د. محمد سعيد شحاتة يكتب البنية السردية في قصة من وحي ليلة عاجزة
للكاتبة منال رضوان

تحاول الكاتبة منال رضوان في مجموعتها القصصية (طقس اللذة) أن تصاحب الحياة في بعديْها الإنساني والاجتماعي متنقلة بين تضاريس تلك الحياة بكل تناقضاتها من دروب وسهول وشعاب وأودية؛ فهي تصاحب المشاعر الإنسانية في تقلباتها المختلفة، وتموجاتها صعودا وهبوطا، فتتحدث عن الحب وعن الفقد، كما تتحدث عن الخداع والإيهام، وعن المعاناة الإنسانية بأشكالها المختلفة، وملامحها المتنوعة.
بين سرد الواقع وتشكيل الوعي:
تشتمل مجموعة(طقس اللذة) للكاتبة منال رضوان على ثلاثين قصة تتنوَّع بين الطول والقصر، وإذا كانت الكاتبة تحاول أن تصاحب المشاعر الإنسانية في تقلباتها وتموجاتها، وترصد معاناة الإنسان، وهي موضوعات تناولتها أقلام الكتَّاب بأشكال مختلفة، فإن المتأمِّل في مجموعة طقس اللذة يمكن أن يرصد جانبا آخر قد لا يلتفت إليه البعض؛ إذ نلاحظ تشكيلا لملامح مجموعة من القيم تمثل مرتكزات الرؤية الفكرية التي تسعى الكاتبة جاهدة في إبرازها؛ لتكون منظومة قيم لكل من يريد أن يرتقي سواء كانوا أفرادا أو مجتمعات، ومن القيم التي تنتبه إليها المجموعة قيمةُ الحرية، وهي من المرتكزات الأساسية التي نراها في المجموعة، بل تمثل بنية ارتكاز لكل القيم التي تسعى الكاتبة إلى تسليط الضوء عليها، ففي قصة العصا المقدسة نستشعر اهتماما بالغا بقيمة الحرية، وبخاصة عند الأطفال، ولكن المفارقة التي تتحرك من خلال هذه القيمة/ الحرية في القصة أن تأتي التنبيهات – على ضرورتها – ممن مارسوا حبسها عن الآخرين، تقول (كثيرا ما أجده يتكلم عن الحرية .. أكاد أجزم أنها القيمة الوحيدة التي يعتنقها) ثم تكون المفارقة حين نعلم أن من يعتنق الحرية قيمة وحيدة هو من مارس القهر على الآخرين (يتندر أحدهم مازحا: إن هذا الثمانيني الضخم كان مديرا لأحد أعتى المعتقلات، وقد أعفي من منصبه نتيجة تورطه في قضية أدانته بالتعذيب …) وهنا تنفتح الدلالة على أكثر من توجيه، فهل كان النص يريد أن يكشف لنا أن قيمة الحرية لا يعرفها إلا من شاهد فقدانها عند الآخرين؟ أو أراد أن يشير إلى أن الحرية لا ينبغي أن يتحدث عنها من ساعد في حبسها عن الآخرين؟ أو الإشارة إلى افتقادنا للشعور بالحرية حتى وإن كان من مارس حبسها عنا قد تخطاه الزمن، وأعفي من منصبه؟ كل هذه الدلالات وغيرها يمكن استنباطها من المفارقة التي أوردها النص، وتزداد الدلالة انفتاحا على تأويلات أخرى حين كان يمارس هذا الثمانيني لعبة إسقاط عصاه التي يتوكأ عليها فيهرول الناس إلى التقاطها (كانوا يتسابقون نحو العصا … أدركتُ بمرور الوقت أن جميعهم يدركون ما يفعله، ويجيدون التصرف حيال لعبة العصا، ولعلهم يعرفون أنه وإن أعفي من منصبه إلا أنه يحمل مكانة يمكنها أن تؤرقهم، فيؤثرون السلامة، ورفع العصا بالاحترام الواجب) ومن اللافت أن كل توجيه للتأويل من التوجيهات السابقة يجد ما يبرره في النص.
ومن القيم التي تهتم المجموعة بإبرازها كذلك قيمة الانفتاح على الآخر، من خلال عقد المقارنة بين طرفين من أطراف المجتمع؛ ليتكشف لنا ما يخلِّفه الانغلاق من تدمير للشخصية الفردية والمجتمعية، فتصبح حياة الإنسان بلا معنى ولا هدف، وتتحكم الخرافة في العقول، وتحكم حياة البشر، ويبدو ذلك واضحا في قصة مراكب بلا أشرعة؛ إذ تحكي الراوية عن تحطم مركبها في قرية نائية غريبة الأطوار، ويضعنا النص منذ البداية في بؤرة الخرافة (أقبع هنا منذ أن تحطم مركبي في قرية نائية غريبة الأطوار؛ حيث الخيام بلا أوتاد، والمراكب بلا أشرعة، والظلام) إن هذه البداية تشير إلى أن الخرافة ستحكم هذا المجتمع، وتتحكم في قرارات أهله والقائمين عليه، مما يمثل انحرافا فكريا واجتماعيا، ومن ثم السير بالمجتمع وأفراده نحو تأويلات خرافية لمفردات حياتهم، تقول (كانوا ينصبون خيامهم بتراتيل من كاهن القرية، وهي تعاويذ قديمة بكتاب من نسخة واحدة محفوظة بدماغه …) ولكنهم توجسوا منها؛ لأنها أخبرتهم أنهم يمكنهم استخدام الأخشاب في بناء بيوت وأشرعة، وهنا تأتي الخرافة الحاكمة للعقول والمتحكمة في القرارات؛ إذ إن الاقتراح يمثل تدميرا لتاريخهم المتوارث، ومعتقداتهم التي يركنون إليها. إن هذه العقول التي ترى الآخر شيطانا رجيما لا يمكن إصلاحها، وهنا أيضا تنفتح الدلالة على تأويلات متعددة، ولا أمل لمثل هذه المجتمعات المنغلقة في النجاة إلا من خلال الأجيال الصغيرة التي لم تتلوث عقولها بخرافات الكبار، وتشكيل عقول هذه الأجيال وفق أسس ومنطلقات تقودها نحو الانفتاح على الآخر، تقول (لم يكن لي صديقة سوى أوناي، فتاة صغيرة لديها من الأعوام ملء الكف الواحدة، ذات ابتسامة نقية تركض عندما تشاهدني؛ لترتمي في صدري … يحاول بعض الأشخاص إبعادها، لكنها تضربهم … فينصرفون تباعا مخافة أبيها القاضي) وهنا المفارقة الدالة؛ ففي الوقت الذي يبتعد أهل القرية عن الغريب/الراوية تقترب منه أوناي/الطفلة؛ لأن عقلها لم يتشكل بالخرافة بعدُ، فهل تشير القصة إلى منظومة القيم ودورها في التحكم في المجتمعات، ومن ثم انحيازاتها الفكرية والاجتماعية؟ أو تشير إلى أن الاستناد إلى الموروث الفكري والديني والاجتماعي يقود المجتمعات إلى مزيد من التخلف والخرافة؟ ومن ثم تصبح الضرورة ملحة في التقاطع مع هذه الموروثات، وغير ذلك من التأويلات التي تجد لها ما يبررها في النص.
ومن القيم التي ترتكز عليها المجموعة أيضا قيمة الوفاء، وتتجلى هذه القيمة بوضوح في قصة (طقس اللذة) وتبدو المفارقة أيضا في عنوان القصة؛ إذ يحمل دلالتين، الأولى دلالة روحية مستقاة من لفظ طقس بما يحمله من ظلال تراكمت عبر السنين، أما الدلالة الثانية فهي دلالة مادية نشأت من استخدام لفظ اللذة بما يحمله من إيحاءات، فإذا شكلنا من اللفظين تركيبا إضافيا/طقس اللذة ينصرف الذهن إلى ممارسة اللذة المادية بما يضفي عليها من هيبة الطقوس، والنص الإبداعي يحمل ما يدل على ذلك ويبرره؛ فالبطل مارس اللذة المادية بما يكفي لإضفاء الجانب المادي على الدلالة، ولكنه في الوقت نفسه مارس الجانب الروحي؛ إذ رعى أمه الريفية العجوز حين أضاعت بطاقة علاجها المجاني نتيجة ذاكرة مرتجفة، ولكنه لم يغضب، بل ابتسم في شفقة، وأخذ على عاتقه العمل من أجل جلسات علاجية بمقابل مادي، وحين تدهورت أحواله، وغادرته الدنيا ورفاهيتها، وأصيب بما أصيبت به أمه تجلى الوفاء في نهاية القصة؛ إذ جاءته ابنته التي أسقطها هي وأمها من ذاكرته أيام زهوه ورفاهيته؛ لتذكره بما فعل مع جدتها، وتقول له (أبي، هاك بطاقتك) لتأخذنا القصة وتأويلاتها إلى الكشف عن القيم العليا الكامنة في النفس الإنسانية؛ ليكتمل بذلك مثلث اللذة وقيمه الكبرى الحاكمة، وهي الحرية والانفتاح على الآخر والوفاء، إلى جانب مجموعة أخرى من القيم التي تنضوي تحت كل قيمة من تلك القيم الكبرى، وبذلك تحاول المجموعة تشكيل ملامح لمنظومة قيم حاكمة للنفس البشرية يمكن الاتكاء عليها.
وتستخدم الكاتبة العديد من آليات تشكيل المعنى وإنتاج الدلالة، فتستخدم المعادل الموضوعي أحيانا، كما في قصة عطر زائف؛ إذ تعادل بين زيف العطر وزيف الأفكار، في محاولة للكشف عن الوهم الذي يمكن أن يسيطر على الإنسان فيدفعه إلى الانحياز الفكري لقضية تبدو عادلة، ولكنها تخدم توجها شخصيا لمن يقوم بتزييف الحقيقة من خلال استخدام مقدمات تبدو مقنعة؛ لخداع الآخرين في الوقت الذي يسعى فيه للحصول على مجد شخصي، وبمقدار وقوع الطرف الآخر في حبائل الوهم يكون تحقيق الهدف المنشود، وكذلك تستخدم تيار الوعي، كما في قصة (من وحي ليلة عاجزة) ففي الوقت الذي تذهب فيه إلى المستشفى مستندة على يد ستينية هادئة تطمئنها، وتستدعي الطبيب نجد استدعاء لوالدتها في حوار يعود إلى أيام الطفولة، وكذلك تستخدم الكاتبة المونولوج الداخلي في الكشف عن خفايا النفس، ومكنون الضمائر.
وتنتمي كتابات منال رضوان إلى مرحلة ما بعد الحداثية التي هي مزيج من التجريب والعصرنة، وبذلك تقطع القصّة القصيرة مع الموروث الكلاسيكي الذي يعتمد – على حد وصف جيرالد غراف – على الوحدة والترابط المنطقي والتقابل والعقدة والخاتمة المحاطة بالدهشة أو الصدمة، ومن ثم قد لا نفاجأ إذا وجدنا قصص المجموعة تنفلت من تلك الدائرة الكلاسيكية في الكتابة، وتسعى إلى الكتابة الانسيابية، وسوف نتحدث عن ذلك لاحقا، وفي هذه المرحلة من الدراسة سوف نتوقف أمام قصة (من وحي ليلة عاجزة) محاولين رصد ملامح الكتابة عن منال رضوان، وكيفية بناء القصة بناء فكريا ولغويا، وكيفية تشكيل الرؤية وإنتاج الدلالة من خلال الحديث عن العنوان بوصفه مفتاحا تأويليا، وكذلك الحديث عن البناء الرأسي للقصة، والبناء الأفقي، وملامح كل منهما للوصول إلى التعرف على جانب من جوانب الكتابة عند الكاتبة.
العنوان وعالم النص:
من نافلة القول أن العنوان عتبة الولوج الأولى إلى عالم النص ودسائسه غير الممكنة، كما أنه المرسلة المشفَّرة بين المبدع والنصِّ من جهة والقارئ والنص من جهة أخرى، ومن ثم فإن تفكيك العنوان يساعد في الدخول إلى عالم النص، والكشف عن دلالات الخطاب وأسراره، وهذا يدل على أن للعنوان أهمية خاصة بالنسبة للعمل الأدبي، ومتلقي هذا العمل في الوقت نفسه؛ فالعنوان – كما يرى البعض – يكتسب أهميته المائزة من حيث كونه نصا قصيرا أما العمل الأدبي فهو النص الطويل، وانطلاقا من هذا المنظور سوف نتوقف أمام العنوان في قصة (من وحي ليلة عاجزة) للكاتبة منال رضوان كأحد العلامات الدالة على فهم النص، محاولين – قدر جهدنا – الوصول إلى الدلالة المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية المنسوجة في النص، من خلال التفاعل الحيِّ والديناميكي بين النص والقارئ؛ لأن القراءة عملية جدلية تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ ومن القارئ إلى النص.
فمن حيث التكييف النحوي واللغوي للعنوان فإنه جملة اسمية (قصة من وحي ليلة عاجزة) فالعنوان خبر لمبتدأ محذوف تقديره (قصة – بعض) والخبر هنا شبه جملة مكونة من حرف الجر (من) والاسم المجرور (ليلة) ثم تأتي الصفة (عاجزة) لتخصيص هذا المجرور (ليلة) ونلاحظ أن الكاتبة حذفت المبتدأ؛ لأن وجوده مفهوم من سياق الكلام، وأبقت على الخبر؛ إذ إنه الدال الحقيقي على الرؤية التي أرادت الكاتبة نسجها من خلال هذه القصة، وهنا لابد من تأمُّل مكونات هذا الخبر، وتفكيكه؛ للوقوف على دلالاته، ومدى ارتباطه بعالم القصة، وفي البداية نجد الكاتبة استخدمت حرف الجر (من) وله دلالات متعددة في اللغة، فإذا اعتبرنا أن المحذوف لفظ (بعض) فإن حرف الجر (من) هنا يدل على التبعيض، وهذا يعني أن ما حدث في القصة من أحداث ليس كل ما نتج عن تلك الليلة العاجزة، ولكنه بعض منها، أي أن ما ترويه القصة هو مجرد جزء مما استنتجته الأنا المبدعة من أحداث تلك الليلة العاجزة، وإذا اعتبرنا أن المبتدأ المحذوف تقديره لفظ (قصة – أحداث) فإن حرف الجر (من) يكون دالا على السببية، أي أن الأحداث التي وقعت في هذه القصة كانت بسبب تلك الليلة العاجزة، ونتجت عنها، ويؤيد الدلالتين السابقتين لحرف الجر (من) لفظ (وحي) أي ما أوحت به تلك الليلة، وقد وجدنا لفظ الوحي في المعاجم العربية يدور حول معان متعددة؛ إذ جاء (وَحْي، اسم، والجمع وُحِيّ – بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء – مصدر وَحَى، الوَحْيُ : كلُّ ما أَلقيتَهُ إِلى غيرك ليعلَمَه، الوَحْيُ الإِلَهِيُّ : مَا يُوحِي بِهِ اللَّهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ مِنْ كَلاَمٍ لِعِبَادِهِ، ووَحْيُ الشُّعَرَاءِ : مَا يُوحَى بِهِ إِلَيْهِمْ فَيُلْهِمُهُمُ الشِّعْرَ، والوَحْيُ :الصّوتُ يكون في الناس وغيرهم، والوَحْيُ: الكتابُ، والوَحْيُ :المكتوبُ، والوَحْيُ :الكتابةٌ والحطُّ، والجمع وُحِيُّ، والوحي إلى الغير: تكليمه بكلام خفيّ الصوت، وأمين الوَحْي/ أمين وَحْي السَّماء: جبريل عليه السَّلام) ومعنى ذلك أننا حين نبتعد عن الدلالة الدينية نجد أن لفظ الوحي يدل على الكتابة كما يدل على المكتوب، ويدل كذلك على كل ما يُلْقى إلى الإنسان ليعلمه، كما يدل على الكلام الخفي، ويدل كذلك على ما يلهم الإنسان فيجعله يتصرف تصرفا معينا أو يقول قولا محددا، وهنا نعود إلى دلالة اللفظ في العنوان؛ إذ إن لفظ (وحي) الوارد في العنوان يحتمل كل الدلالات اللغوية لهذا اللفظ، فهو يحتمل أن يكون المكتوب في هذه القصة من وحي تلك الليلة العاجزة، كما يحتمل أن يكون ما حدث في تلك الليلة هو الذي أوحى للكاتبة بتدوين هذه القصة، كما يحتمل أن يكون ما دار في اللاوعي لدى الكاتبة في أثناء تلك الليلة هو الذي أوحى لها بكتابة تلك القصة، وفي جميع الأحوال لابد أن نربط تلك الدلالات بدلالة حرف الجر (من) التي سبق أن أشرنا إليها، ثم يأتي اللفظ الثالث في العنوان (ليلة) وهو لفظ نكرة، ونعرف أن النكرة تدل على العموم والشمول، أي أنها ليست ليلة محددة، ولكن تلك الليلة تم تخصيصها بلفظ آخر وهو النعت (عاجزة) ونعود إلى المعاجم العربية للوقوف على دلالة اللفظ، فقد ورد (عَجَز، اسم، مصدر عَجَزَ، وعَجز فعل من يعجَز، عجْزًا وعَجَزانًا فهو عاجز، والجمع عَجَزٌ، وعَجَزةٌ، والمفعول معجوز عنه، وعجَزَ عن الشَّيءِ: ضعُف ولم يقدر عليه، ومنه ما ورد في الحديث (اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ)، وعجَزَ الشَّخصُ: لم يكن حازمًا، وأَظْهَرَ عَجْزًا: أي ضَعْفاً، وهو عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى القِيَامِ بِعَمَلٍ مَّا، وفي علوم النفس عدمُ القدرة على أداء وظيفة ما، ويكون ذلك عادة من جرّاء ضرر أو ضعف يلحق البنية، وعجَّزَ الشَّخصُ: عجَز؛ هَرِم، أسنَّ وبلغ من العُمُر مداه، وعجَّزَه: عوَّقه، ثبَّطه، وعَجَّزَ فلانا: نسَبَهُ إلى العَجْزِ والخُرْق، وعجَّزه: نسبه إلى العَجْز وعدم الاقتدار، و أعجزه المرضُ عن الاستمرار في عمله أقعده، جعله غير قادرٍ على فعل شيء أعجزه الحادثُ عن المشي، – يُعجزه الغضبُ عن الكلام) ومن هنا نجد أن الدلالة تدور حول جانبين: الأول مادي وهو عدم القدرة على القيام بعمل ما، والثاني معنوي وهو ما ورد في علم النفس من أنه عدم القدرة على أداء وظيفة ما، ويكون ذلك جراء ضرر أو ضعف في البنية، ومن الملاحظ أن الدلالتين مرتبطتان، وهذا له أهمية كبيرة في فهم أحداث القصة، والوقوف على الرؤية الفكرية التي أرادت الكاتبة نسجها من خلال تلك الأحداث؛ فالعجز الوارد في القصة عجزان، مادي ومعنوي، وإذا كانت الليلة نكرة أي دالة على العموم والشمول في نطاق جنسها فإن النعت أيضا جاء نكرة؛ ليدل كذلك على العموم والشمول في نطاق جنسه، أي يدل على نوعيْ العجز المادي والمعنوي، ويتطابق نحويا مع المنعوت النكرة.
أما من حيث التكييف البلاغي للعنوان فإنه قد جاء جملة خبرية غير مؤكدة، وهذه الصفة سوف تكون فاعلة في تشكيل العلاقات اللغوية داخل النص والتي تتشكل بمقتضاها لعبة المعنى، أي أن نوعية الجملة من حيث خبريتها سوف تكون فاعلة في تشكيل المعنى العام للنص؛ إذ يتحول النص بذلك إلى خبر محمول من الكاتبة إلى المتلقي، ولكنه ليس خبرا بالمفهوم التقليدي للخبر وإنما همٌّ يؤرِّق الكاتبة، ويستحوذ على تفكيرها، وتريد من المتلقي أن يشاركها هذا الهمَّ، ويتحمل معها أعباءه.
إن الدلالة المباشرة للعنوان هي دلالة سلبية، ومؤطَّرة بملامح محدَّدة بدت من خلال استخدام اللفظ (عاجزة)؛ فهذا اللفظ قد دفعنا مباشرة إلى توقع أفق النص، وكما أشرنا سابقا أن العجز في العنوان غير محدد، وهذا يوسِّع أفق العجز، ويجعله يسير في اتجاهين متعانقين: المادي والمعنوي؛ ليشكلا جديلة واحدة، وقد أتاحت النكرة في لفظي (ليلة – عاجزة) هذا التعانق بين الاتجاهين في العجز، كما أتاحت خبرية الجملة/ العنوان الواردة دون توكيد جعْلَ هذا التوصيف/ العجز يبدو كأنه شيء ملموس لا يحتاج إلى توكيد، أي أنه شيء واضح للعيان، ومن ثم فإن توكيده لا معنى له. وكأن النص أراد منذ البداية أن يضع المتلقي في بؤرة تفكيره بأن يأخذ الدلالة مأخذا مباشرًا من خلال دلالة الألفاظ الواردة، وأنه أراد زيادة في المعنى من خلال الزيادة في المبنى بإيراد لفظ (عاجزة) لتكون محور الأحداث، وتعطيها توصيفا بالسلب.
البناء الرأسي للنص:
تحدثنا في بداية هذه الدراسة عن ملامح القصة القصيرة عند منال رضوان، وكشفنا عن المعنى اللغوي والتكييف النحوي والبلاغي للعنوان/ من وحي ليلة عاجزة، لنخلص إلى أن النص قد نجح من خلال استخدام آلية العنوان في الكشف عن الدلالة، وتعانقت العناصر الثلاثة التي تحدثنا عنها – المعنى اللغوي والتكييف النحوي والتكييف البلاغي – في الولوج إلى عالم النص، ومحاولة اكتشاف أسراره ودسائسه، والسباحة بين عوالمه الداخلية، وفي هذا الجزء نتحدث عن حركة المعنى والبناء الرأسي للنص، والمقصود بالبناء الرأسي للنص كيفية تشكُّل المعنى جزءا بعد جزء داخل النص بحيث يؤدي كل جزء دوره في تشكيل المعنى، ويقود إلى الجزء الذي يليه حتى يكتمل المعنى، وتنغلق الدلالة، وينتهي النص، وتتكشَّف ملامح الرؤية الفكرية التي يريد المبدع مشاركتها مع المتلقي، والتأثير فيه، ودفعه إلى الانحياز، إيجابا أو سلبا، وهنا يمكن تخيُّل النص بناء يقود كل طابق فيه إلى الطابق الذي يليه، فإذا ما انتهى البناء تجلت ملامحه الكلية، وبدا للناظرين، فينحازون له أو عليه، ومن المهم أن نشير إلى أننا سوف نتوقف أمام لغة النص، وهي المادة الخام التي يتشكل منها، فنصف تلك اللغة من حيث الحقيقة والمجاز، ودورهما في إنتاج الدلالة، ونصفها كذلك من حيث خبريتها وإنشائيتها، ومن حيث اسميتها وفعليتها، وغير ذلك من توصيف للمادة الخام التي يتشكل منها النص، كما نتوقف أمام طريقة البناء/ الصياغة، ومفردات هذا البناء من حيث التقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والطول والقصر، والإيجاز والإطناب، وغير ذلك من آليات البناء للنص، كما نتوقف أمام اختيار الصيغ الصرفية المحدَّدة، وتأثيرها على بناء النص، والكشف عن المعنى، ومن ثم إنتاج الدلالة.
ويمكن تقسيم النص من خلال هذه الزاوية البحثية إلى أربعة أقسام يتحرك من خلالها المعنى صعودا وهبوطا ناسجا ملامح الرؤية الفكرية المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية، وآلية السرد التي اتبعها النص، وفي كل قسم تنفتح الدلالة على زاوية من زوايا الرؤية؛ لتتكشف ملامح جديدة، أو تتعمق ملامحُ أشير إليها من قبل إيجازا أو تفصيلا، ففي القسم الأول يقول النص: (ألقيت بجسدي على سرير أسود، مستندة إلى يد ستينية هادئة، طمأنتني بابتسامة منهكة وشرعت في مناداة الطبيب، حالتي الصحية غير مستقرة، أعلم هذا قبل وقت طويل، ولم أكترث، لكنني كإجراء روتيني أخبرت الطبيب عن معاناتي إثر جلطتين سابقتين، شَخَص الشاب إليّ، وفي صمت حاول تغليف قلقه بابتسامة واجبة لزائرة جديدة إلى ردهات قسم الطوارئ في إحدى الليالي الخريفية). يحاول النص في البداية رسم الإطار العام الذي سوف يتحرك فيه المعنى، وقد اشتمل هذا الإطار على شخصية منهكة ومريضة وحالتها الصحية غير مستقرة، وتعاني من آثار جلطتين سابقتين، وعلى امرأة ستينية هي الممرضة التي استقبلتها في قسم الطوارئ، وعلى الطبيب وهو شاب متماسك بحكم عمله؛ إذ وصفه النص بأنه يحاول تغليف قلقه بابتسامة واجبة، واستخدام لفظ (واجبة) دال في مكانه على طبيعة عمله؛ إذ إنه لا ينبغي أن يبرز قلقه تجاه حالة المريض الصحية؛ حتى لا يصل هذا القلق إلى المريض فتزداد معاناته، أو يتضاعف مرضه، أو يدب اليأس إلى نفسه، أما من ناحية المكان فهو قسم الطوارئ في إحدى المستشفيات، وأما الزمان فهو إحدى الليالي الخريفية، ومعنى ذلك أن النص قد حدد عناصر القصة منذ البداية، ورسم الإطار العام الذي سوف تتحرك فيه الأحداث؛ كي يعطي المتلقي صورة بانورامية ترتسم في ذهنه عن أحداث هذه القصة، فيتوقع أفقا للنص الذي يتلقاه، ولكننا نلاحظ أن النص قد حدد الشخصيات (المريضة – المرأة الستينية – الطبيب الشاب) تحديدا يمكن للمتلقي أن يتصوره، وإن لم يذكر الأحداث، ولكنه في حديثه عن المكان قال (ردهات قسم الطوارئ) ولم يحدد في أي مستشفى، ولا في أي مدينة أو حيّ يمكن أن نتصوره؛ لأن تحديد الحي أو المدينة يجعل المتلقي يتخيل طبيعة المريضة، ونوع الخدمة التي يمكن تقديمها من حيث الجودة أو الإهمال، ولكن يبدو أن ذلك غير مهم بالنسبة للقصة؛ حيث إنها لن تعالج هذه الزاوية من الأحداث، وينطبق ذلك أيضا على الزمان؛ إذ لاحظنا كذلك عدم تحديد الزمان بصورة واضحة؛ حيث قال النص (في إحدى الليالي الخريفية) وهو ما يوحي بأن ذلك لن يكون له تأثير على الأحداث، أو لن يكون له دور في سير الأحداث، أو الكشف عن زوايا الرؤية الفكرية التي تتشكل في النص، ويمكن أن يطلق على هذا القسم الأول من النص التهيئة، وهو مصطلح من مصطلحات علم السرد، وقد عرَّفه علماء السرد بأنه “عنصر سردي لا تظهر أهميته عندما يذكر لأول مرة، ولكنها تظهر فيما بعد، أو بذرة سردية لا تظهر أهميتها في حينه …. والتهيئة يجب ألا يحدث خلط بينها وبين التمهيد … التمهيد وحدة سردية تشير مسبقا إلى مواقف أو أحداث ستحدث وتحكى فيما بعد” (1) ثم ينتقل النص بعد ذلك إلى القسم الثاني وهو القسم الأشد أهمية في القصة، ويمكن تقسيمه إلى أربعة أجزاء، في الجزء الأول نجدنا في ارتباط غير منطقي ظاهريًّا بين القسم الأول وبداية القسم الثاني، ولكننا إذا تأملنا هذا القسم قليلا نكتشف أن النص يأخذنا إلى الماضي؛ فالشخصية الرئيسية في النص/ المريضة تعود بالذاكرة إلى الماضي؛ إذ تقول (فجأة.. رأيت معاناته واختناقه من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء وقد جثمت فوق صدره، كان عجيبًا أن أشاهد بقع الدماء بوضوح على رداء أزرق يرتديه.. لكن، كيف رأيت هذا؟!) وهو ما يسمى تيار الوعي؛ إذ تنتقل الشخصية من زمن إلى زمن، فالحالة التي تعاني منها تدفعها إلى العودة إلى ماضيها الذي ما زال يهيمن على عقلها ويتحكم فيه، ويحضر ناسجا خيوطه كلها عند تشابه اللحظات في حياة الشخصية، فمن الواضح أن اللحظة الآنية التي تمر بها الشخصية/ المريضة تتشابه مع اللحظة الماضية التي حضرت بقوة في هذا القسم من المقطع الثاني، ولكننا نلاحظ أن النص يسوق هذا المشهد غامضا إلى حد ما؛ وهو ما يتناسب مع بداية تشكُّل حضوره في ذهن الشخصية/ المريضة؛ فإذا كان المقطع الأول محددا من حيث الشخصيات (المريضة – المرأة الستينية – الطبيب الشاب) فإن هذا المشهد غير محدد، فمن تقصد بقولها (رأيت معاناته واختناقه من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء وقد جثمت فوق صدره)؟ وأين يقع هذا الحدث؟ هي أشياء غير محددة في البداية، وهو ما يتناسب مع طبيعة المشهد، وبداية حضوره، ثم يأتي أسلوب الاستفهام التعجبي المسبوق بأداة الاستدراك (لكن) في قولها (ولكن.. كيف رأيت ذلك؟!) من المفترض أن يكون السؤال هنا عن الكيفية، أي الهيئة التي رأت بها هذا المشهد، ولكننا حين نتأمل طبيعة السؤال وسير الأحداث نكتشف أن السؤال ليس عن الهيئة، وإنما عن السبب الذي جعلها ترى ذلك، ومن المفترض في سؤال الكيفية أن تكون الإجابة تحديد الهيئة التي رأت بها هذا المشهد، ولكن طبيعة المشهد تدل على أن السؤال عن السبب الذي دفعها إلى رؤية ذلك، على أن قائلا يمكن أن يقول إن السؤال عن الكيفية هنا سؤال منطقي، كما أن الأحداث تدل على أنه مقصود؛ إذ إن الجزء الثاني من هذا القسم يتحدث عن كيفية رؤية الأحداث أي الهيئة التي وقعت بها، فتقول (وجهت بصري صوب الحوائط الكثيرة التي تحتجزني، وجدتها تنظر إلى الجميع مبتسمة ساخرة؛ إثر محاولات دؤوب من المرأة المتعبة إعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده، لكنه أبدًا لا يعود… كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط؟ أنا لا أحلم؛ فأنا واعية لكل ما يدور حولي، غير أن الصور باتت أشد وضوحًا أو…. التباسًا! … لا أعرف)، والحقيقة أن النص هنا بدأ يتخذ آلية أخرى في السرد وهو ما يطلق عليه تيار الوعي، وهو مصطلح ابتدعه وليم جويس؛ ليصف الطريقة التي يقدم بها الوعي نفسه، وقد عرَّفه جيرالد برنس بأنه “أحد أنماط الخطاب المباشر الحر، أو المونولوج الداخلي الذي يحاول تقديم اقتباس مباشر للذهن، أو هو أحد صيغ تقديم الوعي البشري بالتركيز على التدفق العشوائي للفكر، والتأكيد على طبيعته غير المنطقية” (2) وقد عرفه لطيف زيتوني في كتابه معجم مصطلحات نقد الرواية بأنه “عبارة أطلقها عالم النفس وليم جيمس ليعبر عن الانسياب المتواصل للأفكار والمشاعر داخل الذهن، واعتمدها نقاد الأدب من بعده لوصف نمط من السرد الحديث يعتمد هذا الشكل الانسيابي في إبراز تجربة الفرد الداخلية، ولم تقتصر على نقل الأفكار بل أفسحت المجال أمام الاستبطان فنقلت الانفعالات والأحاسيس والذكريات والاستيهامات” (3) ومعنى ذلك أن تيار الوعي يدل على “الصياغة السردية التي يعتمد فيها المؤلف بشكل أساسي على وصف الحياة النفسية الداخلية لشخصيات نصه السردي، بصورة تقلد حركة التفكير التلقائية التي لا تخضع لمنطق معين، ولا لنظام تتابع خاص، فتيار الوعي إذن هو طريقة في الكتابة السردية تقدم أفكار الشخصية ومشاعرها في شكلها العشوائي” (4) ومن الملاحظ في هذا القسم التدفق العشوائي للفكر، من خلال الانسياب المتواصل للأفكار والمشاعر والانفعالات والأحاسيس والذكريات والاستيهامات داخل الذهن، وهذا الشكل الانسيابي في إبراز التجربة الداخلية للشخصية في النص السردي يصف الحياة النفسية الداخلية للشخصية بصورة تقلد حركة التفكير التلقائية التي لا تخضع لمنطق معين، ولا لنظام تتابع خاص، ففي البداية تحضر صورة المعاناة والاختناق من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء في قولها (فجأة.. رأيت معاناته واختناقه من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء وقد جثمت فوق صدره، كان عجيبًا أن أشاهد بقع الدماء بوضوح على رداء أزرق يرتديه) وهذا مشهد يحضر بقوة في يؤرة الذهن في أثناء أن كانت الشخصية/ المريضة مستلقية على السرير مستندة إلى يد امرأة ستينية هادئة، التي طمأنتها بابتسامة منهكة وشرعت في مناداة الطبيب، ثم بعد ذلك تحضر صورة أخرى ننتقل فيها إلى مشهد آخر عبرت عنه القصة بقولها (وجهت بصري صوب الحوائط الكثيرة التي تحتجزني، وجدتها تنظر إلى الجميع مبتسمة ساخرة؛ إثر محاولات دؤوب من المرأة المتعبة إعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده، لكنه أبدًا لا يعود، كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط؟ أنا لا أحلم؛ فأنا واعية لكل ما يدور حولي، غير أن الصور باتت أشد وضوحًا أو…. التباسًا! لا أعرف) فهل كانت الشخصية/ المريضة في هذا المشهد تتحدث عن واقعها الآني لحظة استلقائها على السرير مستندة على يد المرأة الستينية أو أنها كانت تستدعي مشهدا آخر من موقف سابق حين كانت تعاني من جلطة؟ الحقيقة أن الاحتمالين واردان في هذا المشهد، وإذا ذهبنا إلى الاحتمال الأول وهو التعبير عن الواقع الآني لحظة الاستلقاء على السرير الأسود في ردهات قسم الطوارئ فإننا أمام حالة من الغيبوبة التي بدأت تسيطر على الشخصية/ المريضة، وفي هذه الحالة فإن القصة تصف واقعا آنيا للشخصية، وهو سرد عادي وتطور طبيعي في سير الأحداث في القصة، وإذا ذهبنا إلى الاحتمال الثاني، وهو أن يكون المشهد استدعاء لحالة سابقة مرت بها الشخصية/ المريضة، وكانت لحظة وجودها على السرير الأسود في ردهة قسم الطوارئ هي ما أثار الذهن فاستدعى ما مر من أحداث، ويؤكد ذلك العناصر التي دخلت في تشكيل المشهد نفسه (الحوائط الكثيرة التي تحتجزني – الحوائط تنظر إلى الجميع مبتسمة ساخرة – المحاولات دؤوب من المرأة المتعبة لإعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده – الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط) فهذه العناصر هي تعبير عن هلوسات وانفعالات وأحاسيس وذكريات، وليست تعبيرا عن واقع آني، ثم يأتي المشهد الثالث في هذا القسم ليأخذنا إلى مساحة أبعد في حياة الشخصية/ المريضة، ففي أثناء الفحص، أو في أثناء أخذ عينات من الدم تستدعي الشخصية/ المريضة مرحلة أخرى من ماضيها (كريات ملونة تسبح وسط بحر من اللون الأحمر… للحظة ابتسمت وأنا أتذكر كرة مطاطية كنت ألهو بها على شاطئ البحر قبل زمن بعيد، ما لبثت أن وجدت أمي تحملها بين يديها وتمنحني إياها عقب جلوسها إلى جواري .. حاولتْ الإمساك بيدي المنشغلة باللهو بالكرة، وفي قلق تحسستْ أطراف أصابعي، تشبثتُ بها، وعبثًا حاولت إفلات أصابعها، كانت هي… هي أمي، لقد شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة) هل هذه الاستدعاءات تعبير عن الخوف من الرحيل كما رحلت الأم؟ هل هي بحث عن الأمان من خلال التعبير (حاولتْ الإمساك بيدي المنشغلة باللهو بالكرة، وفي قلق تحسستْ أطراف أصابعي، تشبثتُ بها، وعبثًا حاولت إفلات أصابعها) هذا التعبير الدال بوضوح على البحث عن الأمان ومحاولة التشبث بأي شيء تشعر من خلاله بالأمان؟ هل هذه الاستدعاءات محاولة للهروب من الواقع المؤلم إلى عالم الطفولة عالم البراءة المطلقة؛ ذلك أن الواقع الآني مؤلم ومليء بالمنغصات، إن كل هذه الاحتمالات واردة في هذا المشهد من القسم، ولكنها جميعا تعبر عن حالة غير مستقرة للشخصية/ المريضة، وقد عبَّرت القصة عن ذلك بوضوح في قولها (لقد شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة) إنه الخوف من الرحيل، والبحث عن الأمان، واحتضان لحظات الطفولة البريئة التي عاشت فيها الشخصية/ المريضة حياة آمنة مطمئنة، ثم يأتي المشهد الرابع من هذا القسم؛ ليجيب على الأسئلة السابقة، وتبدأ الدلالة في الانفتاح في قولها (كيف غلفت كلماتهم أوراق الشجرة الكبيرة، كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي الجاثم فوق صدر الطبيب الشاب ومساعده، بل والحوائط والردهات، كل ما حولي يصطبغ الآن باللون ذاته عدا كرتي الملونة بألوان طفولية ساذجة) هي إذن هلوسات لحظة وجودها فوق السرير الأسود في ردهة الطوارئ، وتسترسل في استدعاء المشاهد من الذاكرة (يجب عليكِ النوم لسويعات قليلة قبل إتمام مراسم توديعها غدًا؛ سيكون يومًا طويلًا…… عاودت عباراتهم القاسية اختراق أذني، لكنها تشبه أصداء لحفيف الشجر أمام منزلي القديم، لقد تبينت الصوت وأعرف كيف أدققه …… اللون البرتقالي يعني المرح، والأصفر، الأصفر يا أمي يعني العناد أو التمسك بأشياء لا قيمة لها، أليس كذلك؟ أحب لون السماء الصافية في دائرة تظلل كرتي، لكن كيف أتيتِ إلى هنا؟ ابتسمتْ.. وفجأة انتفضتُ، وقد عاودتني رؤى غائمة، ملتبسة، خافتة) هذه المشاهد تعبير واضح عن الخوف، وأكبر دليل على ذلك استدعاء صورة رحيل الأم، وما صاحب ذلك من أحداث رصدتها القصة، ويبدو أن الأم قد عانت كثيرا من الناس وطباعهم، وبدا ذلك في تعبيرات كثيرة أوردتها القصة (عاودت عباراتهم القاسية اختراق أذني – كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي – كل ما حولي يصطبغ الآن باللون ذاته/ اللون الرمادي) وكلها تعبيرات تحمل دلالات سلبية على طبيعة المحيطين بالأم والتي يبدو أنها كانت تعاني منهم، وأن تلك الدلالات السلبية تسربت إلى البنت، واحتفظت بها في ذاكرتها، وتم استدعاؤها في تلك اللحظة القاسية التي خافت فيها من الرحيل مثل أمها، وسوف نتوقف أمام ذلك لاحقا، ثم يأتي القسم الثالث لتنفتح الدلالة أكثر، وتتكشف العناصر التي كانت غائمة، ويصل السرد إلى مرحلة من الوضوح أكثر (الفحص يظهر سلامة الأوعية من جلطة ثالثة، لكن يجب علينا المتابعة، والآن عن طريق المحاليل الطبية، سنحاول إعادة ضغط الدم إلى معدله… كانت أمي أول من همّ بمغادرة الغرفة عقب الاطمئنان إلى عودتي، حاولتُ الاحتفاظ بالكرة، فأومأت إليّ أنني في إمكاني الحصول عليها، ربما في وقت لاحق… لم تتكلم، لكنني سمعتها! الآن، أعرف ما الذي حدث) في البداية نلاحظ أن الأحداث تعود إلى تسلسلها الطبيعي؛ إذ إن الطبيب بعد الفحص يتحدث عن نتائجه (الفحص يظهر سلامة الأوعية من جلطة ثالثة، لكن يجب علينا المتابعة) ولكن انسيابية الأفكار والمشاعر مازالت مهيمنة على المشهد؛ فما إن سمعت الشخصية/ المريضة هذه الجملة حتى أخذتنا مرة أخرى لندخل عالمها اللاواعي (كانت أمي أول من همّ بمغادرة الغرفة عقب الاطمئنان إلى عودتي) لقد كانت أمها معها في كل مراحل الفحص، وحضور الأم هنا هو رمز للأمان الذي كانت تفتقده الشخصية/ المريضة، فلما شعرت بالاطمئنان لم يعد لوجود الأم معنى، ولكننا نلاحظ أيضا أن المريضة حاولت أن تحتفظ بشيء من طفولتها فكانت إشارة الأم بأن ذلك ليس ممكنا في الوقت الراهن (حاولتُ الاحتفاظ بالكرة، فأومأت إليّ أنني في إمكاني الحصول عليها، ربما في وقت لاحق… لم تتكلم، لكنني سمعتها) وهنا تصل الشخصية/ المريضة إلى حالة من الاستقرار، وقد بدا ذلك في قولها صراحة (الآن، أعرف ما الذي حدث) لننتقل بعد ذلك إلى القسم الرابع والأخير من القصة وفيه تلقي الضوء على عنصر آخر لم يكن موجودا في البداية، وهو الزوج الذي يبدو أنه كان مع زوجته/ المريضة منذ البداية، ولكن القصة لم تشأ أن تشير إليه لأسباب تتعلق بطبيعة السرد، ومراحل تطور الحكاية، وفي هذا الجزء من القسم الرابع تبدو ملامح جديدة في الحكاية تتكشف أبعاد يبدو أنها كانت سببا في استدعاء ما يشابهها في القسم الثالث (بعض الصراخ المكتوم لزوجي، استطاع بالكاد أن يصل إلى أذني، التفتُّ طالبة إليه رؤية بعض الأشخاص، أخبرني بأننا نوشك على الاقتراب من الفجر، إصراري جعله يحاول… لكم شعرت بالاطمئنان عقب فشله في التواصل معهم! أخبرته أن ذلك لم يعد مهمًا بعد الآن، وطلبت إليه ألا يفعل مجددًا) ففي الجزء الأول من المشهد تعبير عن الحالة التي كانت فيها وهي حالة عدم التركيز والهلوسة وكان من نتائجها (بعض الصراخ المكتوم لزوجي، استطاع بالكاد أن يصل إلى أذني) وحين أدركت وبدأ الوعي يعود إليها طلبت من زوجها استدعاء بعض الأشخاص، ولكنه أخبرها أن الوقت غير مناسب فهم قد أوشكوا على الفجر (أخبرني بأننا نوشك على الاقتراب من الفجر) ولكن إصرارها دفعه إلى الاتصال بهم، وعندما فشل كانت المفاجأة أنها في قولها (أخبرته أن ذلك لم يعد مهمًا بعد الآن، وطلبت إليه ألا يفعل مجددًا) وهذا الطلب لا يتناسب مع الإلحاح الذي دفع زوجها إلى الاتصال بهم في وقت متأخر، ولكننا يمكن استنتاج أن هذا الطلب منها يمكن أن يفسره حديثها السابق عن الأم وما مرت به من أحاديث الناس (عاودت عباراتهم القاسية اختراق أذني – كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي) فهل تذكرت أفعال الناس مع أمها وهي تتشابه مع أفعالهم معها فوجدت أنها ليست في حاجة إلى أن تمر بالتجربة نفسها فطلبت من زوجها عدم الاتصال بهم؛ لأنه لم يعد مهما، وعليه ألا يفعل مجددا؟ وهو ما عبرت عنه بقولها بعد هذه التجربة القاسية من المرض (لا حيلة لي بين هذه الخثرات التي تود أن تفترس عروقي، وبين بقعات تفترش روحي كل حين، حتى تستنزف طاقتي على المقاومة، أو لعلها تحاول صدّ ذلك الاستنزاف فتعمل على لفت انتباهي بوضع نقطة جديدة في حياتي، لانتهاء صفحات، أو سطور، أو كلمات، أو حروف، أو.. أشخاص) لقد بدت الشخصية راغبة عن الأشخاص الذين ربما وجدت أنهم غير مناسبين لها بعد هذه التجربة القاسية، وربما كانوا سببا في هذه التجربة التي كادت أن تقودها إلى جلطة ثالثة، ولكنها نجت منها، ولعل ما يؤكد هذا التأويل ما قالته بعد ذلك (اعتدت الألم، ولم يعد يزعجني؛ فالألم تجربة قاسية لا يفوقها مرتبة سوى الخذلان) فهي لا تخشى الألم؛ لأنها اعتادت عليه رغم أنه تجربة قاسية، ولكن الذي يؤلمها حقا هو الخذلان، فهل كان دخولها إلى المستشفى نتيجة الخذلان؟ يبدو كذلك، وإذا صح هذا التأويل فإن استدعاء الأحداث والشخصيات لحظة هذيانها كان منطقيا؛ فهي تستدعي من مخزونها في الذاكرة ما يؤلمها، وما يتناسب مع اللحظة الآنية التي تتحكم فيها، وقد عبرت الشخصية/ المريضة عن ذلك صراحة في قولها (لم أتعرف إلى الموت بعد، وإن كان قريبًا جدًا هذه المرة؛ لكنني أدركت أن الخذلان هو الموت بعينه، كما تعلمت أنه كلما ارتفعت مراتب الألم، قلَّ الصراخ والنحيب؛ ولذا فأنا أتألم كثيرًا، حتى بت أجيد التألم حد الصمت) اتضح إذن أن معاناتها الحقيقية ليست من المرض أو الألم ولكنها تعاني من الخذلان، وهنا يبدو أن تجربة المرض كانت نتيجة الخذلان الذي تعرضت له، وهنا تعود الأمور إلى طبيعتها (عادت الأصوات إلى طبيعتها، وعدت إلى لمسات العجوز الطيبة، وقد ألقيت بجسدي على السرير الأسود مرة أخرى مستندة إلى يدها؛ لمنحي المحاليل اللازمة) وتتحدث الشخصية/ المريضة إلى الطبيب الشاب، وتقرر أنها سوف تكتب تجربتها، لتصل القصة بذلك إلى لحظة الانكشاف الحقيقية للرؤية الفكرية التي أرادت القصة التعبير عنها، وهي أن الخذلان يتساوى مع الموت، بل هو الموت الحقيقي، وأننا لابد أن نكتب عن تجاربنا؛ لأن الكتابة تمنحنا الحياة، وهنا نعود إلى العنوان مرة أخرى؛ لنكتشف أنه كان يختزل تجربة القصة كاملة؛ فعندما عبَّر العنوان (من وحي ليلة عاجزة) عن ليلة عجزت فيها عن الحركة، وأوشكت على جلطة ثالثة وجدنا خاتمة القصة تحدثنا عن أن الشخصية/ المريضة سوف تكتب تجربتها وبذلك يتطابق عنوان القصة مع خاتمتها فيشكل كل منهما قوسا تقع بينهما أحداث القصة.
لقد لاحظنا في الجزء السابق من الدراسة الحركة التصاعدية للمعنى في النص، وكيف استطاعت الكشف عن ملامح الرؤية الفكرية المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية، وسوف نتحدث في الجزء التالي عن البناء الأفقي للنص، وكيف تشكلت الدلالة من خلال خبرية الجمل وإنشائيتها، ومن خلال التشكيل البلاغي للمَشاهد الواردة في النص؛ لتكون بذلك شبكتان من العلاقات تتآزران في الكشف عن المعنى، هما شبكة العلاقات اللغوية، وشبكة العلاقات البلاغية.
النص بين الخبرية والإنشائية:
يهيمن الأسلوب الخبري على النص هيمنة كاملة بحيث نستطيع أن نرصد عشر جمل فقط تشتمل على أساليب إنشائية عبر النص بأكمله، منها ثماني جمل إنشائية لفظا ومعنى، وجملتان إنشائيتان في المعنى خبريتان في اللفظ (كيف رأيت هذا؟! – كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط؟ – كيف غلفت كلماتهم أوراق الشجرة الكبيرة؟ – كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي الجاثم فوق صدر الطبيب الشاب ومساعده، بل والحوائط والردهات؟ – أليس كذلك؟ – كيف أتيتِ إلى هنا؟ – أي كتابة ستكتبين؟ – ألا يمكنكِ النوم والراحة؟ – يجب عليكِ النوم لسويعات قليلة قبل إتمام مراسم توديعها غدًا – وطلبت إليه ألا يفعل مجددًا) مما يوحي بأن النص/المبدعة في حاجة ملحة إلى البوح والإخبار؛ ذلك أن الأسلوب الخبري هدفه الأساسي الإخبار مع احتمالية الصدق والكذب للكلام في ذاته بصرف النظر عن قائله، ومن ثم فإن الضغط النفسي الذي يتعرض له المبدع/القاصة نتيجة طغيان الحالة المعبَّر عنها يمثل سببا كافيا للجوء المبدع/القاصة إلى استخدام الأسلوب الخبري، وهيمنته على مفاصل النص، وإذا كان الأسلوب الخبري أسلوبا بلاغيا يحتمل الصدق والكذب في ذاته بصرف النظر عن مصدره فإن هيمنة هذا الأسلوب على النص توحي بأن القاصة تؤمن منذ البداية أن ما تتحدث عنه مختلف فيه، وأن الإجماع عليه غير وارد، وأن التصديق والتكذيب لما تقول شيء عادي، ولا يقدح فيها من حيث كونها منشئة هذا النص، ومبدعته، وذلك نتيجة الاختلاف في توجهات الناس، وانحيازاتهم الفكرية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية، وغير ذلك من الانحيازات التي تجعل كل واحد يفضل توجها معينا، إما لاعتقاد راسخ فيه، أو لحاجة آنية تجعله ينحاز دون قناعة، ومن ثم فإن الإخبار عن الحالة الضاغطة بقوة على الروح المبدعة هو نوع من التنفيس عن هذه الروح، وبخاصة إذا ربطنا ذلك بالعنوان/من وحي ليلة عاجزة الذي يعدُّ – كما نراه – فعلا تنفيسيا، وليس فعل تغيير؛ لأن العاجز ليس في قدرته التغيير، ومن ثم يلجأ إلى الحكي من أجل التخلص من المعاناة، وفعلها الضاغط على النفس، كما أن البوح – وهو حالة من العجز – لا يمكن السيطرة عليه، ومن ثم بدا كأن هناك موضوعات متعددة في الحكي، ويربط بينها خط درامي واحد يكشف عن طبيعة النفس الإنسانية، وما تعانيه من خلال هذا البوح في لحظة الشعور بالعجز، في حين أن القصة كاملة عبارة عن دفقة شعورية واحدة، ولكنها تستدعي الماضي وتخلطه بالحاضر، وتستدعي شخصيات الماضي المؤثرة في الروح المبدعة، وتنسجها ضمن شخصيات الحاضر في جديلة واحدة؛ لتكشف عن أن الماضي حاضر في ذهن المبدعة ولم يغب لحظة واحدة، بل هو مؤثر إلى أبعد حد، وفاعل في اللاوعي بصورة كبيرة، ويكشف عن نفسه في اللحظة المناسبة.
ومن الملاحظ أن بناء الجمل الخبرية في النص قد جاء متسقا مع دلالة العنوان؛ فإذا كان العنوان/من وحي ليلة عاجزة يعبر عن دلالة سلبية، ومؤطَّرة بملامح محدَّدة بدت من خلال استخدام اللفظ (عاجزة)؛ فهذا يدفعنا مباشرة إلى تشريح أنسجة النص، وتحديد توصيفها الدلالي؛ وإذا كان العجز في العنوان غير محدد، فإن ذلك يوسِّع أفق العجز، ويجعله يسير في اتجاهين متعانقين: مادي ومعنوي؛ ليشكلا جديلة واحدة، ومن ثم فهو عجز ذو وجهين: الأول مادي ، والثاني معنوي، وقد عبَّرت عن ذلك الجمل الخبرية التي تشكل منها النص مع ملاحظة أن حالة البوح التي تعبر عن العجز تستدعي طول الجملة بنائيًّا؛ لتعويض العجز النفسي، والتعبير عن حالة التنفيس التي تسعى إليها القاصة، فنجد الجمل تشتمل على مفعول به وحال كما تشتمل على مضاف ومضاف إليه، وغيرها من مكملات الجملة، تقول (ألقيت بجسدي على سرير أسود، مستندة إلى يد ستينية هادئة) فالجملة اشتملت من حيث التركيب النحوي على فعل وفاعل وجار ومجرور وحال وثلاث نعوت، إلى جانب ما يمكن تأويله من أن لفظ (جسدي) يمكن النظر إليه على أنه مفعول به، وأن حرف الجر الباء هو حرف زائد للتوكيد، وتركيب الجملة (ألقيت جسدي) وإذا اعتمدنا هذه الزاوية من التأويل فإن استخدام حرف الجر هنا له دلالة مهمة إلى جانب التوكيد؛ إذ يدل على أن الجسد قد أصبح شيئا ثقيلا على النفس فألقت به المبدعة على السرير إما لمحاولة إبراز حالة الضيق من هذا الجسد المعتلِّ الذي أتعبها بعلته المتكررة، وإما لبيان حالة التعب والإرهاق التي يعاني منها هذا الجسد، وفي الحالتين تعبير عن المعاناة التي تمر بها المبدعة جسديا ونفسيا، وهو ما قلنا عنه حالة العجز المادي والمعنوي، وقد أتاحت خبرية الجملة هنا جَعْلَ العجز يبدو كأنه شيء ملموس، وواضح للعيان من خلال إلقاء الجسد على السرير، ومن ذلك أيضا قولها (فحوَّله إلى اللون الرمادي الجاثم فوق صدر الطبيب الشاب ومساعده، بل والحوائط والردهات – أحب لون السماء الصافية في دائرة تظلل كرتي) فنحن نلاحظ طول الجمل الخبرية، ومحاولة الإيضاح المتكرر للمعاني من خلال استخدام الألفاظ، ونعلم أن أي زيادة في المبنى يقابلها زيادة في المعنى، وهذا يعني أن القاصة تلجأ إلى طول الجمل/ زيادة المبنى؛ لتعبر عن المعاني التي تمتلئ بها ذاكرتها، وتريد التنفيس عن نفسها من خلال اندفاق المعاني، وتكرر هذه الحالة/ طول الجمل؛ لتشكل سمة مائزة للنص، تقول (لقد شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة – لقد شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة – وجدتها تنظر إلى الجميع مبتسمة ساخرة إثر محاولات دؤوب من المرأة المتعبة إعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده) فنحن نلاحظ الطول المفرط للجملة الخبرية، وهذا ما يتفق مع ما قلناه – سابقا – من أن النص/المبدعة في حاجة ملحة إلى البوح والإخبار، وأن الضغط النفسي الذي يتعرض له المبدع/القاصة نتيجة طغيان الحالة المعبَّر عنها يمثل سببا كافيا للجوء المبدع/القاصة إلى استخدام الأسلوب الخبري، وهيمنته على مفاصل النص، ومن ثم نستطيع القول بأن طول الجملة الخبرية الجملة فاعلة في تشكيل المعنى العام للنص؛ إذ يتحول النص بذلك إلى خبر محمول من الكاتبة إلى المتلقي، ولكنه ليس خبرا بالمفهوم التقليدي للخبر وإنما همٌّ يؤرِّق الكاتبة، ويستحوذ على تفكيرها، وتريد من المتلقي أن يشاركها هذا الهمَّ، ويتحمل معها أعباءه، وإذا كان هذا الهم متمكنا من النفس المبدعة، ومهيمنا عليها فإن التعبير عنه لا يمكن أن يكون مقتضبًا، ولكنه يكون بانفتاح النفس على البوح الممتد الذي يعبر عنه طول الجملة، وإذا كان الهدف البوح فإن الجملة الخبرية الطويلة تصبح خيارًا مهمًّا في هذه الحالة، وتتوالى الأساليب الخبرية في النص معبرة عن هذه الرؤية، وناسجة الدلالة الكلية للنص.
فإذا انتقلنا إلى جانب آخر من الجملة الخبرية وهو أنواع الخبر الوارد في النص، ودلالاته فيقول الخطيب القزويني (…… فإن كان المخاطب خالي الذهن بحكم أحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه استغني عن مؤكدات الحكم ….. وإن كان متصوّر الطرفين مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر حسن تقويته بمؤكد، وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار…… ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيًّا، والثاني طلبيًّا والثالث إنكاريًّا) (5) فإذا انتقلنا إلى النص وجدناه يعتمد بصورة كبيرة على النوع الأول من الخبر، وهو الخبر الابتدائي الذي يكون فيه المتلقي خالي الذهن، ولكن هذا لا ينفي وجود الخبر الطلبي أو الإنشائي الذي يكون فيه الخبر مؤكدا بمؤكد واحد أو أكثر على حسب المعنى المراد، تقول: (ألقيت بجسدي على سرير أسود، مستندة إلى يد ستينية هادئة، طمأنتني بابتسامة منهكة وشرعت في مناداة الطبيب، حالتي الصحية غير مستقرة، أعلم هذا قبل وقت طويل، ولم أكترث، لكنني كإجراء روتيني أخبرت الطبيب عن معاناتي إثر جلطتين سابقتين، شَخَص الشاب إليّ، وفي صمت حاول تغليف قلقه بابتسامة واجبة لزائرة جديدة إلى ردهات قسم الطوارئ في إحدى الليالي الخريفية) نلاحظ أن الجمل الواردة في المقطع السابق كلها جمل خبرية تنتمي إلى النوع الأول من الخبر وهو الخبر الابتدائي الذي لا يشتمل على أي توكيد، وهذا يتناسب مع ما يريد النص التعبير عنه، وهو إخبار المتلقي بما تمر به المبدعة/ القاصة، وهي حالة لا تستدعي توكيدا؛ لنها حالة ظاهرة للعيان، فلا تحتاج إلى توكيد؛ لأن وجودها في المستشفى في حالة من التعب والإرهاق الشديد الذي بدا من خلال إلقاء جسدها على السرير في ردهات قسم الطوارئ في إحدى الليالي الخريفية، كل ذلك معبر بوضوح عن الحالة التي هي عليها، ومن ثم فلا حاجة لتوكيد هنا، وبالتالي فإن استخدام الخبر في حالته الابتدائية هو استخدام متناسب تماما مع الدلالة التي يشير إليها هذا المقطع من النص، على أن الكاتبة تلجأ على استخدام الجمل الخبرية المؤكدة، أي في شكلها الطلبي أو الإنكاري؛ للتعبير عن دلالة أخرى، فتقول: ( ….. وقد انغرست في جدران الحوائط … أنا لا أحلم؛ فأنا واعية لكل ما يدور حولي، غير أن الصور باتت أشد وضوحًا أو…. التباسًا) وقد جاءت هذه الجمل الخبرية بعد جملة إنشائية – سنتحدث عنها لاحقا – دالة على التعجب (كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة) ومن ثم فإن التوكيد هنا ضروري، أو هو دال بعد حالة التعجب التي عبرت عنها الكاتبة في الجملة الإنشائية، فكان لابد من استخدام التوكيد؛ للدلالة عن المعنى المراد، وقد جاء هذا التوكيد باستخدام (قد) الدالة على التوكيد (وقد انغرست) أو باستخدام ضمير المتكلم البارز/ أنا (أنا لا أحلم؛ فأنا واعية …) وفي موقف آخر تقول (لقد تبينت الصوت وأعرف كيف أدققه) باستخدام توكيدين، هما اللام وقد في قولها (لقد)؛ إذ يستدعي المعنى زيادة في التوكيد؛ لتثبيت المعنى في ذهن المتلقي، كما أشار إلى ذلك عبد القاهر الجرجاني سابقا، وهكذا وجدنا تنويعا في الجمل الخبرية من حيث الطول، ومن حيث نوع الخبر على حسب ما تقتضيه الدلالة المتوخاة، والمعنى المراد في النص.
وقد تنوَّعت الأغراض البلاغية لهذه الأساليب الخبرية، ويعدُّ السياق المحدِّد الفعلي لدلالة الأساليب من خلال (كشفه عن دلالات الأبنية اللغوية التركيبية بصورة دقيقة لا ينصرف الذهن إلى غيرها من الدلالات التي يمكن أن تتضمنها أو تؤديها سيما تلك التراكيب المحتملة لأكثر من معنى وبواسطة تجاوز الكلمات حدودها المعجمية المعروفة إلى دلالات جديدة قد تكون مجازية أو إضافية أو نفسية أو إيحائية أو اجتماعية، أو غير ذلك من الدلالات) (6) ففي قولها (وجهت بصري صوب الحوائط الكثيرة التي تحتجزني) وهو أسلوب خبري الغرض منه الحيرة، وهذه الدلالة ناشئة من فهو سياق الجمل السابقة؛ إذ تقول قبل ذلك (فجأة.. رأيت معاناته واختناقه من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء وقد جثمت فوق صدره، كان عجيبًا أن أشاهد بقع الدماء بوضوح على رداء أزرق يرتديه) وهذا التعجيب الذي بدا في هذه الجملة نشأ عنه الحيرة التي كانت غرضا لجملة الخبرية التي أشرنا إليها (وجهت بصري صوب الحوائط الكثيرة التي تحتجزني) فهذا التعجب دفع الكاتبة إلى توجيه بصرها إلى الحوائط الكثيرة التي تحتجزها وهي متحيرة، وقد بضاف إلى دلالة الحيرة دلالة أخرى وهي التعجب، فيكون الغرض التعجب والحيرة، وفي موقف آخر تقول: (كريات ملونة تسبح وسط بحر من اللون الأحمر… للحظة ابتسمت وأنا أتذكر كرة مطاطية كنت ألهو بها على شاطئ البحر قبل زمن بعيد) وهنا جملتان خبريتان، الأولى (كريات ملونة تسبح وسط بحر من اللون الأحمر) في إشارة إلى الدم في أثناء إجراء الفحوصات الطبية، وهذه الجملة الخبرية الغرض منها التقرير، فالكاتبة تقرر حالة واقعية تمر بها، وهي حالة إجراء الفحوصات، أما الجملة الخبرية الثانية (للحظة ابتسمت وأنا أتذكر كرة مطاطية كنت ألهو بها على شاطئ البحر قبل زمن بعيد) وهي جملة خبرية قد يكون الغرض منها السخرية؛ غذ هي تعبر عن حالة يمكر بها كثير من الناس، وهي حالة الربط بين ظاهرة واقعية حاضرة وأخرى ماضية مستدعاة قد تكون لها مكانا مركزيا في الذاكرة، أو تحتفظ بها الذاكرة بحسبانها ذكرى مؤثرة في النفس، وقد يكون الغرض من الجملة الخبرية التعاطف والحنين، أي أن الكاتبة تظهر التعاطف مع ذكري جميلة مرت بها وتحن إلى هذه الذكرى الطفولية البريئة حيث براءة الطفولة، وقد يؤيد ذلك الحالتان المتضادتان في هاتين الجملتين؛ فالحالة الأولى تعبير عن المرض والعلى والضعف (كريات ملونة تسبح وسط بحر من اللون الأحمر) والحالة الثانية تعبير عن الصحة والبراءة والانطلاق، ومن ثم تحن الكاتبة إلى تلك الحياة التي كانت فيها بريئة في طفولتها، ولا تعاني من أي أمراض تستدعي ضعف الجسد، ودخول المستشفى أكثر من مرة، وهكذا تتعد أغراض الأساليب الخبرية، وتتنوع معبرة عن الدلالة التي أرادتها الكاتبة في النص.
أما الأساليب الإنشائية فقد أشرنا – سابقا – إلى أن عشر جمل وردت في النص مشتملة على أساليب إنشائية منها جملتان إنشائيتان معنى خبريتان لفظا، وسوف نتحدث عن هاتين الجملتين أولا، وهما (يجب عليكِ النوم لسويعات قليلة قبل إتمام مراسم توديعها غدًا – وطلبت إليه ألا يفعل مجددًا) أما الجملة الأولى (يجب عليكِ النوم لسويعات قليلة قبل إتمام مراسم توديعها غدًا) فهي أسلوب خبري لفظا إنشائي معنى؛ لأن المعنى: نامي سويعات قليلة قبل إتمام مراسم توديعها) أما من حيث اللفظ فهي جملة خبرية؛ إذ ليس لفظها أمرا أو نهيا أو استفهاما أو نداء أو تمنِّيًا، وتلك هي الأساليب الإنشاء، وقد وردت هذه الجملة يعد جملة (هي أمي، لقد شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة) وهذه الجملة تعبر عن حضور أمها في المشهد الحالي التي تعاني فيه المبدعة حالة التعب فتجد أمها التي توفيت حاضرة إلى جوارها حضورا معنويا أو تخيليا، وليس حضورا ماديا حقيقيا؛ إذ إنها رحلت عن الدنيا قبل سنوات، وهنا لا نستطيع التأكيد هل كان الطلب (يجب عليك أن تنامي …) من المبدعة لنفسها؟ أو كان من أحد الجيران أو الحاضرين لحظة اختضار الأم ورحيلها؟ كل ذلك تحتمله الجملة، فإذا كان من المبدعة لنفسها فهو يدل على محاولة احتواء موقف وفاة الأم، والتماسك أمام هذا الحادث الجلل، وإذا كان من أحد الجيران أو ممن كانوا حاضرين لحظة وفاة الأم فهو يدل على محاولة التضامن النفسي والمعنوي مع المبدعة، وتخفيف آلامها في وفاة أمها، وفي جميع الأحوال هو أسلوب طلبي/ إنشائي من الناحية المعنوية، ولكنه جاء في صورة خبر (يجب عليك …) والغرض منه الرجاء؛ لأن صاحب الطلب يرجو من المبدعة/ القاصة أن تنام قليلا متعاطفا مع حالتها التي تمر بها، أما الجملة الثانية التي تشتمل على أسلوب إنشائي في المعنى خبري في اللفظ فهي (وطلبت إليه ألا يفعل مجددًا) ومن الملاحظ أنه أسلوب خبري لفظا إنشائي معنى؛ لأن المعنى: قلت له لا تفعلْ مجددًا، وهذه الجملة جاءت بعد القول: التفتُّ طالبة إليه رؤية بعض الأشخاص … لكم شعرت بالاطمئنان عقب فشله في التواصل معهم أخبرته أن ذلك لم يعد مهمًا بعد الآن، أي لا تتصلْ بهم؛ لأن ذلك لم يعد مهما الآن، وهو بذلك يكون أسلوب إنشائي/ نهي، أما الأساليب الإنشائية لفظا ومعنى فهي (كيف رأيت هذا؟! – كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط؟ – كيف غلفت كلماتهم أوراق الشجرة الكبيرة؟ – كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي الجاثم فوق صدر الطبيب الشاب ومساعده، بل والحوائط والردهات؟ – أليس كذلك؟ – كيف أتيتِ إلى هنا؟ – أي كتابة ستكتبين؟ – ألا يمكنكِ النوم والراحة؟) وهي كلها أساليب استفهام خرجت عن معناها الحقيقي لأداء معنى مجازي، أي أنها ليست استفهاما حقيقيًّا يستدعي الإجابة، ولكنه استفهام يعبر عن حالة محددة، أو معنى معين؛ ففي الاستفهام الأول (كيف رأيتُ هذا؟) وهو سؤال من المبدعة/ القاصة لنفسها، وقد جاء هذا الاستفهام بعد (فجأة.. رأيت معاناته واختناقه من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء وقد جثمت فوق صدره، كان عجيبًا أن أشاهد بقع الدماء بوضوح على رداء أزرق يرتديه) لقد خرجت القاصة من هيمنة الحالة الطبيعية/ الوعي إلى هيمنة حالة اللاوعي، وتداعي الأفكار والمواقف والرؤى؛ إذ إنها في البداية كانت تخبر الطبيب الشاب عن معاناتها إثر جلطتين سابقتين، وهنا حاول الطبيب الشاب الابتسام؛ ليخفي قلقه على تلك الزائرة الجديدة، ولكنها فجأة تحول الموقف من هذه الحالة الطبيعية إلى استدعاء مواقف سابقة من اللاوعي، ومن ثم كان سؤالها (كيف رأيتُ هذا؟) سؤالا طبيعيا؛ فهو يعبر عن التحول الذي حدث، ولكنه سؤال يدل في طياته على أنها ما زالت في حالة بين الوعي واللاوعي، وهي تتعجب من حالتها، ومعنى ذلك أن الاستفهام هنا الغرض منه التعجب، وفي الإطار نفسه/ التعجب يأتي الاستفهامان التاليان (كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط؟ – كيف غلفت كلماتهم أوراق الشجرة الكبيرة؟ – كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي الجاثم فوق صدر الطبيب الشاب ومساعده، بل والحوائط والردهات؟) وقد أشارت الكاتبة نفسها إلى التعجب عندما جاءت قبل هذين الاستفهامين بلفظ التعجب حين قالت (أتعجب، كيف غلفت كلماتهم ……….) وهو ما يشير إلى أن الغرض من الاستفهام في الجملتين هو التعجب، ويؤكد تعجب الكاتبة وحيرتها ما أوردته في قولها تعقيبا على هذه المشاهد التي تتوارد على ذهنها ضاغطة عليها؛ إذ تقول (فأنا واعية لكل ما يدور حولي، غير أن الصور باتت أشد وضوحًا أو…. التباسًا) وهكذا تتوالى الاستفهامات معبرة عن الحالة النفسية للروح المبدعة في تلك الليلة العاجزة، وكاشفة عن أن العجز له ملامح كثيرة ومتنوعة، فهناك العجز الجسدي الناشئ عن التعب والحالة المرضية التي استدعتها أن تدخل المستشفى، وهناك العجز عن الفهم لتوارد هذه كل هذه المشاهد من اللاوعي وهيمنتها على الذهن وضغطها على النفس في حين أنها/ المبدعة تعبر عن كونها واعية، فكيف سيطرت هذه الحالات عليها؟ وغير ذلك من أشكال العجز التي – كما رأينا – تأخذ بعيدين أساسيين: العجز المادي، والعجز المعنوي، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا، وهو ما يتطابق مع العنوان ودلالته التي أشرنا إليها سابقا.
التشكيل البلاغي ودوره في إنتاج الدلالة:
سوف نتوقف في هذه الزاوية من الدراسة أمام بعض الصور البلاغية الواردة في القصة محاولين اكتشاف علاقتها بالإطار العام للرؤية التي أوضحناها سابقا، وكذلك علاقتها بالدلالة العامة للشخصيات؛ فقد تعاضدت الآليات جميعا للكشف عن الرؤية المتخفية خلف العلاقات اللغوية، والانحيازات الجمالية في القصة، وفي البداية نرى أن القاصَّة شكَّلت الدلالة من خلال الصور البلاغية الدالة؛ ففي تصويرها للشخصية الرئيسية في القصة أوردت ثلاث صور كلية، تتشكل كل واحدة من مجموعة من الصور الجزئية، وتبرز كل صورة جزئية ملمحا من الصورة الكلية، والصورة الكلية الأولى في قولها: (ألقيت بجسدي على سرير أسود، مستندة إلى يد ستينية هادئة، طمأنتني بابتسامة منهكة وشرعت في مناداة الطبيب، حالتي الصحية غير مستقرة، أعلم هذا قبل وقت طويل، ولم أكترث، لكنني كإجراء روتيني أخبرت الطبيب عن معاناتي إثر جلطتين سابقتين، شَخَص الشاب إليّ، وفي صمت حاول تغليف قلقه بابتسامة واجبة لزائرة جديدة إلى ردهات قسم الطوارئ في إحدى الليالي الخريفية) ) يمثل هذا المشهد الصغير صورة عامة لثلاث شخصيات، هي: الشخصية الرئيسية في القصة، والممرضة التي استقبلتها في قسم الطوارئ، ثم الطبيب المعالج، ومن ثم فإن هذه الصورة الكلية تتشكَّل من ثلاث صور جزئية، ففي البداية أشار إلى التغيُّر المادي/ الجسدي (ألقيت بجسدي على سرير أسود) وهي صورة كنائية تدل على المرض والتعب الشديد، وفي استخدام الباء في (بجسدي) دلالة واضحة على حالة التعب والإعياء التي تعاني منها، ثم تكتمل هذه الصورة بإخبار الطبيب عن جلطتين سابقتين، وهنا نستطيع أن نتخيل صورة هذه الشخصية أنها امرأة تعاني من المرض الملازم لها/ جلطتين سابقتين، ثم تأتي الصورة الثانية؛ لتكون معادلا نفسيا للصورة الأولى فإذا كانت الصورة الأولى تمثل جانبا سلبيا بدا من خلال الألفاظ المستخدمة (ألقيت بجسدي – غير مستقرة – جلطتين – الطوارئ) وكلها ألفاظ تشير إلى دلالة سلبية، إذا كان الأمر كذلك في هذه الصورة الأولى فإن الصورة الثانية تمثل جانبا إيجابيا، وتعبر عنه الممرضة التي استقبلت المريضة في قسم الطوارئ، ويتجلى الجانب الإيجابي من خلال الألفاظ المستخدمة (هادئة – طمأنتني – ابتسامة) وهي ألفاظ تحمل دلالة إيجابية، وتشتمل هذه الصورة الجزئية الثانية على نوعين من الصور البلاغية، الأول صور كنائية (طمأنتني) وهي كناية عن التبشير، وغرس الأمل في نفس المريضة، وكذلك (يد ستينية هادئة) وهي كناية على الاستقرار النفسي، والثقة بالنفس، والثانية هي صورة استعارية (ابتسامة منهكة) حيث شبه الابتسامة، وهي شيء معنوي، بجسد منهك، وهي في عمله، الطوارئ، وتستقبل المرضى وتقوم بالتخفيف عنهم ومساعدة الطبيب وهو عمل مرهق، ومن ثم كان التعبير عن ابتسامتها بأنها منهكة نتيجة العمل، ومع هذا الإرهاق والإنهاك فقد حرصت أن تمنح المريضة ابتسامة اطمئنان، وإن كانت هذه الابتسامة منهكة، وأما الصورة الثالثة فهي صورة الطبيب الذي بدا أيضا إيجابيا متماشيا بذلك مع صورة الممرضة (حاول تغليف قلقه بابتسامة واجبة لزائرة جديدة) ولكن الابتسامة هنا غير الابتسامة عند الممرضة؛ فقد جاء وصف الابتسامة عند الممرضة بأنها منهكة، وهو ما يتناسب مع طبيعة عملها، وأما مع الطبيب فقد جاء وصف الابتسامة بأنها واجبة، والسبب أن الطبيب يعالج، ومن ثم فهو يعرف الحالة جيدا، ولذلك أخفى قلقه بابتسامة واجبة، أي ضرورية لتطمئن المريضة، أما الممرضة فهي لا تعرف حقيقة التعب، ولا الآثار المترتبة عليه، ولذلك كان التركيز في وصف ابتسامتها بأنها منهكة تعبيرا عن التعب، ومعنى ذلك أن الوصف هنا كان متناسبا مع طبيعة كل شخصية، لقد كانت الصورة الكلية الأولى كاشفة عن ملامح الشخصيات الثلاثة التي ستكون فاعلة في القصة بدرجات متفاوتة، وكان التركيز في الشخصية الأولى على الجانب المادي، وجاءت الصور البلاغية/ الكنائية متناسبة مع ذلك (ألقيت – جسدي – جلطتين – الطوارئ) وهي كلها تعبر عن جانب مادي، وفي الشخصيتين الثانية والثالثة كان التركيز على الجانب المعنوي (هادئة – ابتسامة – منهكة – واجبة) وكلها تعبر عن جانب معنوي، وكذلك نلاحظ في الشخصية الأولى بروز الجانب السلبي، وهو ما يتناسب مع طبيعتها، وفي الشخصيتين الثانية والثالثة بروز الجانب الإيجابي الذي يمنح الأمل والطمأنينة، وهو مع يتناسب مع طبيعتهما.
أما الصورة الكلية الثانية ففي قولها: (وجهت بصري صوب الحوائط الكثيرة التي تحتجزني، وجدتها تنظر إلى الجميع مبتسمة ساخرة؛ إثر محاولات دؤوب من المرأة المتعبة إعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده، لكنه أبدًا لا يعود… كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط؟ أنا لا أحلم؛ فأنا واعية لكل ما يدور حولي، غير أن الصور باتت أشد وضوحًا أو…. التباسًا!) وهذه الصورة الكلية تتشكَّل من أكثر من صورة جزئية، ولكنها تدور حول ثلاثة عناصر، هي: الشخصية الرئيسية، والمرأة الستينية/ الممرضة، والحوائط، وتتنوع الصور الجزئية بين صور كنائية وصور استعارية، وفي هذا المشهد لا تبدو الشخصية الرئيسية فاعلة أو مؤثرة، ولكنها إما محايدة أو متأثرة، وتبدو المحايدة في (وجهت بصري صوب الحوائط الكثيرة التي تحتجزني) فهي مجرد موجهة لبصرها نحو الحوائط؛ لتشاهد/ محايدة، أي مجرد مشاهدة ما يحدث، وأما التأثر ففي (أنا لا أحلم؛ فأنا واعية لكل ما يدور حولي) وهي هنا متعجبة مما يحدث، أي متأثرة، والصور هنا صور كنائية (الحوائط الكثيرة التي تحتجزني) كناية عن الشعور بالضيق/ تحتجزني، ومجيء لفظ الحوائط جمعا كناية عن الكثرة، وقد تأكدت تلك الكثرة من خلال لفظ الكثيرة، أما العنصر الثاني في المشهد فهو المرأة الستينية، وقد بدت في المشهد فاعلة (محاولات دؤوب من المرأة المتعبة إعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده، لكنه أبدًا لا يعود) وهذه الصورة صورة كنائية تدل على إصرار المرأة الستينية على القيام بعملها بنجاح (محاولات دؤوب) رغم التعب الذي تعاني منه (المرأة المتعبة) والعنصر الثالث في المشهد هو الحوائط وهنا خرجت الحوائك من كينونتها الفيزيائية لتتلبس بها كينونة أخرى أسطورية؛ فهي ليست مجرد حوائط قد تكون عليها بعض الرسوم، ولكنها تحولت إلى مجموعة من الأسنان المهشمة وقد انغرست في جدران الحوائط، وهنا يتحول الحدث إلى تداعيات من اللاوعي، وتهيمن على الوعي، وتبدى ذلك في تأكيد الشخصية الرئيسية (أنا ى أحلم، أنا واعية لكل ما يدور حولي) والمشهد كله قد يكون كناية عن الهلوسات التي قد تصيب الإنسان في لحظات المرض أو التعرض للفحوصات الطبية.
أما الصورة الكلية الثالثة فهي في قولها: (كريات ملونة تسبح وسط بحر من اللون الأحمر… للحظة ابتسمت وأنا أتذكر كرة مطاطية كنت ألهو بها على شاطئ البحر قبل زمن بعيد، ما لبثت أن وجدت أمي تحملها بين يديها وتمنحني إياها عقب جلوسها إلى جواري، حاولتْ الإمساك بيدي المنشغلة باللهو بالكرة، وفي قلق تحسستْ أطراف أصابعي، تشبثتُ بها، وعبثًا حاولت إفلات أصابعها، كانت هي… هي أمي، لقد شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة) وهذه المشهد/ الصورة الكلية يشتمل على مجموعة من الصور الجزئية (كريات ملونة تسبح وسط بحر من اللون الأحمر) كناية عن تكوين الدم وكرات الدم، وهي صورة كنائية تدل على لحظة الفحص الطبي، أما الصورة الجزئية الثانية فهي (ابتسمت وأنا أتذكر كرة مطاطية كنت ألهو بها على شاطئ البحر قبل زمن بعيد) وهي كناية عن الحنين إلى الماضي المفهوم من لفظ (ابتسمت) وقولها (وجدت أمي تحملها بين يديها وتمنحني إياها عقب جلوسها إلى جواري) كناية عن الشعور بالاطمئنان بسبب وجود الأم، وقد تدل هذه الصورة الكنائية على اغتراب الشخصية في ظل غياب الأم، وأن مجرد حضورها يعطيها الشعور بالأمان، وبخاصة أنها جاءت ومعها ذكريات الماضي الطفولية، وقد يؤكد هذا الشعور بمكانة الأم من خلال قولها (وفي قلق تحسستْ أطراف أصابعي، تشبثتُ بها، وعبثًا حاولت إفلات أصابعها) فالألفاظ (تشبثت بها – عبثا حاولت) يدل على أن الشخصية الرئيسية افتقدت أمانها بغياب أمها، ورحيلها عن هذه الحياة، والصورة الكنائية الأخيرة في هذا المشهد في قولها (شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة) وهي كناية عن الخوف الشديد، واستحضار صورة الأم لحظة رحيلها يدل على الخوف الشديد من الرحيل كما رحلت الأم.
لقد ساعدت الصور الكنائية والاستعارية في الفقرات السابقة في الكشف عن ملامح الرؤية المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية، وتحولت شبكة العلاقات البلاغية إلى معادل للعلاقات اللغوية في النص، وأصبحت كل منهما كاشفة عن المعنى المراد ومتعاضدة مع الأخرى في إبراز الرؤية التي يسعى النص إلى إبرازها.
من وحي ليلة عاجزة
منال رضوان
ألقيت بجسدي على سرير أسود، مستندة إلى يد ستينية هادئة، طمأنتني بابتسامة منهكة وشرعت في مناداة الطبيب، حالتي الصحية غير مستقرة، أعلم هذا قبل وقت طويل، ولم أكترث.
لكنني كإجراء روتيني أخبرت الطبيب عن معاناتي إثر جلطتين سابقتين، شَخَص الشاب إليّ، وفي صمت حاول تغليف قلقه بابتسامة واجبة لزائرة جديدة إلى ردهات قسم الطوارئ في إحدى الليالي الخريفية.
فجأة.. رأيت معاناته واختناقه من اللون الرمادي الممزوج بلون الدماء وقد جثمت فوق صدره، كان عجيبًا أن أشاهد بقع الدماء بوضوح على رداء أزرق يرتديه..
لكن، كيف رأيت هذا؟!
وجهت بصري صوب الحوائط الكثيرة التي تحتجزني، وجدتها تنظر إلى الجميع مبتسمة ساخرة؛ إثر محاولات دؤوب من المرأة المتعبة إعادة اللون الأبيض إلى سابق عهده، لكنه أبدًا لا يعود.
كيف لي أن أشاهد هذا الكم من الأسنان المهشمة، وقد انغرست في جدران الحوائط؟
أنا لا أحلم؛ فأنا واعية لكل ما يدور حولي، غير أن الصور باتت أشد وضوحًا أو…. التباسًا!
– لا أعرف.
كريات ملونة تسبح وسط بحر من اللون الأحمر… للحظة ابتسمت وأنا أتذكر كرة مطاطية كنت ألهو بها على شاطئ البحر قبل زمن بعيد، ما لبثت أن وجدت أمي تحملها بين يديها وتمنحني إياها عقب جلوسها إلى جواري.
حاولتْ الإمساك بيدي المنشغلة باللهو بالكرة، وفي قلق تحسستْ أطراف أصابعي، تشبثتُ بها، وعبثًا حاولت إفلات أصابعها، كانت هي…
هي أمي، لقد شعرت بالبرودة ذاتها التي غلفت جسدها يوم أن أغمضت عيني مستندة إلى كتفها في ليلة أخيرة.
يجب عليكِ النوم لسويعات قليلة قبل إتمام مراسم توديعها غدًا؛ سيكون يومًا طويلًا……
عاودت عباراتهم القاسية اختراق أذني، لكنها تشبه أصداء لحفيف الشجر أمام منزلي القديم.
لقد تبينت الصوت وأعرف كيف أدققه، أتعجب، كيف غلفت كلماتهم أوراق الشجرة الكبيرة، كيف استصرخ فحيحهم اللون الأخضر، فحوله إلى اللون الرمادي الجاثم فوق صدر الطبيب الشاب ومساعده، بل والحوائط والردهات، كل ما حولي يصطبغ الآن باللون ذاته عدا كرتي الملونة بألوان طفولية ساذجة:
اللون البرتقالي يعني المرح، والأصفر، الأصفر يا أمي يعني العناد أو التمسك بأشياء لا قيمة لها، أليس كذلك؟
أحب لون السماء الصافية في دائرة تظلل كرتي، لكن كيف أتيتِ إلى هنا؟
– ابتسمتْ.. وفجأة.
انتفضتُ، وقد عاودتني رؤى غائمة، ملتبسة، خافتة.
الفحص يظهر سلامة الأوعية من جلطة ثالثة، لكن يجب علينا المتابعة.
والآن عن طريق المحاليل الطبية، سنحاول إعادة ضغط الدم إلى معدله.
كانت أمي أول من همّ بمغادرة الغرفة عقب الاطمئنان إلى عودتي، حاولتُ الاحتفاظ بالكرة، فأومأت إليّ أنني في إمكاني الحصول عليها، ربما في وقت لاحق.
لم تتكلم، لكنني سمعتها!
الآن، أعرف ما الذي حدث..
بعض الصراخ المكتوم لزوجي، استطاع بالكاد أن يصل إلى أذني، التفتُّ طالبة إليه رؤية بعض الأشخاص، أخبرني بأننا نوشك على الاقتراب من الفجر، إصراري جعله يحاول.
لكم شعرت بالاطمئنان عقب فشله في التواصل معهم!
أخبرته أن ذلك لم يعد مهمًا بعد الآن، وطلبت إليه ألا يفعل مجددًا.
عادت الأصوات إلى طبيعتها، وعدت إلى لمسات العجوز الطيبة، وقد ألقيت بجسدي على السرير الأسود مرة أخرى مستندة إلى يدها؛ لمنحي المحاليل اللازمة.
لساعتين عالقة أنا هنا، لا حيلة لي بين هذه الخثرات التي تود أن تفترس عروقي، وبين بقعات تفترش روحي كل حين، حتى تستنزف طاقتي على المقاومة، أو لعلها تحاول صدّ ذلك الاستنزاف؛ فتعمل على لفت انتباهي بوضع نقطة جديدة في حياتي، لانتهاء صفحات، أو سطور، أو كلمات، أو حروف أو.. أشخاص. لا أعلم.
اعتدت الألم، ولم يعد يزعجني؛ فالألم تجربة قاسية لا يفوقها مرتبة سوى الخذلان.
لم أتعرف إلى الموت بعد، وإن كان قريبًا جدًا هذه المرة؛ لكنني أدركت أن الخذلان هو الموت بعينه، كما تعلمت أنه كلما ارتفعت مراتب الألم، قل الصراخ والنحيب؛ ولذا فأنا أتألم كثيرًا، حتى بت أجيد التألم حد الصمت.
ولكن ربما عليّ الآن أن أبتسم في وجه الطبيب ومساعده، كم بدت عليهما أمارات الارتياح، أخبرني الشاب أنه سيتابعني ويقرأ ما أكتب، وأخبرته لحظتها أنني سأكتب عن تجربتي تلك.
صرخ مازحًا:
_ أي كتابة ستكتبين؟ ألا يمكنكِ النوم والراحة؟!
ابتسم، بعد أن منحته وعدي الذي صدقه، وابتسمت أنا أيضًا؛ لأنني أجيد الابتسام.. أجيده حد الصمت.
(1) جيرالد برنس، المصطلح السردي، ص 20، 21
(2) جيرالد برنس، قاموس السرديات، ص 189
(3) لطيف زيتوني، معجم مصطلحات نقد الرواية، ص 66
(4) د. يوسف حطيني، مصطلحات السرد في النقد الأدبي، ص 75
(5) الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، ص 28، 29
(6) شاذلية سيد محمد السيد، السياق وأثره في بيان الدلالة، ص 6