عفيف قاووق يكتب قراءة في رواية “هناك في شيكاغو”.
صدرت العام 2020 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع –عمّان رواية”هناك في شيكاغو” وهي باكورة أعمال الروائية الفلسطينية هناء عبيد والمقيمة في شيكاغو.
تبدأ الكاتبة روايتها من عمّان لتنتقل بعدها ومعها إلى هناك في شيكاغو ثم تعود لتحُطّ الرحال في عمّان مرة أخرى. أمّا الشخصية الرئيسة في هذه الرواية فهي الساردة نسرين الفتاة الفلسطينية التي ولدت في القدس وهُجرت مع أهلها لتقيم في الأردن.
اعتمدت الكاتبة في هذه الرواية تقنية تعدد الرواة أو الأصوات بحيث أفردت لكل شخص من شخوصها المساحة اللازمة له للبوح بما يشعر وتبيان رؤيته للأمر المتعلق به. وهذا ما يجعل الرواية أكثر التصاقًا بالمتلقي لأن الأحداث التي تُذكَر جاءت على لسان أصحابها دون تدخل من السارد، كما ان تعدد الرواة في الرواية يعطيها نكهة خاصة تبعدك عن الملل الذي يُحدثه السرد لو كان على لسان راوٍ واحد. فالراوي الأحادي السرد والكلام والرؤية، يحرم الشخصيات من قول ما تريد بشكل عفوي.
تشيرالرواية إلى بداية نشوء حال من الحبّ والمودّة بين البطلة نسرين والشاب ثائر علاقة إنتهت قبل أن تبدأ نتيجة عدم إفصاح والدها عن سبب رفضه لثائرالذي إلتقى صدفة بنسرين في معرض للكتب في عمّان، وتسابقا لإلتقاط آخر نسخة من ديوان محمود درويش. وهنا نسأل لماذا إستحضرت الكاتبة شخصية محمود درويش لتكون مدخلًا لبداية أحداث روايتها؟. فيأتينا الردّ على لسان نسرين عندما سُئِلت عن سبب إختيارها لأعماله فتقول:” ربّما لأنّي أتوق أن أُحلّق بعيداً نحو الوطن لأعانق دحنون براري القدس ولأتذكّر طفولتي الشقيّة أو ربّما إشتقت إلى حلوى جدّتي المخبأة بجيب ثوبها المطرّز”(ص19). وكأنّها تريد القول أن محمود درويش هو الأيقونة الذي بأعماله أصبح مرادفًا للوطن فمن يشتاق لرؤية فلسطين فإنه يراها في هذه الأعمال.
في هذه الرواية وفي أكثر من موضع يظهر جليًا التعلق بفلسطين أرض الآباء والأجداد، فمثلاً تصف نسرين والدها بأنّه “هو القدس بنورها وشعاعها، وهو الذاكرة التي لا تخبو بين طيّات الأزمنة المتقلبة، إنّه الأرض الموسومة في القلب وفي يديه ترتسم خريطة مدينتي”(ص28). وفي موضع آخر وتحديدا في الصفحة(98)، تبث ما يختلج في صدرها من حنين إلى الوطن السليب ففي رسالتها أو مناجاتها المتخيلة مع حبيبها ثائر تقول:”إشتقت لرائحة برتقال حيفا وشمس القدس وتراتيل شيوخ الأقصى، إشتقت إلى القدس العتيقة”. وحتّى عندما هاجرت إلى شيكاغو حملت في حقيبتها نسخة من القرآن الذي كان والدها يقرأ به إضافة إلى سجادة صلاة أمها وثوبها المطرّز ناهيك عن الكوفية الفلسطينية (66).
… في معرض حديثها عن والدها المتوفي تُقدّم لنا نسرين صورة شاعرية مفعمة بالعواطف الإنسانية حيث تقول :”لماذا يختار الموت كل شيء جميل؟ الآن فقط عرفت معنى الموت الذي هو ليس لمن يغادرنا بل الموت لنا نحن حينما نتتبع خطوات من غادرنا ونعانق ملابسهم التي إلتصقت بهم يومًا”(ص46).
القضية الأساس في رواية “هناك في شيكاغو” والتي حاولت الكاتبة الإضاءة عليها هي مسألة الهجرة والإغتراب سواء الهجرة الطوعية او القسرية . مشيرة إلى نوع من الصراع الداخلي الذي يعصف بالمهاجر الذي إنسلخ عن موطنه وحنينه الدائم له، لذا نجده عندما يرحل يختار مدنًا يقطنها من تعطّر برائحة الوطن.
إمتازت الرواية بأسلوبها السّردي والمتناسق كما أن اللغة الشعرية والمحسنات البلاغية لم تغب عنها، وأيضا جماليات الوصف ودقته. ومع ان معظم فصولها كُتبت باللغة الفصحى إلا أن الكاتبة ولإضفاء نوع من المصداقية والواقعية كانت تلجأ إلى اللغة المحكية وخاصة في جلسات الدردشة او الثرثرة للنسوة الفلسطينيات خلال إجتماعهن، أو في اللقاءات الثنائية التي تجمع بينهم وهذا برأيي يُضفي على مثل هذه الجلسات والحوارات صدقية لا بأس بها ويبعدها عن أي تكلف.ولقد أتقنت الكاتبة رسم البناء الدرامي لروايتها وزينتها بلمسات او شذرات من اجناس أدبية متنوعة حيث نجد فيها الكثير مما يمكن إعتباره بأدب السيرة وبعضا من الأدب السياسي المقاوم، وايضا القليل من أدب الرحلات ناهيك عن إشارة ولو بسيطة إلى نوع من أدب الرسائل الذى تجلى في الرسائل المفترضة او المناجاة التي لجأت إليها نسرين لترجمة عواطفها وإشتياقها لحبيبها ثائر.وسنحاول الإضاءة ولو لماما على بعض ما حملته هذه الرواية من إشارات ومدلولات.
– في الأدب السياسي المقاوم قدمت لنا الرواية شخصية ثائر بأنه الشاب الفلسطيني الذي يشارك في المظاهرات المناهضة للإحتلال، وهذا ما أدى إلى بتر إصبع يده اليمنى نتيجة رصاصة مطاطية أصابته، ورأت نسرين في هذا الإصبع انه بمثابة المطرقة التي تدقّ الضّمائر التي إندثرت لتوقظها وتعيدها إلى رشدها.(ص27).
وخلال تواجدها في شيكاغو واللقاء الذي جمعها بالمرأة اليهودية مادلين الذي يدرس إبنها في حيفا رأت صورته وكان مستلقيًا على رمال شاطئها، تشعر نسرين بالغيظ لعدم إستطاعتها الإستلقاء على رمال بلادها بينما “غريب الدّاريفترش رمالها”، وفي معرض ردّها على مادلين لإثبات أحقية الفلسطيني بأرضه وتشبثه بتراثه تقول في الصفحة( 108):” هل نحن سراب ؟ لو نبشتِ القبور لوجدتِ عظام أجدادنا من آلاف السنين، ومن يتنازل عن شيء صغيرسيتنازل عن الأكبر منه، فالأرض لنا وتراثنا سنحتفظ به إلى آخر العمر”.
كما ان السلام وما يروج له كان حاضرا في نقاشاتهما، فمن منّا لا يعشق السلام –تقول نسرين- لكن هل السلام يعني تشريد شعب من أراضيه؟ وهل السلام يعني أن يعيش شعب بأكمله بالمخيمات محرومًا من العودة إلى أرضه؟”(109).
في موضع آخر لخصّت نسرين حال المدن الفلسطينية وعذاباتها عندما قالت لزميلها في الكليّة:” مدينتي تبكي بؤسها، تبكي أهلها التائهين في المنافي وأروقة الغُربة، مدينتي تستجدي نخوة من خطفتهم أضواء الكراسي وبريق المعادن”(105).
لم تغفل الكاتبة الدور المهم والمشبوه للإعلام الممسوك من قبل الأقوياء ومدى مساهمته في طمس الحقائق وتزوير التاريخ، فمعظم الإعلام لا ينقل حقيقة ما يتعرض له الأبرياء الذين يقتلون يوميًا بأيدي بطش الصهاينة،حتَى أن هذا النوع من الإعلام استطاع إقناع هيما الهندية صديقة نسرين بأن فلسطين هي أرض لليهود ولهم الحق بالعيش فيها ولا تفقه شيئًا عن الفلسطينيين سوى أنهم مجرد قتلة إرهابيين.(161).
كما أن الكاتبة وإستنادا على قصة سعيد النحّاس واللغط الذي رافق مقتله حيث ان الكثير من الناس يعتبرونه خائنا ومتعاملا مع العدّو لتكشف حقيقة براءته أخيرا، لقد ارادت الكاتبة ربما من خلال إثارة هذه القضية القول أن هناك قلة قليلة من الفلسطينيين – هذا إن وجدت- إنحرفت عن مسارها وإنجرفت في تيار العمالة وبالتالي لا يمكن التعميم كما تقول أم حسين: “الخونة موجودين وين مكان بس قلال، في كلّ بلد الصّالح والطّالح، لكن الصّالح دايمًا هو الباقي، ما في بيت في فلسطين إلّا وفيه بطل يا استشهد او انأسر أو نُفِيَ خارج بلده حتّى أطفالها أبطال.(209).
– أمّا فيما يشبه أدب السيرة فلا يحتاج القارىء لبذل الجهد ليستشرف ان في هذه الرواية بشكل أو بآخر بعضاً من ملامح السيرة الذاتية للكاتبة سيما وانها الفلسطينية المقيمة في شيكاغو وهذا ما مكّنها من تقديم رواية مكتملة الأركان فيما يخص اليوميات المعاشة للمهاجرين وتحديدا الفلسطينيين منهم، وكانت المرأة حاضرة في هذه الرواية بنماذج متنوعة، فإلى جانب الساردة نسرين– والتي هي إمرأة- حضرت كل من الفلسطينيات المهاجرات فاتن،سهاد،أم لطفي، حنين، إم حسين وغيرهنّ من جنسيات أخرى. وقد قدّمت كل منهنَّ رؤيتها وخيباتها في -أرض الأحلام المزيفة- بلاد الإغتراب. كما أظهرت الرواية المعاناة والضياع الذي يعصف بالأسر العربية هناك نتيجة لظروف الحياة القاسية حينا ومغرياتها وأحلامها حينا آخر، وكيف أنّ الحاجة أو الرغبة في الحصول على الجنسية او الإقامة الدائمة في أميركا غالبًا ما تكون سببًا رئيسيا في تفكك الأسر والعائلات وتشتتها، فهذه فاتن التي هاجرت مع زوجها إلى أميركا ظنًا منهم أنّ الحلم سيتحقّق هناك، لتكتشف بعد ذلك ان الحلم بقي هو الآخر “هناك” من حيث أتت وأصبحت حياتها الزوجية في مهب الريح بعد أن راودت زوجها هاني فكرة الزواج من سيدة أميركية بغية الحصول على الجنسية. ولم تكن أم لطفي القادمة من الخليل بأفضل حال من فاتن، إذ انها هاجرت مع زوجها إلى شيكاغو وبدأت تعمل في تجهيز المأكولات الفلسطينية والعربية لتبيعها للزبائن، وفي النهاية تزوج زوجها أبو لطفي من إمرأة أميركية تصغره بعشرات السنين.
يستطيع القارىء أن يلمس مدى التخبط والضياع الذي تعيشه الأسر العربية المهاجرة وكأنه صراع الهوية المفقودة أو البحث عن الذات، فبالرغم من رغد العيش النسبي في المهجر إلاّ انّ الحنين لا زال مرافقًا لمن إقتلع من أرضه ووطنه، وقد عبّرت نسرين عن هذا بالقول:”موجعة آلامنا حتّى لو طالنا بعض من رغد ورفاهية عيش،الحزن يسكننا منذ أن ولدنا، بعضنا ولد في أرض الجذورلكنه يعيش المنافي والتّشّرُد فبات من الصّعب أن ينعم بدفء حقيقي. وقد لخصّت أم لطفي هذا التخبط بقولها:” مجنون اللّي بترك أرضه عشان يلحق سراب، اللّي بطلع من داره متل الضّرس اللّي ينخلع بترك وراه وجع كبير من أوّل ما خطّت رجلي على تراب هالبلد وأنا قلبي مقبوض (130).
الرواية في بعض فصولها لامست “أدب الرّحلات” دون الغوص بكافة عناصره، نظرًا لإقتصارالكاتبة على وصفها لبعض الأماكن السياحيّة وتحديدا للأماكن التي قُيض لها زيارتها مثل: ديربورن وهي أشبه بمدينة عربيّة بكل مواصفاتها وتعتبر بحق عاصمة العرب في أميركا لكثافة الجاليات العربية فيها، ويبدو أنّ الكاتبة لم تنسَ كونها مهندسة لذا نجدها تحدثنا عن زيارتها إلي بيت أشهر معماري عرفته شيكاغو وهو فرانك لويد رايت، كما ذكرت أيضا حديقة البتانج جاردن، وأجادت في وصف مدينة شيكاغو وشارع هارلم الذي تكثر فيه المتاجر العربية، ثم عرجّت لتصف لنا نافورة باكنغهام وبحيرة ميتشغان المترامية والمنتمية إلى أربع ولايات أميركية. هذا الوصف الموجز قدَّم ولو نذر يسير من المعلومات لمن لا يعرف شيكاغو التي إحترقت العام 1871 بسبب بقرة رفست الفانوس في الحظيرة.
ختاما لا بد من التطرق لعنوان الرواية “هناك في شيكاغو” بالرغم من انها تروي يوميات جرت في شيكاغو وبلسان قاطنيها، يبدو ان الصراع النفسي والبحث عن الذات كان الهاجس المهيمن على كافة شخوص الرواية سيما الفلسطينيين منهم، لذا فإن الفلسطيني المهاجر لم يشعر يومًا بالإنتماء إلى هذا البلد الغريب وبقى منجذبًا إلى بلده الأم فلسطين، فإذا كان الجسد موجود “هناك” في شيكاغو فلا تزال الروح تنزع نحو الجذور باتجاه هنا فلسطين. لذا كانت نهاية الرواية ذات دلالات عميقة ومعبرة حين قررت نسرين بعد تخرجها العودة إلى الأردن توأم بلدها وجاره الأقرب وهي تأمل أن يكون حبيبها ثائر بانتظارها. نهاية تشير بشكل أو بآخر إلى أن العودة إلى أرض الوطن هي حق لا بُدَّ منه كيف لا وهو يشكل حلم كل فلسطيني خارج أرضه.
“هناك في شيكاغو” رواية جديرة بالقراءة والإقتناء ولا شك ستشكل إضافة للأدب العربي والفلسطيني، فمبارك للأديبة هذا الإصدار وإلى المزيد من الإبداع والتألق.