكره هنا مش مسافر … يعني مفيش نوم الليلة ورحنا نتحدث ونضحك كل واحدة منهن تحدثني عن نفسها عن أحلامها وأمانيها … لماذا ؟ أهو تألف الأرواح … أم تراه انفتاح القلوب … تمنيت أن أكون قادراً ولو على المساعدة … آآه لو شقيقاتي عاملنني بنفس الطريقة … بقينا على هذا الحال حتى دخلت أشعة الشمس من شباكي … لتحيي النجوم التي أنارت ليلي ومنعتني من الحلم … نهضت رندا وقالت لوتس أوعى تنام ح نحضر الفطار … ماشي … استلقيت على السرير واجتاحتني موجة من البكاء … ابكي بحرارة ولا ادري سببا لهذا البكاء … هل هي دموع الفرح بهذه الأخوات اللواتي لم تنجبهن أمي … أهو الحنان والدفء الذي غمرني بعدما كنت أفتقده … الآني لم أرزق بمثل هذه الرقة والخفة والصدق … كل شيء ممكن … ولكن ما أنا متأكد منه هو أن الشوق سيقتلني للقائهن من جديد … وهل ستتاح لي الفرصة لزيارتهم من جديد … هذا متروك للقدر .. ولعبة الأيام .

 بسرعة البرق انتهى اليوم  الإضافي للزيارة وحان وقت الوداع بعد ليال عشر …جاء الموعد وأزف الرحيل … أي الكلمات سيطلقها القلب عند الرحيل عن الأهل … عن الحب الذي انغرس وسط الضلوع .. فتتفتح زهرة لوتس ولا أجمل … بأي المشاعر سأرحل وأيها سيبقى … الروح تتمزق … والأحشاء تتقطع … والقلب يأبى الفراق … هل سيسمح لي الزمن … هل سترضى الأيام … وهل سيكتب  القدر في سجلي زيارة أخرى … آآه كم أتمنى … ولكن كيف سأطفئ نار الشوق  لهؤلاء الكرام الذين أولوني جل عنايتهم وكانوا في غاية الكرم والبذل معي … بماذا   يمكن أن تصف إنسانا عاملك ابنا … لم يفصل بينك وبين بناته وأخته إلا جدار … كنت تسمع صوت ضحكاتهن … و لو تأملت أكثر كنت تسمع صوت الأنفاس شهيق وزفير  كل واحدة منهن … وعدا عن ذلك في أغلب الأوقات كن يسهرن معي حتى الفجر أو بعد الفجر … كن يتحدثن وكنت أسمع …كانت السعادة تغمرني وأنا أسمع كلماتهن … كنت أشعر بالنشوة وأنا أستمع لسيمفونيات ضحكاتهن … كيف سأداوي جرح الرحيل وحيداً .

الدموع تترقرق وسط العيون وأنا أمد يدي مودعاً أم سليمان الأم الحنون والفاتنة … رندا معنى العذوبة والرقة … سحر تلك الرائعة عبير هل سأجد في بلادي مثل هذه الروائع ؟ أودعهن ولساني متصلب وسط جوفي … أي ذكرى سأحملها … وبأي الألوان ستسطر … هل يكفيها الأبيض الناصع … أم تراها تزدان بالأخضر الزاهي ؟ أجمل عشر أيام عشتها في عمري … نسيت فيها جرحاتي وعذابات الروح … كيف ستنقش … وهل يتسع  لنقشها القلب ؟  .

هيا يا لوتس … أحمل حقيبتي … أصعد إلى السيارة ويصعد أبو سليمان … أنظر إلى تلك الأيدي  الملائكية … لم أعد قادراً على حبس دموعي … ولكن كيف لي أن احبسها وأنا أسير في رحلة الموت … رحلة العودة إلى بساتين الشوك وحقول المرار … سأعود إلى الجحيم والى العذاب ؟ الطريق يفلت من تحت العجلات بسرعة لا يكاد يلمحها بصري … والطريق الصحراوي طويلٌ  طويل .
الإسكندرية … أي مدينة التي سندخلها …ولم زيارتها ؟ طوال الطريق والصمت يلفني … أي رغبة عارمة بالبكاء …كما هي الرغبة بالعودة إلى حي السيدة زينب والبقاء فيه لولا أن جذورلي في عمان أحن إليها … لولا أن لي أغصان هي امتدادي في هذه الحياة … لولا هذا العشق لمدينة الفوضى والتعب … مدينة الصعاليك لما عدت .

يقف أبو سليمان في مدينة متناسقة بكل ما فيها …مدينة أوروبية بكل المقاييس … مدينة تضج بالحركة والحياة ، نهبط من السيارة باتجاه احد المطاعم … مطعم ملئ بالحسان والرجال … يطلب أبو سليمان الغداء  … بالنسبة لي لا رغبة لي بشيء في هذه الحياة … أبو صخر إن رغبت بالعودة فأنت تعود لبيتك وكلنا نقول أهلا … وإن رغبت بالذهاب إلى عمان فهي دارك ومنزل أهلك … أبو سليمان متى ستأتي إلى الأردن … لا ادري ربما شهر او اثنان . سأبقى على اتصال معكم … بالتأكيد فالوفاء شيمة الأردنيون وخصوصا البدو منهم الذين يقولون أنهم رضعوا هذه الصفة مع حليب أمهاتهم … لا أدري ما الذي يدور بخاطري … كلي أتمزق .   

هل من هاتف هنا … بالتأكيد … سار معي وطلبت الرقم … وإذا بصوت رائع النبرات يأتي من الطرف الآخر .. كلي أرتعش … أي سيمفونية هذه التي اسمعها تأتيني من الطرف الأخر … من هناك ؟ الو سمعتها … انشرح صدري … قفز قلبي … واستيقظ شيطاني من نومه استنجدت بربي فنصرني عليه … الأخت فاطمة … نعم … أنا لوتس أخوك … أهلا وسهلا عرفت صوتك … وكنت أتوقع اتصالك ” أنت فين دي الوقت ” أي أخ ينسى أخته ولا يسأل عنها، أنت تعلمين أني سألت عنك … وصلك قلقي عليك … كما وصلتك أشواقي وتحياتي … بالتأكيد ولكني رغبت بسماعها من أخي … لأشعر بمعنى الأخوة وحنان ودفء الأخ ” أنت فين دي الوقت ” أنا بالإسكندرية ( أنت هنا فين ) والله لا ادري ولكن بي رغبة عارمة لرؤياك ووداعك لأني مسافر مساء اليوم  ! خد تكسي وتعال لي ) وأملتني العنوان ، كتبته حفظته وطلبت من أبي سليمان إيصالي … قال والغداء .. تناوله أنت فأنا لا رغبة لي  … قال لم تصر على أن تغضبني وأنت مسافر ويا عالم ، تناولنا الغداء … أعطيته العنوان الذي لم يكن بعيدا عن مكان وجودنا أكثر من عشر او خمس عشرة دقيقة … وصلنا … قرعت الجرس … خرجت … بي لهفة لأن احتضنها ولكنها كانت الأجراء اذ احتضنتني وقالت حمدا لله على سلامتك … الشوق يقتلني وفرح اللقاء يختلطان بمشاعر الألم والحزن للفراق الذي سيحين بعد ساعات .

جلسنا .. تناولنا العصير التفت إليها … تتصلب نظراتي وأنا أراها جالسة كما حشتبسوت على عرشها … قليل من الوقت جلسته ومعي أبو سليمان ؟ ودعتها … تبادلنا الدموع وغادرنا حي المصنع الذي مشينا فيه ومن ثم السكة الحديد إلى دار الأوبرا ومتحف سيد درويش ولم يلفت انتباهي شيء ربما لشدة حزني … كل ما كنت اراه هو انعكاس  لصورة حي السيدة وفاطمة ، انواع مختلفة للحياة هنا … تظن النساء رجالاً في بعض الأحيان . فبعضهن تقود الدراجة النارية وهي ترتدي الجينز الكامل وعلى رأسها الخوذة ( ربما كن أجنبيات )  ورجال يسيرون على الأرصفة يتبادلون السلام والابتسام مرسوم على شفاههم .. أي مدينة هذه الذي اختار البحر الأبيض أحضانها ليسكنها … أي مدينة هذه التي أوقفت مد البحر .. وحطمت عنفوان أمواجه  ؟ أي ارض التي اختارها الاسكندر الأكبر لتكون موطناً لمعجزته … لمنارته … إلى أين تود الذهاب الآن … إلى البحر .. انظر إلى الشاطيء … هناك الفنادق الفخمة والشاليهات الرائعة .. أناس من كل أنحاء مصر هنا … لا بل ومن جنسيات مختلفة … اللون الأسمر يعلو معظم الوجوه … بماذا تحلم سمرة اللون على وجنات الصبايا هنا … ما الذي تريده السمرة من الحياة .

الرمل … الماء … اليابسة … البحر وجدلية البقاء … هذا الصراع القائم منذ بدء التكوين وحتى تقوم الساعة من ينتصر فيها … البحر أم الأرض . أسير فوق الرمل الذي أحس به يحضن خطوي بكل الدفء والحب … والماء يناديك … أيا من كنت مني ومثلي تعال إلي ، أي سحر هذا الذي يطغى على المشاعر والأمواج تمتد إليك محاولة سحبك معها . إلى هنا جاء الاسكندر الأكبر وأقام  إحدى عجائب الدنيا والتي أبى البحر إلا أن يسكنها قلبه ، وهنا وقفت وما تزال الأرض  بمواجهة عنجهية الحبيب البحر .. منعته من التقدم واكتفت بمداعبته … صراع دائم وحب خالد .

 الأجساد هنا لا أدري أن كانت هي التي تحتضن الرمل أم أن الرمل هو من يحتضنها تتوحد معه … أنظر إليها وأسمع العندليب الأسمر يصدح :

        دقوا الشماسي ع البلاج دقوا

         دقوا الشماسي من الضحى

        لحد التماسي دقوا الشماسي

         يا أحلى رمل وأحلى بحر

       وأحلى ميه جينالك مشتاقين

يا إسكندرية .

أي الكلمات التي يمكن أن تصف جماليات المكان … وإبداعات الإنسان … وأي المشاعر التي قد تحتوي روعة وهيبة البحر؟ .

الحنان الغريب … الدفء المدهش … الخيال الجامح الذي يمنحه الشاطيء والبحر للمتقرب إليه والمتمعن فيه … أي شعر يبدعه البحر وأي كلام ينثره الرمل … أي إحساس يمتلك الشاطىء وبحره عندما يتخللان تلك الأجساد الطرية الندية والشهية … آآه لو كنت حبة رمل … أو قطرة ماء لأخترق الجسد الأنثوي وأستقر فيه .

آه يا مصر … يا أرض الكنانة وبيت الفراعنة … ففيك أصل المدنية وعراقة البداوة … هي الأرض التي صدق عمرو بن العاص عندما وصفها بقوله :

ترابها ذهب ونيلها عجب … نسائها لعب شعب يجمعه الحب وشفافية الحزن … يجمعه الصدق والوفاء … ولا يفرقه عن إخوانه شيء إلا الغدر والخيانة . 

أرض الفراعنة التي تخطف قلب زائرها لتزرعه في دلتاها نخلة تسير نحو الشمس … نبتة قطن تزخر بالبياض والنقاء … أو عود قصب يفيض على الكون حلاوة ولذة … أرض تأخذ منك الروح لتتحد مع جزئياتها … أي وداع وأنت تكسب الإلهام والخيال المتدفق الذي لا يوقفه عن رؤياه وأحلامه شيء .

هل يليق الشعر بحضرة أبي الهول … وفي حضرة صانعي التاريخ ومجد الحضارة … هل تجوز في مثل هذه الأماكن إلا التراتيل والابتهالات لمن جلت قدرته أن يحفظ هذه الأرض موطناً للحب والجمال … ومنبتاً للوفاء والصدق والجود … هل يليق بها إلا أن تذوب فيها .

آآه فسطاط عمرو وقاهرة المعز … آآه ارض التحدي والصمود … يا أرضا أنجبت زعيم القومية العربية عبد الناصر فسلام على روحه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا … وبطل السلام  وصانع أكتوبر المجيد وأيضا سلام عليه يوم ولد ويوم ارتقى سلم الشهادة … يا أرضا استقبلت نبي الله يوسف وولته أعلى المناصب … يا أرضا لفظت بني إسرائيل وأنقذت نبي الله موسى من البحر … يا ديار هاجر واسيا .. يا أرض الأمن … يا من شهد لك الواحد القدوس بقوله ( ادخلوا مصر أن شاء الله أمنيين )

  السلام عليك يوم كنت … ويوم تبعثين … سلام مني إليك يا أرض الطيبين الطاهرين يا ارض فاطمة وسحر ورندا وأم سليمان.

ساحة الإبداع – أوبرا مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى