عبد الغفور مغوار يكتب عتمة الوجود
لفّ الوهنُ جسدَ العمّ علال، وباتَتْ آلامُهُ رفيقةَ أيّامهِ ولياليهِ. حكايةُ مأساةٍ إنسانيةٍ، صبغَتها التراجيديا بِلونِها القاتم. كانَ العمّ علال في الستين من عمرهِ، يمتهنُ صناعةَ الفخارِ، تلكَ الحرفةُ التي ورثَها عنْ آبائهِ وأجدادهِ. جسدهُ النحيفُ كان يشبهُ فرنَ الفخارِ، مُحمّلاً بِهمومِ الحياةِ وآلامِها.
بدأتْ حكايةُ مأساتِهِ معَ شعورِهِ بِآلامٍ حادّةٍ في بطنهِ، لمْ تُفارقْهُ مُنذُ أشهرٍ. زارَ العديدَ منَ الأطباءِ، مُتنقّلاً بينَ المستشفياتِ، باحثاً عنْ شفاءٍ يُعيدُ لهُ بسمتَهُ المفقودةَ. كانَ التواصلُ بينَهُ وبينَ الأطباءِ أشبهَ بِحوارِ “الطُّرشانِ”. لغةٌ طبيةٌ مُعقّدةٌ، لا يفهمُ منها العمّ علال سوى كلماتٍ مُبعثرةٍ، تزيدُ منْ حيرتِهِ وخوفِهِ. ازدادتْ حالُتُهُ سوءًا، وباتَتْ الآلامُ تُنهكُ قوّتَهُ، تاركة إيّاهُ مُحاطاً بِظلامِ اليأسِ والاكتئابِ.
في تلكَ المعاناةِ، كان العمّ علال يُفكّرُ في معنى الحياةِ والموتِ. “ما هذا الوجودُ العبثيّ؟” تساءلَ مرة حائرا. “أينَ هوَ العدلُ في هذا العالمِ؟”
كانَ يُراقبُ الناسَ وهمْ يمُرّونَ بِهِ، مُسرعينَ إلى حياتِهمِ، مُتناسينَ وجودَهُ، كأنّهُ شبحٌ لا يُرى. “هلْ سأُفارقُ هذهِ الحياةَ دونَ أنْ أعرفَ ما هوَ مرضي؟” تساءلَ العمّ علال يوما بمرارة.
كانَتْ تلكَ التساؤلاتُ تُطارِدُهُ في كلّ لحظةٍ، تزيدُ منْ شعورِهِ بالوحدةِ والاغترابِ.
وسط تلكَ العتمةِ، ظهرَ شعاعٌ خافتٌ منَ الأملِ. لقدْ التقى العمّ علال بسلمى، شابّة تعملُ في أحدِ المستشفياتِ الحكومية. أصغتْ لِقصّته، وشاركتْهُ همومَهُ وآلامَهُ، ربما لشبهه الفظيع بوالدها، كانَتْ كلماتُها بمثابةِ بلسمٍ لِروحِهِ الجريحةِ، وبدأتْ تُعيدُ لهُ الأملَ في الحياةِ. قررت اللقاء بالطبيب المعالج، وما إن صادفته حتى استأذنته في الحديث إليه.
– “دكتور، أحتاجُ إلى فهمِ حالةِ العمّ علال بشكلٍ أفضلَ. ما هوَ تشخيصُهُ؟ ما هيَ خياراتُ علاجه؟” سألت سلمى متلهفة.
– “حالةُ ذاك المريضِ صعبةٌ، غير أَنّها ليستْ ميؤوسًا منها بشكل قاطع، فعلنا ما أمكننا فعله في حالته. ربما لا زالَ هناكَ بعضُ الأملِ في الشفاءِ، لكن بالنسبة لي فالأمل شبه منعدم.” أجاب الطبيب بكل برود.
– “إذا كان الأمر كذلك، سأصحبه لمستشفى آخر علني أجد من يفك شفرة دائه. سأفعلُ كلّ ما في وسعي لمساعدةِ العمّ علال أستأذنك دكتور. ” ردت سلمى بكل لباقة.
غادرتْ سلمى مكتب الطبيبِ بِشعورٍ ممزوج باليأس والأملِ. واصلتْ البحثَ عنْ أفضلِ الأطباءِ لِمعالجةِ العمّ علال. سألت عن أمهر الأطباء الحكوميين وزارتْ العديدَ منَ المستشفياتِ والمراكزِ الطبيةِ، ورافقتْ العمّ علال في جميعِ فحوصاتِهِ وعلاجاتِهِ. لمْ تكنْ رحلةُ العلاجِ سهلةً، حيث واجهَ العمّ علال العديدَ منَ التحدّياتِ، وتعرّضَ لِبعضِ الانتكاساتِ.
في بعضِ الأحيانِ، كانَ اليأسُ يُسيطرُ على العمّ علال، وكانَ يفكّرُ في الاستسلامِ. لكنّ سلمى كانتْ دائمًا بِجانبهِ، تُشجّعهُ وتُدعمُهُ، وتُذكّرهُ بِأنّ الأملَ لا زالَ موجودًا.
– “لا أستطيعُ تحمّلَ هذهِ الآلامِ بعدُ. أشعرُ بأنّني أفقدُ الأملَ.” صرح يوما العمّ علال والدموع تنهمر من مقلتيه.
– “لا تقُلْ هذا يا عمّ علال. لا زالَ هناكَ أملٌ كبيرٌ. سنُواصلُ العلاجَ، وستشفى إن شاءَ اللهُ.” قالت سلمى متصنعة ابتسامة خفيفة في وجه علال.
– “لكنّني مُنهكٌ يا ابنتي. لا أستطيعُ الاستمرارَ هكذا”.
– “أفهمُ شعوركَ يا عمّ. علينا المُحاربةُ منْ أجلِ حياتِكَ، لا نملكُ خيارًا آخرَ.”
– “لكنّني لا أريدُ أنْ أكونَ عبئًا عليكِ.”
– “لا تُفكّرْ هكذا يا عمّ علال. أنتَ لستَ عبئًا عليّ، بلْ أنتَ بمثابة والدي وعلى مسؤوليتي.”
– “شكرًا لكِ يا سلمى. أنتِ إنسانةٌ رائعةٌ، ليت كانت لي بنت مثلك.”
في أحدِ الأيّامِ، تلقّتْ سلمى خبرًا مُفاجئًا ومُؤلمًا.
– “أُريدُ أنْ أتحدّثَ معكِ بخصوصِ حالةِ العمّ علال.” قال أحد الأطباء مرتبكا.
– “ما الأمرُ دكتور؟”
– ” نتائجُ فحوصاتِ علال الأخيرةِ خطيرةً.” أجاب الدكتور متأسفا.
– “ماذا تقصدُ؟”
– “حالةُ علال تدهورتْ بشكلٍ مُفاجئٍ. الأمل في علاجه مستحيلٌ جدًّا.”
انهارتْ سلمى باكيةً بعدَ أنْ سمعتْ الخبرَ المُؤلمَ. شعرتْ بِخيبةِ أملٍ كبيرةٍ، ويأسٍ عميقٍ.
-” لا أستطيعُ تقبّلَ هذا! لا أستطيعُ أنْ أفقدَ العمّ علال”!
بموجب عودتها للبيت في نفس اليوم، رنّ هاتفُ سلمى فجأةً. كانَ المتصلُ أختَها:
– “سلمى، تعرّضَ والدُنا لحادثٍ سيرٍ خطيرٍ”! قالت أختها بصوت مضطرب باكية.
– “ماذا؟! لا! هذا غيرُ مُمكن! ” صاحت سلمى مصعوقة لهول الخبر.
أغلقَتْ سلمى الهاتفَ بيد مرتعشة، وانهارتْ على الأرضِ منتحبةً. لمْ تُصدّقْ ما سمعتْهُ. كيفَ يُمكنُ أنْ يحدثَ هذا؟ لمْ يكنْ أمامَ سلمى خيارٌ سوى السفر فورًا إلى بلدِها لِمُساعدةِ عائلتِها في هذهِ المحنةِ. لمْ يكنْ هناكَ وقتٌ لِوداعٍ العم علال، غادرتْ سلمى دونَ أنْ تُخبرَهُ بما حدثَ. غادرتْ، تارِكةً العمّ علال وحيدًا في صراعهِ معَ المرضِ. شعرَ العمّ علال بِفراغٍ كبيرٍ، وفقدانٍ عميقٍ.
ازدادَ ألمُ العمّ علال بِسببِ غيابِ سلمى، وباتَ يتألم أكثر وأكثر لكن في صمت، حتى سيطرَ الاكتئابُ عليه، وباتَ يُعاني منْ أعراضٍ نفسيةٍ صعبةٍ. أصبحَ منعزلًا عن العالمِ، لا يُريدُ التواصلَ معَ أحدٍ. ولم يكن هناك من أحد ذي نفع. صارت تُخيّمُ سُحبٌ داكنةٌ على بيت العمّ علال المتواضع حد الكآبة، تارِكةً إيّاهُ في عتمةٍ دامسةٍ.
قبل متم الأسبوع على غياب سلمى الاضطراري، أطلّ العمّ علال منْ نافذةِ بيتهِ على المدينةِ النائمةِ. لامست أنظارُهُ الأضواءَ البراقةَ، لكنّهُ لم ير فيها إلّا ظلامًا يُحيطُ بهِ منْ كلّ جانبٍ.
– “ماذا لو أنه حياتي بنفسي بدلا من أن ينهيها الداء بعد تضاعف الألم؟” فكر علال بِمشاعرٍ مُتضاربةٍ منْ خوفٍ وندمٍ وحزنٍ ويأسٍ.
صحيح أن كثيرا ما يُصبحُ الموتُ الملاذَ الوحيدَ منْ كل عذابِ.
في لحظة عاد سكون فظيع يؤثث عتمة الوجود في تلك الليلة. وفي الفجر التالي، فوجئ المارةُ والجيرانُ بِقطط جائعة تتناوب وغرابيب على نهش جثة محطمة مُلقاة على الأرضِ.
عبد الغفور مغوار – المغرب