أخبار عاجلةدراسات ومقالات

أمينة الزغبي تكتب السارد الممسرح والحكاية الإطارية في رواية دِشرت

العنوان:

يُصيب هذا العنوان اللافت قارئ الرواية بالدهشة، بل والتشويق الذي يرسله إليه هذا العنوان المكون من كلمة واحدة جديدة على السمع والبصر؛ إلا للمتخصص في الآثار، فالعنوان مكون من لفظة واحدة وهي (دِشرت) وبالبحث تبين أن هذه الكلمة فرعونية قديمة وتعني:

دشرت Dechert هو الاسم الرسمي للتاج الأحمر الخاص بمصر السفلى والأرض الحمراء الصحراوية على جانبي كمت، حوض نهر النيل الخصيب.

ومن هذه العتبة الأولي للرواية وهي العنوان، يُدرك القارئ أن ما بين يديه رواية تاريخية، بل ومُخصصة لتاريخ مصر الفرعوني القديم، ومن هنا ندرك أهمية هذه العتبة في العمل الروائي كما أشار إلى هذا رولان بارت.

يهدي الكاتب روايته إلى امرأة واحدة فيقول:” إلي هند وحدها وهي تعرف لماذا؟” وكأن هذه الرواية عبارة عن رسالة يرسلها الكاتب إلي هذه المرأة، لتقرأ فيها ما لم يستطع أن يقوله لها مباشرة.

ثم يبدأ الكاتب الفصل الأول للرواية بعنوان يقول فيه:

 “قبل ان تعرف حكاياتي ومغامراتي”.. يتبعه عنوان جانبي جاء فيه:

 “صحراء اهرامات الجيزة في أول يناير عام 2023 الميلادي”.

 اذاً فالكاتب منذ اللحظة الأولى يضع القارئ أمام الزمن الذي كُتبت فيه هذه الرواية، وهو العام الماضي 2023، أي الزمن الآني، والجميل أن من يقرأ الرواية يجد أن المتن نفسه يجمع ما بين الزمن الآني، والزمن الماضي البعيد حيث الحضارة المصرية القديمة، ثم يبدأ الكاتب روايته بهذا المفتتح فيقول:

” أنا عالم الآثار المصري الدكتور آدم فارس عبد الله الحسيني أو الدكتور آدم الحسيني عالم الآثار المشهور…” ص 9

 وهنا نلاحظ أن السرد بدأ (بالضمير أنا) وهذا له دلالات كثيره داخل العمل السردي، فبدأ السرد بالضمير أنا، يحول السارد الى سارد ممسرح، أي كأنه شخص يقف أمام الجمهور على خشبه المسرح ويروي ما يعرفه من أحداث، هنا يتحول الى راوٍ وليس سارداً.. لا يشارك في الاحداث لا بالتغيير ولا بالتبديل، لكنه يحكي ويروي ما يعرفه فقط مثل الممثل على خشبه المسرح الملتزم بالنص المكتوب، وكأنه يقول لنا أنا البطل في هذه الحكاية.. إذا فبطلنا هنا هو الدكتور آدم الحسيني عالم الاثار المشهور، والذي تتماهي صفاته العلمية والخارجية مع كاتب الرواية الدكتور حسين عبد البصير عالم الآثار، مما يحيل ذهن القارئ ــ وخاصة من يعرفه معرفة شخصية ــ إلى أننا أمام سيرة ذاتية، أو سيرة غيرية لأحد زملاءه في هذا المجال.

بعد ذلك يبدا الدكتور آدم الحسيني في الحديث إلى الجمهور الذي يقف أمامه على خشبه المسرح، أو القراء، ويذكر لهم أنه بدأ عمله في مصلحه الاثار المصرية عام 1960 ثم استمر في هذا العمل حتى تقاعد عن الخدمة رسمياً في أول يناير عام 2000 اي منذ حوالي 23 عاماً، ولكنه لم يترك العمل في الآثار فهي عشقه الأول والأخير.

 يعرفنا بعد ذلك الدكتور آدم على شخصيته أكثر وأكثر، فنعرف أنه من مواليد حي الخليفة الشهير بمدينه القاهرة، ومن أسرة متوسطة الحال، لكنه من أصول صعيدية وتحديداً وهذا هو الأهم.. من مدينه الأقصر الأثرية العريقة، قلب الآثار النابض والحي في بر مصر المحروسة.. إذا فهذه النشأة وهذا الأصل كان له الأثر في تكوين الحب الكبير للآثار، ونموه داخل عقل وروح هذا الراوي الممسرح، والذي سوف يتحول إلى راوٍ عليم ببواطن الأمور كما سيتضح داخل المتن السردي بعد ذلك.

يتباهى آدم الحسيني بإنه كانت له في كل بلدٍ قصه حب، غير أن قصص الحب عنده لم تكتمل ولم تنتهِ بالقطع بالزواج، فهو يعيش وحيداً، بل ويذكر ذلك وهو يقف أمامنا على مسرح الحياة داخل المتن السردي.

 صارت كل قصصه الغرامية حباً بلا أمل، لكنه يعترف بما يدور داخله من تساؤلات فهل هذا بسبب هروبه من تحمل المسؤولية الأسرية وخوفه من إنجاب اطفال في زمن لا يرحم كما يصفه هو؟ أم أن حبه للآثار والفراعنة هو الذي يسكن قلبه فقط؟

ثم يذكر لنا مازحاً.. أن لعنة الفراعنة قد اصابته وجعلته لا يتزوج فنجده يقول في ص 16

 “حينما سألني أحد المتطفلين: لماذا لا تتزوج؟

 فرددت عليه ساخرا: كيف أتزوج وأنا متزوج بالفعل؟!

فصاح متعجبًا: متزوج ممن؟!

 من الملكة الجميلة نفرتيتي بعد الرحيل المأساوي لزوجها الملك اخناتون!

 فأحس الرجل أنني أصيبت بشيء من الجنون وتركني هارباً على الفور”.

انتهي الاقتباس

فهل نستطيع من هذا الحوار أن نطلق على الدكتور آدم الحسيني أنه بالفعل أصيب بلعنة الفراعنة؟!

لأنه يذهب إلى ما هو أكثر من ذلك ويقول: أنه في ذات فجر تزوج من جميلة الجميلات الملكة نفرتاري بعد انتقالها للعالم الآخر، وحزن زوجها نجم الأرض الملك رمسيس الثاني عليها إلى نهاية عمره، وأيضا تزوج من الملكة الجميلة حتشبسوت، وذات مساء بهيج تزوج أرملة فرعون!

 لا يهتم الدكتور آدم الحسيني بمن يطلق عليه مجنون الإعلام، أو مجنون الآثار ويقول: أنني حينما أقف بجوار كتبي فأجدها أطول ممن يسبونني، واتخذ من القول القرآني البليغ “واعرض عن الجاهلين” قدوة ومنهجاً في حياتي كلها.

 نلاحظ أن الكاتب في بداية الفصل التاسع يقول على لسان السارد الممسرح آدم الحسيني:

” نسيت أن أحكي لكم عن المقالب التي تعرضتُ أو أتعرض لها دوما من عدوي اللدود والشرير الأثري الحقود الدكتور علي حسن الدمرداش، سوف أحكي لكم عنها مرة أخرى حتى لا أصدع أدمغتكم بثرثرةٍ زائدة، على العكس منه تماماً صديقي الحميم والمخلص الأثري الدكتور فارس عبد الله، معذرة على الثرثرة”.

 هنا لابد أن نشير إلى أن الكاتب استخدم تيار الوعي وتوجه بالخطاب المباشر إلى القارئ كأنه بالفعل كما سبق أن قلنا يقف على مسرح، ويتحدث الى القارئ كأنه جمهور يجلس أمامه، يراه رؤية العين، فيقول له هذا الكلام، وهو هنا يحاول أن يخرج ما بداخله من دوافع شخصيه نحو الشخصيات التي عايشها في حياته ويريد أن يشاركه القراء هذا الإحساس، كي يتفاعلوا معه.

كل ما قدمناه هنا يندرج تحت ما يسمي “بالقصة الإطارية” التي تعرفنا من خلالها على شخصية الراوي الممسرح الدكتور آدم الحسيني عالم الآثار، والذي سينتقل بنا داخل السرد بعد ذلك إلى حكاية الملك أحمس قاهر الهكسوس، وذلك من خلال عشر حكايات متوالية، يسرد فيها هذه الفترة التاريخية الثرية من تاريخ مصر الفرعوني، بداية من الأسرة السادسة عشر، وحتى الأسرة الثامنة عشر، وقد اتخذ الكاتب لكل حكاية عنوان مثل:

الحكاية الأولي ــ الهكسوس الملاعين ــ 2ـ سانخت إن رع البطل ــ3 ــ سقنن رع الشجاع ــ 4 ـ ميريت آمون الحزينة ــ 5 ــ إياح حتب العظيمة ــ 6 ــ كامس الملك القوي ــ 7 ــ أحمس ملك الأرضين ــ8 ــ تيتي شيري الجميلة ــ 9 ــ أحمس نفرتاري الجميلة ــ 10 ــ ذكري أحمس محرر مصر ــ 11 ــ أحمس بطل لا يموت أبدًا.. ثم يتبعها بصور وحكايات.. ثم راوي الحكايات الروائي وعالم الآثار والكاتب الدكتور حسين عبد البصير.   

 بهذا الشكل الحكائي الذي اتبعه الكاتب لبنية نصه السردي، نجد أننا أمام رواية تاريخية تتناص بشكل كامل مع حكايات ألف ليلة وليلة من حيث البنية، ونستطيع أن نلخص ذلك في عدة نقاط منها:

ــ تتضمن حكايات ألف ليلة وليلة الحكاية الإطارية التي تحمل قصة الملك شهريار الذي يتزوج كل ليلة من زوجة بكر، ثم يقتلها بعد ذلك انتقاماً مما فعلته زوجته الأولي الخائنة، حتى يتزوج من شهرزاد ابنة وزيره.. التي تستطيع أن تقنعه بعدم قتلها، من خلال تشويقه بالحكايات التي تقوم بسردها له كل ليلة، أما في رواية دِشرت للكاتب الدكتور حسين عبد البصير، نجد الحكاية الإطارية هي حكاية الدكتور آدم الحسيني التي قدمنا لها في أول الأمر.

ــ في حكايات ألف ليلة وليلة تنبثق من الحكاية الإطارية حكايات عديدة لم تكن شهر زاد الشخصية الرئيسة فيها، لكنها هي الراوية لها فقط، وهذا ما اتبعه الدكتور حسين عبد البصير في بنيته السردية لروايته دِ شرت، حيث جعل الشخصية الرئيسة في الرواية الدكتور آدم الحسيني يقوم بسرد التاريخ الفرعوني القديم للملك أحمس قاهر الهكسوس في عدة حكايات منفصلة متصلة، كراوٍ فقط ليس مشارك في الأحداث، لإنها في الأصل أحداث تاريخية، ليتناص في ذلك مع شخصية شهر زاد في روايتها لحكايات ألف ليلة وليلة الشهيرة.

ــ تكرار الراوي لعبارة “يا أصدقائي الأعزاء”” يا صديقاتي الأعزاء” في بداية كل حكاية، يتناص هنا مع شهر زاد وهي تقول في بداية الحكاية” يا أيها الملك السعيد” وتكرر لفظ ” يا مولاي”.

الشخصيات وتعدد الأصوات:

بالرغم من تعدد الشخصيات داخل الرواية؛ إلا أن جميعها تشكل أحداث السرد، وتدفع الأحداث للأمام، فلا يمكن الاستغناء عنها، وذلك لتعدد الحكايات المنبثقة عن الحكاية الإطارية وكثرة الشخوص بها، فلكلٍ منهم دوره التاريخي المحدد، الذي صاغه الكاتب بصياغة أدبية تليق بالسرد الروائي.

اللغة:

استخدم الكاتب في صياغة نصه السردي الفصحى دون اللجوء إلى العامية سواء في السرد أو الحوار، وقد برع الكاتب في البعد عن المصطلحات المقعرة، ولجأ إلى شرح الكثير من المفاهيم والمصطلحات الفرعونية القديمة، مما يساعد القارئ على فهمها، ويضفي على الرواية الكثير من المعلوماتية التي تضيف للقارئ المعرفة بجانب المتعة في القراءة، خاصة ونحن نتحدث عن تاريخ مصر القديم من خلال حكاية قائد حربي وملك فرعوني عظيم هو الملك أحمس الأول قاهر الهكسوس.

الرواية تنتصر للمرأة، وتظهر مقدرة المرأة المصرية القديمة في العصر الفرعوني وخاصه في الأسرة 17 وال 18 ودورها العظيم مثل:

 الملكة تيتي شيري، والملكة إياح حتب الأولى التي كانت أول امرأة في التاريخ تتقلد منصب قيادة فرقة عسكرية كاملة، وقاتلت بكفاءة في الحرب بعد موت زوجها، وكذلك كانت تشارك ولدها أحمس في الحكم، خلال حرب التحرير للتخلص من الهكسوس، واستعدت للدفاع عن طيبة، والجنوب، والحفاظ على المناطق الجديدة التي انتزعها الملك كامل الشجاع من مخالب الهكسوس في مصر الوسطى، وضمها الى مملكة الجنوب..

 وأيضا نجد الملكة إياح حتب الأولى العظيمة، ونساء الأسرة الحاكمة كلهن يولين الحكم إلى أحمس الصغير الذي كان يبلغ من العمر في ذاك الوقت 10 سنوات، ولكن بدعم منهن بعد تدريبه على القتال، ليتسلم الحكم، ويقود الجيوش، ويهزم الهكسوس، بل ويقهرهم قهرًا، وقد ذك الكاتب ذلك على لسان الراوي العليم آدم الحسيني فيقول: في ص 114

 “ومنذ نعومه اظفاره كانت والدته تحثه دوماً على التدريب المستمر والدائم على القتال مع المحاربين المصريين القدامى، والاستعداد للحرب ضد الهكسوس كي يدير المعارك ويحقق النصر لمصر”

 إذا فالمرأة في مصر القديمة لها دور كبير في هزيمه الهكسوس، وهذا ما تشير إليه الرواية، وتظهره بشكل كبير.

فالنفخر جميعًا بتاريخنا الفرعوني القديم، وبأجدادنا الفراعنة الجنوبيين الشجعان، اللذين هزموا الهكسوس المحتلين، بل وطردوهم شر طرده، وحرروا أرض مصر، من الشمال إلى الجنوب، وواصلوا الزحف خلفهم حتى فلسطين وبلاد الشام علي يد الملك العظيم أحمس الأول..

أوبرا مصر – دراسات ومقالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى