سليم النجّار يكتب “رفع ستار الغراب”
تكاد الحياة تتلخّص في البحث عن الحبّ، والبحث عن الطمأنينة. والتخلّص من أرق أسئلة الوجود التي تطرد النوم من العين والروح. لعلّ الحياة بحث دائم عن الخلاص. عن الأمان
قصص يوسف ضمرة لا تنتهي، وهي تتناسل ولا تتشابه، في مجموعته القصصية “فالس الغراب”، هي قصص لا تنتهي، ويمكن أنْ يحرِّر حكيُها شعبا بكامله.
يوسف ضمرة يقصّ في صيغة سؤال: هل صحيح حقيقة من شبّ على شيء شاب عليه؟ أم أنّ الوسط يذيب عناصر الغريزة، ويغرس بذوره الخاصة؟ كما يطرح القاص فكرة الوسط، التي تجلّت في قصة “أغنية وضريح”، “جاؤوا، شيخ مغربي أخبرهم بعد أنْ حرث الأرض بعود في يده، أنّ جنيّة أحبّت الرجل، وسكنت داخله، ودُفنت. وأنّها تخرج ليلاً فتسمح الآية القرآنية وتكتب الأغنية. “والعمل؟” قال الناس. قال الشيخ: “احضروا القبر ودمّروا الضريح واحرقوا الجثّة لكي تحترق الجنيّة التي فيها”. فعلوا ذلك بالتفصيل وعادوا إلى منازلهم. لكنّهم في الليل استيقظوا على صوته الأجشّ يغنّي “يم العباية، حلوة عباتك” ص58″.
يمكن القول إن ظرفية قراءة قصّة “أغنية وضريح” لها منهجيتها تمليها شروط موضوعية مرتبطة أساساً بنوعية القصّ وسياقتها، ما يضفي صفة الخصوصية على أي قراءة انطلاقاً من أهمية المضامين والأفكار التي يأتي بها القاص.
وإذا كانت الكتابة بصفة عامّة تعتبر إبداعًا، فإنّ الشعور بقيمة هذا الإبداع لا يتمّ إلاّ بعد قراءته وتحليل مضامينه، وبعبارة أخرى، فإنّ الوصول إلى لذّة النص، بمفهوم رولان بارت، لا يحصل إلاّ بعد أنْ يصبح ملكًا مشتركًا بين جميع القرّاء، ومن ثمّ يتفاعلون معه من خلال فتح نقاش نقدي مع أفكار القاصّ الذي طرح أفكاره في قصّة “حبَّة خوخ”، شكّل متن القصّة المصدري المتنوّع بمفرده كافيًا للقيام بتحليل قضايا مرتبطة بوضع تصوّر حول خريطة القاصّ الاجتماعية، “وحين سمع “أفعى.. أفعى” فوجئ بنفسه وحيداً فوق قبر لم يُنجز تماماً ص39″.
السؤال هل وظف القاص بعض أدوات المنهج الإحصائي، (السمع- الأفعى- القبر-)، ليصل إلى نتيجة أنّ الإنسان أمام الموت يبقى وحيدًا؟
أم كان “يوسف ضمرة” على دراية بالخريطة الإثنية والبشرية لمدينة عمّان؟ كما قصّ في قصّته “أغْربة عمّان”، “أصبحت مشكلتي تتلخّص في خوفي من الثعبان الذي سيأتيني عاجلاً أو آجلاً ص17”.
كما يصطدم القاصّ بالزمن الراهن عمومًا بغياب المادة الأولية المشكّلة لمادة البحث الاجتماعي التاريخي، لقصر زمن القصّة القصيرة، وثانيًا المسافة الزمنية للسرد القصصي، وهنا لا أتحدّث عن التكثيف، فهذا موضوع آخر ومختلف، بل أذهب للزمن بوصفه يُشكِّل الشخصية القصصية في المتن القصصي، أي يقوم القاصّ بتسجيله لجوانب اجتماعية وإنسانية من واقع التصاقه الحميم بهم، والتي لا تسجّلها عادة أيّ نصوص وثائقية، فالقاصّ يركّز على تفاصيل الفعل الإنساني الميداني كما نقرأ في قصّة “هل تُحبين شتراوس؟” “لم نكن نفكّر في شيء كهذا. فقط قالت بأسى حفيف إنّها تتمنّى لو كّنا نعيش في بلد آخر، وكنّا على رصيف المقهى نفسه الذي أشير إليه دائماً٠ فجأة سألتُها إنْ كانت تملك ما يكفي من المال لأسبوع فقط في ألمانيا ص117”.
أصبح زمن القصّة “هل تُحبين شتراوس؟” الهاجس الأساس للمكان، وهو زمن المجال الحُرّ لاختيار الإنسان للمكان الذي يختاره، بشرط توفر ظرف موضوعي “المال”، تبقى هذه المقارنة بين المال والمكان صعبة جدَّا، بسبب تباين السياقات الاجتماعية القيمية ويبقى السؤال الحاضر: لماذا تمّ اختيار مكان بعينه؟ ويتبعه سؤال آخر: هل مارس القاصّ خدعة يتقبلها المتلّقي بسعة صدر؟ عندما أدخل في العنوان “شتراوس”؟ ربّما.
ليُفتح أمامه نصّ مفتوح على كلّ القراءات.
يحلينا هذا على التساؤل عن إمكانية الانتقال من زمن قلق إنْ صحّ التعبير لزمن جغرافي كما هو حاضر في قصّة “عزلة المطر”: “الرجل الذي أشفق على رجل ستيني مثلي تغزوه الأمطار، أدخلني إلى منزله ص111”. فالمطر هنا هو زمن محدّد، والقاصّ دمج بين المطر والقيمة الاجتماعية، كفكرة قابلة لقراءة الصورة، التي يمكن تخليها المتلقي، كما أنّها تبدو لحظة إنسانية، لكن هذه الصورة مفتاح لمفارقة صنعها القاصّ على أربع مراحل: “صعقني وهو يرتدي ملابسي التي جفَّفها”، والثانية “وجلس قبالتي”، والثالثة “قال بامتعاض: هل يمكن أنْ تكفَّ عن الابتسام المبتَذَل هذا؟” والرابعة “ركضتُ نحو الباب وفتحته وخرجتُ راكضاً تحت مطر غزير ص114”.
هذه المفارقات التي قصّها يوسف ضمرة، هي سلوكيات ترتبط بزمن متغيِّر، وقيم تتغيّر بفعل الزمن الذي نحيا فيه، إنّه زمن متحرِّك، استطاع القاص خلق من الساكن والثابت عبر العصور “المطر”، أي الجغرافيا، مع أداة متحركة الزمن، كأنّ قصّته تقول إنّ الزمن متغيِّر ومتقلِّب، وليؤكِّد ما ذهب له صنع صورة مفارقة، وكان نجاتيف الصورة القيمة الاجتماعية.
قِيل إنّ السفر عبر الزمان ضدّ المنطق، وقِيل أيضاً أي منطق؟ ربّ شذرة لغويّة قد تدفعنا إلى إسقاط جلّ المناهج النقدّية وعقد مخاتلة رؤيوية إزاء قصّة “تلك هي الحرب” خارج نطاق “العقل العاهر” – بعبارة نيتشه، بوصفه عقلا أدائيا، يقوم بوظيفة تبريرية، أمّا وكيف؟ فربّما نفكّر في السّفر ضدّ الزّمان، بمعنى الانقلاب على عنكبوت الوقت، كما سرد يوسف ضمرة في قصّته “تلك هي الحرب”،” صرخت ميرنا في وجهه بانفعال نادر: أعرف أنّها الحرب، وإلاّ كيف يموت هؤلاء الناس وتقطع أرجلهم وأيديهم إنْ لم تكن الحرب؟ ص42″. يمكن القول إنّ شخصية ميرنا، بما هي الآن تلعب دورا كما لو أنّها الشاهد، ويستحيل أيضا فهم أبعادها إلّا أنّ متابعة مسار القصة “قال باكياً حرام عليكم، أنا كلّ ما أردته فقط هو أنْ أجمع مقداراً من المال لإرسال أمّي إلى العلاج في الخارج، بعد إصابتها بقذيفة سبّبت لها الشلل الكليّ.
تمتمت ميرنا بأسى: “تلك هي الحرب” ص43″.
ثمةّ إذن كيان ما، مجهول غامض سحب شخصية ميرنا إلى القول “تلك هي الحرب”، جرّدها من آدميتها وجعلها مجرّد لسان مدرّب على القول “تلك هي الحرب”.
ربّ سؤال يقذفنا هو الآخر إلى تنشيط سؤال جديد: لماذا تمّ إزهار روح ميرنا بهذا القول؟ ربّما لا نجد وصفاً منطقياً عن حياة هذه الشخصية وكينونتها، إلاّ في قصّة “وهم”، التي قامت على الفرضيات والاحتمالات، “كان كلّ ما تمكّنت زوجته من قول موتها: هو، هو، وأشارت بإصبعها إلى أعلى. فهم الجميع أنّها تقصد الله، بينما الكاتب واقف على الشرفة، يشرب قهوته ويواصل تدخين سجايره كعادته! ص89”.
لا يمكن في سياق كتابة قصّة من هذا النّوع، معرفة جلّ أبعاد الشخصيات ولا حتّى الظّفر ببنية الخرافة من حيث حبكتها الدرامية، فهي قائمة على مفهوم “البتر”، إذْ يتمّ في كلّ مرّة فصل الحقيقة عن كلّ فاصل قصصي لا يفصلها عن اكتمالها، كما يصبح من المستحيل التنبّؤ بمسار الأحداث أو عقد روابط منطقيّة فيما بينها، ففي اللحظة التي خلنا فيها أنّ شخصيّة “ميرنا” الوهمية هي شخصية “الكاتب”.
لقد خدعنا القاص يوسف ضمرة فعلا، إذ قدّم لنا مجموعة قصصية بشكل عكسيّ، ولا نعتقد أنّه ثمة تفسير لذلك إلا بغاية ضرب من الالتباس والتعقيد، تكون رمزيته متعلّقة براهننا بالغ الغموض٠