أخبار عاجلةدراسات ومقالات

الروائي فرج محمود يكتب القاتل وحفيد المقتول عند نشأت المصري

القاتل وحفيد المقتول عند نشأت المصرى…. ..بقلم الروائى الناقد فرج محمود
إنها مسيرة قاتل بلا شك ،على أن حفيد المقتول عالق فى شخصيته ،بل ممسك بتلابيبه.هذا المدخل، الجدير بالولوج ل عالم إجرامى فى محضر محاكمة ،قدتم طرحه فى عمل روائى يضج بالأحداث والشخصيات .مع ذلك يشيع فيه روح المحاكمة فى ردهات التاريخ .أميز مافى البناء الروائى هو إنشاء مايليق بمعرض فنى به عدد من اللوحات وصلت الاحدى عشر لوحة واستغرقتها الخطوط الزمنية تقريبا بنفس العدد .استقرت اللوحات على حوامل فى ارتفاع عين المشاهد ،تتحرك فيها الخطوط التى ترسم مشهدا دراميا أو حواريا أو معركة حربية غير مكتملة الملامح .فى العموم عمد الكاتب إلى ترك الحدث والشخوص والمآلات والعلة بلا اكتمال لأن الماضى أو التاريخ صار فى حكم المعرفة المتاحة ،وعلى القارىء أن ينهض بنفسه بملىء الفراغات .حتى لو ظهر هنا أو هنااك أراء للكاتب وتدخل فى السياق فمرجعه إجازة كونه حفيد المقتول ،وموقعه محاكمة القاتل .وبونابرته فى حكم القاتل.هذه أمور مجملة تحتاج لشىء من تفصيل .


لا يمكن الايماءة لما يتضمنه العمل الروائى من تداخلات ومفارقات قبل التخلص من جرعة الاعجاب التى خلفتها القراءة .الملفت فى اللوحات هو براعة الممسك بالريشة ،فضرباته جاءت سريعة ،رشيقة ،تضغط أحيانا فتجيىء الخطوط بارزة ،ويخف الضغط فتخفت الألوان ويحتاج حينها المشاهد أن يحدق ويطيل التحديق.الذى لاجدال حوله هو وضوح لغة اللوحات وتمتعها بالنصاعة ،وأقصد هنا لغة السرد .لايمكن أن تمر بلوحة إلا وبونابرته هو الوجه الواضح ،والجسد الشائع فى طول اللوحة وعرضها ،بوجهه حاد الملامح ،وقامته القصيرة وألوان زيه وضحكته ولغته فاحشة أو متصنعة أو صارمة .أما فى خلفية اللوحات ستجد البحر والنهر والمدن بمآذنها ومساجدها ،ولاتنقص أى لوحة اشتباك هنا أو هنااك.ثمة لوحات يغلب لونها الداكن وأخرى يشيع فيها لون رمادى وثالثة باهتة الألوان .أما أرضية اللوحات فكذلك تتمتع بالفوضى اللائقة بانعكاسات الألوان المتباينة.ربما لازمت الكاتب فكرة حرمان العمل من شخصية محورية خشية الالتفات لما هو فى حكم الثانوى حدثا أو شخصا .إنها كما قلت محاكمة ،على الحضور الانصات لمافعل المجرم وكذلك التحديق فيه .تفوح رائحة الخوف من أن لا ينظر مشاهد اللوحات للأرضية “الأرض ،الوطن” فيترك الجريمة يجرفها التاريخ ،وتتحول إلى رماد حكايات .من هنا استدعى المجرم ووضع فوقه ركام الجريمة ،واكتفى بمشاهد الفوضى التى خلفها فى حفيد لازال عالقا بتلابية .
بعد هذه الجولة المبدئية فى معرض بونابرته ذى اللوحات الاحدى عشر نتوقف قليلا لنتعمق المشاهدة .
فى اللوحة الأولى يشمخ بونابرته بمجد بلده ،بالعلم ،ممسكا بمؤهلات قائد عظيم ،قاد حروبا وانتصر فيها .يناجى البحر ويحتفى به .من اللحظة الأولى يعلن عن دخيلته التى ستصير نهجا فى التعامل مع شعب يكيل له أسوأ العبارات ،ساخرا من ماضيه ومتحديا لمجده التليد .إنه العوار الذى يدلل على التصاغر أمام أمجاد العظام .فى الحقيقة أظهر الكاتب مدى ضعف وهوان هذا المتغطرس أمام مجد لايمكنه محوه.وارتأى الكاتب أن بونابرته أخفق فى كل محاولاته لطمس المتبقى من حضارة سادت العالم لقرون .حاول بفحشه ومركبات نقصه أن يطفىء نورا قادما من سحيق الزمن .نور يكشف غطرسته وعورة البشر الموجود بحكم قانون البقاء .بهذه الكيفية لن ينجو بونابرته ولاغيره ،فلقانون البقاء صرامته ،وهو نفسه ماجعل فرنسا تخرج من ظلام العصور الوسطى ومن حروب دينية طاحنة سميت بحرب الثلاثين عاما ،جعلها تواصل البقاء إلى أن لفظت بجانب العلماء والفلاسفة المجرمين ومقصلة التاريخ .


فى الواقع حاول حفيد المقتول أن يتسلح بالقيم الانسانية التى تليق بحفيد المجد فطهى وجبة تجعلك فى حيرة :لمن نكيل الاتهامات ؟!اللمعتدى أم للمعتدى عليه .وواضح هنا غرض الكاتب فى محاولته ،إذ جعل سم الوجبة لسان القاتل.وهل ندين القاتل لاعترافاته أم لأفعاله ؟ وماذا لو اعترض من باب أنه اعترف تحت القهر.ومن فى يده قهر الماضى وتحويله لبغيته غير المؤرخ ،وهنا ينجو الحفيد لأنه ليس مؤرخا ،إنما حفيد مقتول ،ومبدع يحاكم قاتل فى عدة لوحات فنية .
مما هو جدير بالملاحظة سعى الكاتب ألا يكون بعيدا عن تقديم أدلة شبه دامغة على الإدانة ،سواء ضد الشعب أو ضد الشخصية التاريخية .فلا التاريخ يغيب ولا أحداثه تنجو من المتبصر.وكاتبنا من ثم أولى الصدق عناية كبيرة فلجأ إلى المراجع وجعل الروائى فى حكم القاضى الذى يقرأ ملف الجريمة من منظور إنسانى ،بل ويحوز المتعة التى لا يبوح بها لأحد.جعلنا نرى بونابرته رؤية العين بعدما أعاد نسج الحدث واللغة ،لغة الشخصية ،بل منحها حرية الدفاع عن نفسها أحيانا .يقول نابليون كأنما يتدرع بالتاريخ والمنطق:
“دولة لاتطور سلاحها لاتستحق الحياة …تخيل يابرتييه ان عصابات الهكسوس حكمت مصر قرنين من الزمان وسأفعل مثلهم .ص٣٠
فى ذات الوقت يسوق بونابرته نهجه الجديد القديم ،بل نهج بلاده ،يسوقه لينسحب ليس فقط على الشرق ،بل على أوروبا نفسها،إذ هو نهج وطبيعة يعملان لبناء مجد دولته فرنسا .يقول بونابرته فى صفحة٣٢ :الفرنسين الذين هم أجدادنا حاصروا ١٢٠٣ حصن شاتوجيلارده الانجليزى أكثر من ثلاثة أشهر حتى خرج أكثر من ألف طفل وعجوز بحثا عن طعام فما رحمهم القائد الفرنسى فيليب أغسطس..ليسبح الناس بحمد فرنسا .وأنا لن أكون أقل قسوة منه ..وفى شبه مناجاه ينادى المصريين “تأهبوا أطفال مصر وعجائزها سيأكل بعضكم بعضا “٠انطلاقا من هذه الضربات المحسوبة لريشة الفنان جاءت اللوحات الاحدى عشر لتسد فراغا ارتآه الكاتب يهدد الذاكرة الجمعية المعرضة للخداع أو الوقوع فى شراك الوهم .توسل الكاتب لتعميق مشاهده بخبرة فى الكتابة وفرت له اصطناع المشهد أينما وكيفما يعن له .وجعل القطر المصرى قماشة للوحاته ،وعمل على توزيع المشاهد بحسب سريان الحملة دون تقديم أو تأخير .وكذلك شاهدنا حرصه الابقاء على التتابع الزمنى .أراد بظنى تنظيف مجرى الأحداث من اى اعاقة ،فكان كمن تخلص من أى أشجار على ضفتى المجرى لتتضح الرؤية ،وبذلك ينتزع من القارىء أى زريعة تلف رؤيته بالغموض أو الابهام ..وهذا مما يرفضه!
ربما يستشعر القارىء شيئا من الحيادية فى التناول ،بل وحيادية فى اللغة أو فى السرد .لو استسلمنا لهذه النظرة نكون تعرضنا لخديعة أشبه برؤية سطح الماء لامعا لقوة الشمس ،غافلين مايمور فى الأعماق. وأسوق مثالا على سلاسة الاسلوب ورصانته وكذلك تألقه فى مناطق تحتمل ذلك . يقول بعد اقتحام الأزهر :انتفخت أوداج الجنرال بون وازداد وجهه احمرارا وافتخارا ، بينما دمعت عيون السحاب المشتعل غيظا وحزنا واحترق تراب الطريق وتلاطمت أهات الرياح لحجم دماء الشهداء ولسحق شرف الأزهر بحوافر الخيول ،تولول الجدران :كلا يامصرين العلم فريضة فلماذا آنستم الجهل ؟!ص٨٠
بهذه الكلمات المحفورة فى لحم التاريخ يجعلك الكاتب أمام لغز حقيقى ،فلا الصيحة وصلت ولا أخرج الشعب المصرى مايجعله يتوقف عن النداء برسم لوحاته البونبارتية .وأنهى جولتى وأنا أستحضر لغة العصر ؛إذ لازمتنى الصيغة الجديدة فى الطهو ونوع الوجبات .ثمة مانسميه اليوم “فاست فود”..أو الوجبات السريعة ..وجبة تحتوى على مقومات الغذاء ،وتغنى عن الجلوس وانتظار وجبة فى مطعم أو منزل .فقد أراد الكاتب جعلها وجبة سريعة ،لها روادها ،مثلما أن الوجبات العادية لازالت تحظى بجمهورها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى